الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقاربة عن الثقافة العربية ، والثقافة السياسية بالذات

عزيز الحاج

2011 / 2 / 3
مواضيع وابحاث سياسية


لو نظرنا للثقافة العربية في هذه المرحلة بالذات، بكل فروعها، فربما صح القول بأنها ثقافة التخلف والعنف والانغلاق واستثناء الآخر والازدواجية. وهذا لا يعني نفي وجود الإبداع الفني لدى مبدعين ونتاجات فكرية ثرة وكتاب متميزين- لكننا إنما نقصد القاعدة الغالبة. والحديث عن المرحلة الراهنة.

إن هناك سمات مشتركة لهذه الثقافة، والسياسية منها خاصة، مع تنوع وتباين وفروق بحسب المجتمعات والدول.

إن الملاحظ في الثقافة العربية تمجيد مفرط للبطولات، كما نتصورها، أو كما نقرأ في الكتب أو نسمع، وهي عموما بطولة قراع وصدام وهدم، مما ينعكس على العمل السياسي أيضا. ولا تزال كتب التاريخ حافلة بالمباهاة ب" أمجاد" " أبطال" قادوا غزوات خربت وهدمت ديار الآخرين، وأحرقت مكتباتهم، وسبت نساءهم، وحولت الكنائس إلى مساجد. وفي العمل السياسي، في العراق خاصة، ولكن ليس عندنا وحدنا، هناك الانفعالية والتشنج، ونزعات إقصاء الآخر، واحتكار الساحة. وسبق أن تناولنا ممارسات الإسلام السياسي بهذا الشأن، ولكنه ليس منفردا في هذا المسلك. ونزعة العنف تنعكس حتى في مناقشات الأدباء والكتاب في قضايا ثقافية وأدبية بحتة؛ فكيف لا في المناقشات السياسية؟! فهناك يحمي الوطيس، وتستخدم أساليب التجريح والتأليب، وبدلا من مناقشة الفكرة، يجري التعرض لشخص الكاتب والتحامل الفج عليه. ويكفي أن نقرا جملة من التعليقات على ما ينشر في المواقع العراقية والعربية من مقالات لنجد هذه الظاهرة الصارخة، حتى بين العديد من الكتاب والمثقفين الذين مرت عليهم سنوات طويلة في قلب الديمقراطيات الغربية، فلم يستفيدوا من كتابها ومناقشاتها أساليب الحوار الهادئ و" المتمدن" والنقاش الموضوعي.

إن ممارساتنا السياسية- وهي تعكس ثقافتنا السياسية- وحتى بأفضل درجاتها، تحسن الهدم أكثر مما هي تفكر بالبناء- وأعني أننا نجيد المظاهرات والانتفاضات والثورات، ولكن دون أن نخطط لما يجب عمله بعدئذ- أي حين تكون موازين القوى لصالح الحركة الشعبية- وكيف نستفيد من الفرص المتاحة للسير نحو تحقيق الإصلاحات العميقة بصبر وبلا ارتجال، وبتوقع العقبات في الطريق.

إن الثقافة العربية السياسية تتسم بالانفعالية والتشدد في نقد الآخر ورفض النقد الذاتي كظاهرة غالبة- وإلا ما ندر. ولو تابعنا تطور الأوضاع العراقية منذ العهد الملكي، فالثورة، وما بعدهما، فإننا نادرا ما نجد حزبا أو شخصية سياسية، من المساهمين في الأحداث ومزالقها، قد اعترف صراحة وبكل وضوح بأخطائه، في حين تكون الحمية حامية في إلقاء كل المسئوليات على الآخرين. فالاعتقاد بأن كلا منا يمتلك الحقيقة المطلقة ظاهرة عامة، وتبرز ليس فقط عند الساسة والأحزاب، ولكن أيضا عند شرائح كبيرة من المثقفين العراقيين والعرب، فنحن نبرر عيوبنا ونتستر عليها ونجرّم الآخرين. أما تداول الأوصاف والألقاب الخشنة والمجانية- عميل، خائن، مأجور-، فهو عملة رائجة في الثقافة السياسية العربية.

إن العمل السياسي العربي عموما يندر فيه فن المرونة السياسية والتنازلات التي تفرض نفسها حسب كل ظرف، فالشعار السائد هو: "إما كل شيء أو لاشيء". هذا ما قد مارسناه في العراق منذ العهد الملكي، معارضين ومدينين كل خطوة وإجراء حكوميين وإن كانا لصالح البلاد. وأرى، وبعد عمر طويل وتجربة، أن علينا في العراق القيام بمراجعات سياسية متلاحقة، مثلا الموقف من معاهدة 1930، فمعاهدة بورتسموث، وما إذا لم تكونا خطوة للأمام مفروضة فرضا، أو الموقف من قيام مجلس الإعمار، أو رفعنا لشعار إسقاط حكومة عبد الرحمن عارف الذي كان رجلا متسامحا لا دمويا، وأفسح مجالا للحرية النسبية، وسالم الحركة الكردية المسلحة. إن غياب المرونة ونزعة إلغاء كل الماضي تجليا لدى فئات من شباب وساسة انتفاضة تونس، وهي بارزة في انتفاضة مصر، حيث تلاطم التيارات والشعارات، ونزعات تسويد كل صفحات عهد مبارك مع أنه عهد شهد، في مراحله الأولى، انفتاحا سياسيا وإطلاقا لسراح المئات من السجناء والمعتقلين السياسيين الذين ورثهم عن السادات وناصر، فضلا عن تقدم اقتصادي وهامش لا بأس به من الحريات العامة والشخصية. إن ما آل إليه النظام المباركي من تقوية الاستبداد الفردي وانتشار الفقر والبطالة وفساد بعض الفئات العليا لا يجب أن يغيّب، عند التقييم، منجزات يجب أن يحافظ عليها شعب مصر لأنها ملكه. كذلك الحال مع عهد بن علي، الذي تحسب له النهضتان الاقتصادية والتعليمية ومكافحة التطرف الديني وحماية حقوق المرأة؛ ولكنه مدان بالحكم الأوتوقراطي، وفساد العائلة، والمعالجة القمعية لمظاهرات الشباب في مطالبه العادلة. وكان حسنا أن سقط وهرب. وكم من زعيم جرى تجريمه في حياته أو رفضه، ليعاد تمجيده بعد موته. فإما هو اللون الأبيض أو الأسود؛ إما هو الإنسان الكامل أو الشاعر الأعظم والمنزه مرة، ثم هو صفر إلى اليسار. ومن الأفضل إعادة الاعتبار للراحل المجني عليه في حياته بدلا من تمجيده حيا وشطبه راحلا. فإعادة الاعتبار لعبد الكريم قاسم من جانب كثيرين ممن حاربوه موقف صحي ويعوض بعض الشيء عن تجني أمس.

ونود هنا أن نشير إلى أنه يظهر في أيام الثورات والانتفاضات الشعبية العفوية الانتهازيون لركوب الموجة وقطف ثمار النضال الشعبي لحسابهم الخاص أو الحزبي. وهذا ما نشاهده من موقف الإخوان المسلمين في مصر وجماعة النهضة في تونس. كما هناك شخصيات لم تسهم في تضحيات الشارع تنتهز الفرصة للصعود بدماء الشباب المضحي. ويروي لنا ساسة فرنسيون شاركوا في الحرب العالمية الثانية مع ديجول كيف وجدوا عند دخولهم باريس محررين زعانف يدعون المشاركة في حركة المقاومة ويتباهون مع أنهم لم يشتركوا أصلا، وكيف كان هناك من يستخدمون صفة المقاوم للانتقام الشخصي أو لانتزاع مغنم.

يرتبط بما مر غياب روح ومبدأ التداول السلمي للسلطة، وهل من دليل أكثر من جمهوريات التوريث؟ كذلك مثال ما حدث في الانتخابات العراقية الأخيرة، من مناورات ومن نتائج وعودة حزب المالكي للانفراد بمركز رئاسة الوزراء.

هناك سمة غالبة أخرى في الثقافة العربية، وهي الازدواجية والانتقائية، مما ينعكس في السياسة أيضا.

من أمثلة ذلك المطالبة بالحرية والديمقراطية في بلد الشخص أو الحزب، مع الصمت، أو حتى الدفاع، عن الظلم والدكتاتورية في بلدان عربية أخرى. وكم مرة جرى فيها تمجيد زعيم شعبوي قمعي لمجرد رفعه شعارات غوغائية عن " الإمبريالية والصهيونية"، أو " الوحدة العربية"، واضعين جانبا مسألة الديمقراطية وحقوق الإنسان. سابقا كان هذا الموقف من الراحل عبد الناصر، وكان هذا هو الموقف العربي من نظام صدام، وحتى بعد كشف المقابر الجماعية. ونتذكر كيف رفض البرلمانيون العرب إدانة تلك المقابر في موقف مخز حقا. وعندما يصدر اليوم فريق من المثقفين السوريين بيان ترحيب بانتفاضة تونس، فهل لا يحق سؤالهم: ولماذا الصمت عن الدكتاتورية التي تجثم على بلادكم؟ ومن المثقفين اللبنانيين أيضا من يصفقون لشباب تونس ومصر مع أنهم كانوا بالأمس القريب يصفقون لأحمدي نجاد عندما قمع انتفاضة الشعب الإيراني بعد الانتخابات. أماالازدواجية في الثقافة الاجتماعية والسلوك اليومي فتتجلى على نحو صارخ في الموقف من المرأة. ونتذكر معالجة الدكتور الوردي لمسألة ازدواجية الشخصية العراقية ومن ذلك الموقف من المرأة، فالعراقي هو مرة يلعب دور جيمس ستيوارت وفلنتينو ليعود إلى قوقعة " الملا عليوي"! والحقيقة أن هذه ازدواجية عربية مشتركة بامتياز، فما من شيء يفضح ازدواجية الشخصية العربية كالموقف من المرأة.

ومن السمات العامة الأخرى هوس نظرية " المؤامرة"، المؤامرة التي نتصوروجودها ونقنع أنفسنا بوجودها في كل مكان، خاصة في أيام الصعوبات والنكسات. كثرة منها عرفناها في تفسير أسباب هزيمة 5 حزيران 1967، وأخرى في قراءة تفجيرات 9 سبتمبر 2001 التي نسبت لمؤامرة أميركية مع أن بن لادن تبناها علنا، وبكل عنجهية وغرور. وترتبط بهذا عقدة كراهية الغرب، وأميركا خاصة، حتى عندما تتخذ هذه موقفا يلتقي مع مصالحنا الوطنية كحرب إسقاط النظام الصدامي، أو عندما وقف أيزنهاور بقوة ضد العدوان الثلاثي على مصر. المهم أن ندرس المواقف والسياسات، ونحكم على أساس ذلك. ويصح هذا أيضا عندما يقول من لا نحبه- وقد يكون مغرضا- قولا صائبا، إذ لا يجب تكذيبه، ولكن قد نقول : هذا صحيح ولكن للشخص غرضا آخر.

ولابد، وفيما يخص عقدة الغرب، من التعرض لكتاب أدوارد سعيد "الاستشراق" الصادر عام 979 [ سنة الثورة الخمينية] والذي يسود فيه كل منجزات المستشرقين ويوجه لهم تهم التحامل على الشرق وتشويه تاريخه وحقيقته. فبحجة فضح الاستشراق، كما يقول حازم صاغية، " رجمت عشرات النصوص الإبداعية والمعرفية التي كانت معرفتنا لتخسر من دونها". وبات أي كتاب ثانوي يصدر في الغرب أو برنامج عرضي يفسر بمعاداة العرب والإسلام [ إسلامفوبيا]، فيجري تهييج العواطف الساخنة وخلق جو يشجع أبطال الأحزمة الناسفة والخناجر. والمفارقة أنه، بينما يجري شتم الغرب كل يوم وكل ساعة ودقيقة، فإن عشرات الملايين تهاجر للغرب، وتتلقى مساعداته، وهناك من يخاطرون بحياتهم للوصول إلى هذا الغرب " العدو"، و"المتفسخ"! لقد تأدّى عن نقد " الاستشراق، كما يقول صاغية أيضا: " إعدام عقول كثيرة ونتاجات عقلية أكثر، فيما المطلوب، كان ولا يزال، نقد الاستغراب، أي هذا الكم من الجهل والغباء والبله في فهم الغرب!" وأضيف أنني كنت زمنا ما طويلا ممن أساؤوا الفهم ومارسوا التحامل- مع وجوب التمييز بين تقييمنا للمبادئ والقيم الديمقراطية والعلمانية الغربية وبين أية سياسات تتخذها حكوماتها وتستحق الرفض والشجب.

ومن الظواهر الشائعة -[ مرت إشارة ما لها بشكل عابر]- تملق مشاعر الجماهير لكسب الشعبية، أي النزعة الشعبوية- سواء دغدغة المشاعر الدينية والمتاجرة، بها كما تفعل الأحزاب الدينية الحاكمة في العراق اليوم مع مراسيم عاشوراء ومختلف الزيارات المذهبية، أو كما كانت الناصرية والبعث في العالم العربي مع شعارات العزة القومية والوحدة وما شابه. وهذا النمط من السلوك السياسي انزلق إليه، وينزلق، بعض اليساريين في الدول العربية، فيزايدون بالشعارات الثوروية؛ وهذا رائج اليوم في أميركا اللاتينية، ورمزها الأول شافيز الفنويلي.

الموضوع كثير الجوانب، ويتسع للمزيد والمزيد. ولكنني أود أن أختم هذا المقال بوقفة ترتبط بقضية الصراع الإسرائيلي – العربي.

المقصود هو ما يدعى ب"التطبيع". وهذه ظاهرة فيها من النفاق الشيء الكثير. فكيف القبول بمعاهدات واتفاقات بين الفلسطينيين وأنظمة عربية من جهة وإسرائيل من جهة أخرى، مع رفض جلوس مثقف عربي مع يهودي إسرائيلي، علما بأن نسبة كبيرة من سكان إسرائيل هم فلسطينيون ولهم الجنسية الفلسطينية؟ وكيف يدان مترجم عربي أو فلسطيني لأنه يترجم كتابا للعبرية أو كتابا منها ولو كان كتابا لصالح الفلسطينيين؟ أي منطق سليم في هذا يا ترى؟! وقد حدث وأدين أكثر من مثقف فلسطيني وعربي بسبب تأليف كتاب مشترك أو ترجمة كتاب من العبرية. وفي رأيي أن هذا الموقف والسلوك ينطويان على كراهية لليهودي كيهودي ولليهودية كديانة- علما بأن مئات الكتب الأدبية والفكرية العربية مترجمة للعبرية في إسرائيل. يجب التمييز بين السلوك الإسرائيلي السياسي المرفوض وبين التلاقي الثقافي بين الشعوب، هذا إن كنا نريد حقا سلاما عادلا ودائما بين العرب وإسرائيل على أساس الشرعية الدولية.

الحوار المتمدن في 3 كانون الثاني 2011








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أوضاع مقلقة لتونس في حرية الصحافة


.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين: ماذا حدث في جامعة كاليفورنيا الأ




.. احتجاجات طلابية مؤيدة للفلسطينيين: هل ألقت كلمة بايدن الزيت


.. بانتظار رد حماس.. استمرار ضغوط عائلات الرهائن على حكومة الحر




.. الإكوادور: غواياكيل مرتع المافيا • فرانس 24 / FRANCE 24