الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سقوط هيبة وفكرة النظام.

رائد الدبس

2011 / 2 / 3
مواضيع وابحاث سياسية


واحدة من الصور الكثيرة لثورة شباب مصر في ميدان التحرير، تظهر شاباً مصرياً جالساً على أرض الميدان وقد أعياه التعب، يرفع يافطة كتب عليها : "إرحل بقى إيدي وجعتني". ومن الأمور المعروفة، أن الثورات الشعبية بقدر ما تصنع تحولات تاريخية جدية في حياة الشعوب، فإنها تحفّز روح الفكاهة والسخرية السياسية الشعبية أيضاً.. ما استوقفني في هذا الشعار البسيط ، ليس روح الفكاهة الشعبية والسياسية المصرية المعروفة فحسب، بل ما يحمله من دلالة شعبية ساخرة ليس لها بالمعنى السياسي إلا مضمون واحد هو سقوط هيبة النظام وفكرته من عقول الناس.

الهيبة والفكرة بالنسبة لكل أنواع النظم السياسية والدول عبر التاريخ البشري كله، هي من أهم مقومات القوة الناعمة التي تؤمّن شروط استقرار العقد الاجتماعي بين النظام والشعب، على قاعدة الاقتناع والرضا والقبول الطوعي بالنظام واحترامه. أي ذلك النوع من الاقتناع والاحترام الخالي تماماً من كل عيوب الإكراه والقوة. وعليه فإن كل نظام سياسي يحتاج لفكرة تسنده ويستمد منها شرعية أوليّة يتمّ البناء عليها واستكمالها عبر المنظومة السياسية والقانونية المعروفة التي تتمثل في الدول الحديثة والديمقراطية بمبدأ فصل السلطات الثلاث عن بعضها، ومبدأ التداول السلمي للسلطة عبر انتخابات حرة ونزيهة محددة الآجال الدستورية وغير ذلك. هذا هو ما يضمن استقرار العقد الاجتماعي ويحمي الأنظمة السياسية للدول الحديثة والديمقراطية.

ومن التجارب السياسية الحديثة والقديمة المعروفة على نطاق واسع، أن أضعف الأنظمة السياسية يمكن أن تحميها من السقوط فكرة جامعة ومقنعة لشعبها، وأن أقوى الأنظمة وأكثرها جبروتاً واستبداداً، يمكن أن يسقطها غياب تلك الفكرة الجامعة والمقنعة لشعبها. تلك هي دروس التاريخ السياسي لكل أنواع الدول عبر التاريخ. ولعل أبلغ الأمثلة الحية على ذلك، هو سقوط أنظمة الاستبداد الشمولي التي انهارت في الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية قبل عقدين من الزمن. الدرس الأهم الذي أمكن استخلاصه من تلك التجربة، هو أن تلك الأنظمة سقطت برغم قوة البوليس والجيوش والأيديولوجيا، لأن فكرتها وهيبتها في عقول وأنظار الشعوب، كانت قد سبقتها إلى السقوط.

نظام الرئيس التونسي المخلوع بن علي، لم يكن يحكم باسم أيديولوجيا أو قضية معينة، ولم تكن قوة نظامه تصل إلى مستوى قوة نظام تشاتشيسكو أو غيره من حكام دول أوروبا الشرقية سابقاً، لكنه سقط أيضاً لأن فكرة الاستقرار والازدهار التي روّج لها عقوداً من الزمن، كانت قد سبقته إلى السقوط . وما يحدث الآن في مصر، يظهر بوضوح، أن فكرة الاستقرار والأمن والأمان التي عاش عليها الرئيس مبارك في حكم مصر لثلاثة عقود، قد سقطت.

منذ يوم 25 يناير- 2011 وخلال الأيام التي تلته، كان الرئيس مبارك يحاول شراء الوقت والعناد. خطابه الأخير هو دليل على ذلك. حيث قدم فيه بعض الوعود الإصلاحية قبل الوداع القادم لا محالة سواء بعد أشهر كما قال أم بعد أيام أو ساعات. لكن مشكلته تكمن أمريْن : أولاً أن هذا الخطاب تأخر سنوات طويلة وتجاوزته الأحداث الراهنة. ثانياً صعوبة الحصول على ثقة الشعب بهذه الوعود الآن. وقد كان المتوقَّع والمأمول منه أن ينهي خطابه بتقديم الاستقالة نزولاً عند رغبة شعبه، لكنه لم يفعل ذلك لأنه لم يفهم الشعب. وعندما شعر أن خطابه لم يقنع شعبه، واصل عناده وإصراره على عدم الفهم. ما حدث اليوم في ميدان التحرير من هجوم بالخيول والجمال وانفلات لعصابات البلطجة على مرأى العالم كله، قد أظهر جلياً أن فكرة النظام وهيبته قد تلطخت بالوحل، وأنه غير مكترث حتى لو دفع البلاد إلى أتون حرب أهلية، وفوضى تهدد أمن واستقرار البلاد وتدفع بمصير شعبها العظيم نحو المجهول.

المفارقة السياسية الكبرى هي أن هذه هي المرة الأولى في التاريخ السياسي العربي الحديث التي تلتقي فيها رغبة الإدارة الأمريكية وتدخلاتها المباشرة ، مع إرادة جماهير عريضة من الشباب المستقل والشعب عموماً، على ضرورة تنحي رئيس أكبر دولة عربية. وفي هذه المفارقة دلالات ودروس وتحديات كثيرة لا تخفى على أحد.
أما المفارقة التاريخية الكبرى، فهي أنه خلال العقود الماضية كانت هنالك وجهة نظر تحمل قدراً كبيراً من المعقولية والوجاهة، تقول أن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قام بخطوة ذكية لكسب تعاطف الشعب عندما توجه بخطاب إلى الشعب المصري، أعلن فيه أنه يتحمل المسؤوليته الشخصية عن الهزيمة عام 1967وقدم استقالته الشهيرة. لكن رد الشعب المصري جاء سريعاً، حيث نزل إلى كل الشوارع والساحات، وملأ الميادين بما فيها ميدان التحرير تأييداً له ورافضاً استقالته. علماً أنه كان قد مكث في الحكم آنذاك 13 سنة. أليسَ الأوْلى بمن مكث في الحكم 30 سنة ولم يعترف بأي مسؤولية شخصية عن أي خطأ أن يستقيل نزولاً عند رغبة شعبه، وخصوصاً بعد أن سقطت الهيبة والفكرة؟ أم أن فهمه بطيء؟ ألا يتذكر ويقارن بين مشهد شعبه الذي ملأ الساحات والشوارع رافضاً استقالة رئيسه عبد الناصر، وبين هذا الشباب الذي يقول له اليوم : "إرحل بقى إيدي وجعتني" ؟
رحم الله الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. ورحم الله شاعرنا الراحل محمود درويش إذ خاطب مصر العظيمة ذات يوم قائلاً :

يا مصر، هل يصلُ اعتذاري
عندما تتكدّسين على الزمان الصعب أصعبَ مِنْهُ ؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حماس.. تناقض في خطاب الجناحين السياسي والعسكري ينعكس سلبا عل


.. حزب الله.. إسرائيل لم تقض على نصف قادتنا




.. وفد أمريكي يجري مباحثات في نيامي بشأن سحب القوات الأمريكية م


.. شاهد: شبلان من نمور سومطرة في حديقة حيوان برلين يخضعان لأول




.. إيران تتحدث عن قواعد اشتباك جديدة مع إسرائيل.. فهل توقف الأم