الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أشواق المستهام

صبحي حديدي

2004 / 10 / 5
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


أخيراً، ويوم أمس فقط، اعترفت صحيفة غربية رئيسية بحدث ثقافي وتاريخي متميّز وقع، أو تكشّفت معظم تفاصيله ‏بالأحرى، قبل أكثر من سبعة أشهر. لا بأس، كما نجد أنفسنا مضطرّين إلى القول بين حين وآخر، أن يصلوا متأخرين ‏من أن لا يصلوا أبداً!‏
البارحة نشرت أسبوعية" أوبزرفر" البريطانية مادّة بتوقيع روبن ماكّي، المحرّر العلمي، تسرد الحكاية المثيرة التالية: ‏الباحث المصري د. عكاشة الدالي، من المعهد الأركيولوجي في جامعة لندن، توصّل إلى براهين متينة تفيد أنّ عالِماً ‏مسلماً عاش في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين هو الذي فكّ شيفرة "حجر رشيد" الشهير، وليس سنة 1822 على يد ‏الباحث الفرنسي في اللغات القديمة فرانسوا شامبليون.‏
ومن المعروف أنّ الضابط الفرنسي فرانسوا بوشار عثر على هذا الحجر الثمين في إحدى قلاع مدينة رشيد، سنة ‏‏1799، أثناء الحملة الفرنسية علي مصر. معروفة أيضاً تفاصيل التنافس الفرنسي ـ البريطاني المحموم على الاستئثار ‏بالحجر واحتكار فكّ مغاليقه، بما ينطوي عليه ذلك من مجد وشرف.‏
كان البريطانيون قد هزموا الفرنسيين في مصر سنة 1801، وكانت الهزيمة شاملة لأنها تضمنت أيضاً اضطرار ‏المنهزم إلى تسليم جميع ما في حوزته من كنوز الآثار المصرية، المنهوبة، إلى المنتصر. وهكذا لم يتشرّف متحف ‏اللوفر الفرنسي باحتضان الحجر الصغير النفيس، الذي يضمّ نصوصاً باللغتين القديمتين المصرية الهيروغليفية ‏واليونانية الديموطيقية، وذهبت الحظوة إلى المتحف البريطاني حيث ترقد اليوم تلك التحفة التاريخية واللغوية.‏
الفرنسيون ثأروا لأنفسهم، مع ذلك، حين نجح شامبليون في فكّ وتصنيف محتويات الحجر قبل البريطاني توماس يونغ، ‏وذلك حين أسقط من حسابه كليّاً الفكرة الغربية الشائعة عن الهيروغليفية بوصفها مجموعة رموز عن الأفكار والأشياء. ‏إنها أبجدية صوتية، افترض شامبليون، واتكأ علي هذا الافتراض لتحقيق إنجاز تاريخي ظلّ الغرب يفاخر به مذّاك.‏
اليوم يقول د. عكاشة الدالي إنّ أوّل مَن فكّ ألغاز الحجر كان أبو بكر أحمد بن علي بن وحشية: "طيلة أكثر من قرنين ‏ونصف القرن، ظلّت دراسة مصر القديمة خاضعة للرأي الغربي الذي يتجاهل الأبحاث العربية تماماً. ولقد شعرت بأنّ ‏هذا الأمر غير منصف"، يقول الدالي الذي صرف سبع سنوات (غير عجاف البتة، كما يلوح) في مطاردة المخطوطات ‏العربية والتنقيب في بطون الكتب القديمة، حتى عثر على عمل إبن وحشية، فأدرك بصفة قاطعة أنّ ذلك العالِم كان يفهم ‏تماماً ما تقوله النصوص الهيروغليفية!‏‎ ‎
ولقد شدّني في حينه هذا الاكتشاف البحثي الرفيع، وكانت وكالة أنباء رويترز نشرت عنه تقريراً موجزاً بالعربية في ‏شهر آذار (مارس) الماضي، بالقدر الذي جعلني أنشدّ إلى أعمال إبن وحشية. ولقد كان مبهجاً أن أكتشف تلك الفتنة ‏الخاصة في عنوان المؤلَّف المعنيّ بالهيروغليفيات: "كتاب شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام"! نعم... تخيّلوا كيف ‏أنّ ذلك العمل على الأبجدية المصرية القديمة المعقدة لم يكن مسغبة ومشقة فحسب، بل كان شوقاً... وكان المشتاق ‏مستهاماً في استقصاء رموز الأقلام!‏‎ ‎
وهذا الكتاب تُرجم إلى الإنكليزية سنة 1806، أي قبل 16 سنة من نجاح شامبليون في قراءة حجر رشيد ، الأمر الذي ‏يرجّح أنّ يكون الأخير قد قرأ الكتاب، وأنّ مقاربة إبن وحشية (في اعتبار الحروف جزءاً من أبجدية صوتية وليست ‏مجرّد رموز تصويرية) قد تكون وراء النقلة الحاسمة التي جعلته يتخلى نهائياً عن الفرضيات الغربية الراسخة آنذاك. ‏هكذا يقول المنطق البسيط، وإنْ كنّا لا نستطيع الجزم حول ما إذا كان شامبليون قد قرأ كتاب إبن وحشية أم لا. لكنّ ‏مناقشة هذا الافتراض تعني، في جانب آخر، إحقاق حقّ العالِم العراقي العتيق في بعض المجد التليد الذي ينعم به العالِم ‏الفرنسي الحديث.‏‎ ‎
وللتوقف عند المزيد من هذا الحقّ، نشير إلى أنّ إبن وحشية كتب في الفلسفة والزراعة والكيمياء، ووضع مجموعة من ‏المؤلفات في السحر والطلمسات، منها "كتاب طرد الشياطين" و"كتاب السحر الكبير" و"كتاب السحر الصغير". وللرجل، ‏في العلوم، كتاب فريد اسمه "الفلاحة النبطية" يُعدّ من أشهر المؤلفات الزراعية القديمة، وثمة مَن يردّ بعض فصوله إلى ‏نصوص بابلية قديمة. ومن المدهش أنّ إبن وحشية، وفي فصل خاصّ بالعقائد الوثنية، يقيم صلة مادية مباشرة بين ‏الزراعة وعبادة النجوم، ولا يتوقف عند القواعد الزراعية الصرفة بل يغوص عميقاً في ما يتناظر مع الزراعة من ‏عقائد وخرافات وعبادات وتقاليد عتيقة سادت في صفوف الأنباط أوّلاً ثمّ انتقلت إلى جيرانهم‏‎.‎
تحية، إذاً، لهذا العالِم القديم الجليل، العميق والطريف والشاعري في آن. وتحية لا تقلّ حرارة إلى العالِم المصري ‏المعاصر عكاشة الدالي... الذي دلّ العالم ودلّنا على قسط إضافي جديد وهامّ من حقائق التاريخ الخافية.‏
‎ ‎








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رهان ماكرون بحل البرلمان وانتخاب غيره أصبح على المحك بعد نتا


.. نتنياهو: سنواصل الحرب على غزة حتى هزيمة حماس بشكل كامل وإطلا




.. تساؤلات بشأن استمرار بايدن بالسباق الرئاسي بعد أداءه الضعيف


.. نتائج أولية.. الغزواني يفوز بفترة جديدة بانتخابات موريتانيا|




.. وزير الدفاع الإسرائيلي: سنواصل الحرب حتى تعجز حماس عن إعادة