الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإرادة والإلهام في انتفاضة مصر

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2011 / 2 / 5
مواضيع وابحاث سياسية


إن الأحداث الكبرى التي تعمّ مصر (وعبرها العالم العربي) تكشف عن حقيقة تقول، بان الإرادة الكبرى على قدر ما فيها من استعداد للتضحية والسير بها حتى النهاية من اجل تحقيق المبادئ الجوهرية للوجود الإنساني الحق. وإذا كانت الأغلبية المطلقة للشعب المصري قد وقفت الى جانب الحق والعدل والكرامة، فإنها بذلك تكون قد ارتقت الى مصاف البدائل العقلانية والإنسانية الحقيقة. وفي الوقت نفسه تكون قد قطعت الشوط الضروري الأول لبناء النفس في التاريخ المصري والعربي الحديث والمعاصر. مما يعطي لنا إمكانية المقارنة البلاغية القائلة، بان الإرادة التي صنعت أهرامات مصر، والأكتاف التي تحملت نقل حجارتها الثقيلة، قادرة على رمي سلة السلطة المتهرئة على قارعة الطريق الصعب، من اجل بناء النفس والدولة الحديثة على أسس الشرعية ومبادئ الحق والعدالة.
فعندما نتأمل الأحداث الدرامية الكبرى التي بدأتها تونس، وتدفعها مصر الى شوطها الأبعد، فإننا نقف أمام نفس مظاهر الخطاب التضليلي للسلطة. دكتاتورية متشنجة تحتقر الروح الاجتماعي والوطني وتنظر الى الشعب على انه غوغاء ورعاع ملثمين وإخوان مسلمين وإرهابيين. شعب لم يبق فيه بمعايير السلطة أي شيء باستثناء كمية هلامية من نفايات الزمن! أي كل ما قامت به هي نفسها من أجل أن تتسلط على دولة بلا شعب!
غير أن الحقيقة لها خيالها الخاص. وللسلطة أيضا "خيالها" الخاص. الأولى محكومة بمنطق التاريخ، والثانية محكومة بدقات الزمن. لهذا ثنىّ زين العابدين وحسني مبارك بأنهما سوف لن يرشحا أنفسهما لرئاسة "أبدية"! وعندما قالت الشعوب "لا نريد"، فان السلطة المتعودة على صنع الخنوع لم تفهم معنى الإرادة فيما تريده الناس. وعندما أصبح إصرار الإرادة طوقا حول السلطة عندها ثلّث زين العابدين وحسني مبارك، بتغيير مواد الدستور والحوار مع المعارضة والاستجابة لمطالب الشعب. وعندما قال لهما الشعب، بان مطالبه "تغيير النظام" و"إسقاط النظام"، عندها "فهم" زين العابدين. وما لم يفهمه حسني مبارك الآن سيفهمه غدا. والفرق بين اليوم والغد هو أن حسني مبارك يتعامل مع الأيام بمعايير الزمن، بينما الشعب المصري يتعامل مع الأيام بمعايير "الغضب" و"الرحيل"، أي بمعايير الإرادة الاجتماعية والسياسية الوطنية والقومية. إنها معايير صنع التاريخ الفعلي التي لا يستطيع تضليل السلطة عمل شيء غير توسيع مدى وعمق ضلالها الذاتي. وإذا كان الفرق الظاهري لحد الآن بين زين العابدين وحسني مبارك يقوم في هروب الأول الى خارج تونس، ورغبة أو استعداد الثاني للبقاء في مصر، فأنهما كلاهما لم يفهما مضمون وغاية ومغزى ومعنى ما حدث ويحدث، أي أنهما لم يفهما كونهما كلاهما هربا من تاريخ تونس وتاريخ مصر.
إن السلطة التي تعودت على قياس كل شيء بمعايير الزمن، تعتقد بان الاحتجاج والتمرد والعصيان والثورة موجه ضد عدد السنوات التي قضاها كل منهما في الحكم. أنهما لم يفهما حقيقة الحقائق الكبرى هنا والتي بلورها الشعار الشعبي المصري: "الشعب يريد إسقاط النظام"، بينما يواجهها حسني مبارك ومؤسساته القمعية المتحللة وحزبه المتبلد وأعوانه من الشطار والعيار ومرتزقة الإعلام بشعار "السلطة تريد جمال وخيام" كما شاهدها العالم في موجة بدائية متخلفة من "فرسان" لا فروسية عندهم ولا مروءة! لكنها صورة نموذجية عن شح الخيال وانعدام المنطق المميز للسلطات المنعزلة والمغتربة عن مجتمعاتها.
إن مواجهة الإرادة المصرية الحالية للسلطة المتهرئة تجاوزت إشكالية السلطة والمجتمع بمعايير "الاحترام" و"عدم الاغتراب" وما شابه ذلك، الى مستوى تغيير النظام، أي البحث عن بدائل ترتقي الى مصاف المنظومة المحكومة بفكرة الحق والحقوق. فالشعار الجوهري هو شعار إسقاط النظام الحالي واستبداله بنظام آخر، أي بمنظومة تذلل زمن السلطة لتنقل المجتمع الى تاريخ الدولة الحديثة. وإذا كان "ميدان التحرير" هو ميدان صراعها المباشر، فان رمزيته تتعدى حدود الكلمة والعبارة والأرض لترتقي الى مصاف الفكرة المجردة المتسامية، فكرة التحرر والحرية. وفيها تنعكس شحنة الاحتجاج الاجتماعي والسياسي والوطني والقومي المتراكمة في قلوب الجيل الشاب وعقوله، أي في قوة المستقبل.
إن قوة الاحتجاج العارمة في مصر هي التعبير المتنوع لإدراك قيمة الحياة والمستقبل. وهي القوة الوحيدة القادرة على صنع التاريخ الفعلي للأمم. فالتاريخ الفعلي هو رديف لمضمون المؤسسة القادرة على صنع تراكم الذات الإنسانية بوصفها قوة مبدعة. وليس مصادفة أن يكون الإلهام على الدوام القوة المبدعة في التاريخ. وان يكون الخيال المبدع القوة المنظمة للوجود. وان نعثر على هذا التزاوج الديناميكي في طبيعة وحجم وفاعلية الخيال المصري الجديد، أو قوة الروح المبدع الذي يعادل معنى الحياة وفكرة المستقبل. فالإنسان المصري المعارض لسلطة حسني مبارك، والجيل المنتفض ضد نظامه السياسي، كلاهما يعملان ويفعلان بفكرة الحق والكرامة وليس الغريزة. وفي هذا تكمن حقيقة الإلهام التاريخي الجديد للثورة التي بدأتها تونس وتأخذ مصر بزمامها.
إن سلطة حسني مبارك هي سلطة الغريزة النهاشة في النهب والسرقة والاستحواذ. إنها سلطة البطون التي لا تمتلئ أبدا لأنها فارغة على الدوام شأن هوة الموت! ومبارك هو هوة الموت الملتفة حول مصر! بحيث لم يعد الشعب المصري يشم منها غير عفونة الزمن. ولا مجاز في الأمر. فحسني مبارك هو بالفعل مومياء الزمن الفارغ للسلطة. انه ممثل الاغتراب الفعلي عن حياة مصر وماضيها وحاضرها ومستقبلها. والمغترب قابل لكل الرذائل. وليس مصادفة أن تصبح الفوضى هي "نظام" وجود الأشياء. وعندما يصرخ المصريون بأنهم يريدون إسقاط النظام، فأنهم يعنون ما يقصدون. إنهم يريدون إسقاط الفوضى. بينما لم ير حسني مبارك حتى هذه اللحظة فيما جرى ويجري سوى فوضى. بل ونسمعه اليوم يقول، بأنه مستعد للتخلي عن السلطة، لكنه يخاف الفوضى! انه لم يفهم بان حقيقة الفوضى ليست حركة الجماهير العنيفة ضد الدكتاتورية التي سلبت حقوقهم وعرضت الفرد والجماعة والدولة والأمة الى مهانة مستمرة، وان حقيقة الفوضى ليست في بعض مظاهر اللاعقلانية التي تلازم بالضرورة التمرد الاجتماعي الكبير والعصيان والمواجهة والتحدي لعنف السلطة، بل أن حقيقته في اغتراب السلطة عن فكرة الدولة والمجتمع والحقوق.
إن حقيقة الفوضى في مصر (والعالم العربي ككل) تقوم في أسلوب وجود وعيش وعمل سلطة حسني مبارك. إنها فوضى الحياة السياسية، وفوضى الحياة الاقتصادية، وفوضى الحياة الحقوقية، وفوضى الانتماء الوطني، وفوضى الانتماء القومي، وفوضى الانتماء الثقافي والروحي. والحصيلة هي فوضى القيم، التي أدت الى تصنيع "منظومة الفوضى". وهذه بدورها غير قابلة للعيش طويلا.
إن ما جرى ويجري في مصر من ردود فعل ترتقي الى مصاف التحدي التاريخي ليست إلا الصيغة الأولية للرد على فوضى السلطة. وفي هذا الرد التاريخي يمكننا رؤية استلهام المصري لثورة إعرابي وجمال عبد الناصر. وفيها تنعكس الحقيقة الكبرى القائلة، بان ثورات العالم العربي ذات نبض واحد، لان قلبها واحد، وهمومها الكبرى واحدة. ولعل المغزى التاريخي الأكبر لما جرى في تونس وما تصنعه الآن مصر، هو الاستمرار بتقاليد الإصلاحات الكبرى ولكن من خلال تحقيقها بمعايير الإلهام الاجتماعي والوطني والحقوقي والأخلاقي. فالفكرة الجوهرية فيها ليست الخبز، بل الحق والكرامة. وهذا مؤشر جوهري على حقيقة الإلهام العميق بالمستقبل. إذ ليست الحق والكرامة سوى المعايير الكبرى للروح العقلي والأخلاقي. وأمام هذا الروح لا يصمد كل ما يعارضه. لأن كل ما يعارضه أشباح.
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تحدي الثقة بين شيرين بيوتي و جلال عمارة ???? | Trust Me


.. حملة بايدن تعلن جمع 264 مليون دولار من المانحين في الربع الث




.. إسرائيل ترسل مدير الموساد فقط للدوحة بعد أن كانت أعلنت عزمها


.. بريطانيا.. كير ستارمر: التغيير يتطلب وقتا لكن عملية التغيير




.. تفاؤل حذر بشأن إحراز تقدم في المفاوضات بين إسرائيل وحماس للت