الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثورة شباب التغيير في مصر ونظرية -الفوضى الخلاقة-

ياسر قطيشات
باحث وخبير في السياسة والعلاقات الدولية

(Yasser Qtaishat)

2011 / 2 / 10
حقوق الانسان


منذ انطلاق مشهد التغيير الشبابي والثورة الشعبية في تونس ومصر، والسؤال الذي ما زال يثير جدل تحولي لدى الساسة والمفكرين والأنظمة العربية على السواء، هو لماذا انتفض الشباب العربي اليوم بعد عقود من الاستبداد والظلم، وما علاقة هذه الثورات الشعبية بنظرية أو مقولة "الفوضى الخلاقة" التي أطلقتها الإدارة الأمريكية منذ سنوات؟
"الفوضى الخلاقة" بداية مصطلح قديم متجدد، تعود فكرته إلى الماسونية، والبعض يرى انه خلق إبان الثورة الفرنسية في التاسع عشر، حينما دخلت البلاد في ثورة شعبية عارمة وفوضى من عامة الناس، أدت إلى سقوط النظام الملكي المستبد وتأسيس جمهورية ديمقراطية بعد عقود من "الفوضى الشعبية الخلاقة"، الإدارة الأمريكية بعد احتلال العراق ونشر الفوضى والخراب في البلاد، اعتبرت أن هذه الفوضى ستؤدي بنهاية المطاف إلى خلق واقع سياسي مستقر ينسجم ومصالح الشعوب، فمزجت بخبث بين "الفوضى" التي تعني عدم الاستقرار والدمار والخراب، وبين "الخلاقة" التي تعني الإبداع والتغيير أو الخلق الجديد.
لذا سعت إلى نشر فكرة "الفوضى الخلاقة" في المنطقة العربية بهدف ضمان استمرار وجودها وحماية مصالحها ومصالح إسرائيل في المنطقة، خاصة الخليج العربي،لاسيما وأنها تعتبر أن استقرار العالم العربي يحول دون تقدم مصالحها، لذلك لا بد من خلق تدابير سياسية جديدة تهدف إلى حالة من "اللااستقرار" والفوضى تفسح المجال أمامها للتدخل وفرض سياساتها وحمايتها للمنطقة باستعمار جديد أساسه "قيادة التغيير" عبر الفوضى الشعبية.
لكن الطرح الأمريكي لم يكن أبدا يعتمد على الشعوب للتغيير أو إشعال فتيل "الفوضى الخلاقة" ذلك أنها نفضت يدها من قدرة الشعوب العربية على صنع التغيير أو مقاومة الأنظمة المستبدة الفاسدة، لذلك تبنت نظرية "الفوضى الخلاقة" عبر استخدام القوة العسكرية والتدخل المباشر تحت مسميات "حقوق الإنسان والحرية" فاحتلت أفغانستان والعراق وفقا لهذه النظرية، فضلا عن استخدام التهديد بالقوة لتفجير الأمن الداخلي في العالم العربي لتشجيع الشعوب على التحرك وتأجيج مشاعر الغضب الشعبي تجاه الأنظمة وتوظيفها لخلق فوضى عارمة، كما تحاول ذلك في لبنان وسوريا واليمن والأردن والعراق وفلسطين ومصر وبعض دول الخليج.
أما عن أسباب الثورة الشعبية التي انتشرت كالنار في هشيم الأنظمة العربية البالية بعد تونس ومصر، ورغم خصوصية ثورة شباب تونس عن ثورة شباب مصر، إلا أن كلا الثورتين تتقاطعان مع أسباب جلية واضحة للعيان هي : الاغتراب السياسي وما ارتبط به من ظلم وجور واستبداد وقهر واستعباد للعباد، والأزمة الاقتصادية بكل تفرعاتها من بطالة وفقر وطبقات مهمشة وسوء توزيع الثروة، وفساد قضى على كل انجازات البلاد، وتدهور حاد في نفوذ ودور البلدين على المستويات العربية والإقليمية والدولية لحساب قوى أخرى غير عربية وخدمة للكيان الصهيوني .
تلك المبررات العامة وما يندرج تحتها من أسباب وتفاصيل ثانوية، فصلت عرى العلاقة بين جيل شباب الانترنت والفيس بوك والتوتير والتكنولوجيا الثورية والمعرفة الرقمية، وبين قيادات أنظمة بالية ما زالت تفكر بعقلية القرن التاسع عشر، فتتحكم برقاب العباد في زمن الحرية العالمي، وتقيد الاتصالات في زمن القرية الكونية، وتراقب الانترنت في زمن التواصل الاجتماعي العالمي، وتحتكر حرية التعبير في زمن العولمة؛ لذا زادت الفجوة واتسعت رقعتها بين جيل الشباب المعاصر رافع لواء الحرية والتغيير، وأنظمة دكتاتورية فاسدة تواجه رياح التغيير الشبابي بالعنف والإرهاب .
فالشباب العربي يشعر بالاغتراب السياسي في بلده، لأنه لا يشارك في رسم وصنع سياسات بلاده الداخلية والخارجية، ويجد ما تدّعيه الأنظمة من "مفهوم المصلحة العليا" انه مفهوم ضبابي يخدم الفئة الحاكمة، فتمارس على الشباب العربي نظام الوصاية الأبوي، فتضرب برغباته عرض الحائط وتبعده عن إبداء رأيه في سياسات يتحمل بالنهاية الشعب نتائجها، وبالنهاية تخدم تلك المصالح الأطراف الخارجية وتدفع الشباب للشعور بالاغتراب في بلده، وفي الوقت الذي تدعي الأنظمة أنها تفسح المجال أمام الشباب للمشاركة السياسية، تفرض عليهم صورة متعددة من الإرهاب الفكري والاختيار السياسي؛ فكيف يمكن للشباب الاختيار شكل الحكم ورأس النظام، إن كان الحزب الحاكم هو الخيار الوحيد أمامهم لدخول العملية السياسية، فيما تلغي وترهب كل أحزاب المعارضة، وتشوّه إرادة الشعب بالتزوير وتأطير الانتخابات لصالح الحزب الأوحد!!
فالأنظمة المستبدة تدعي لنفسها حق معرفة مصلحة البلاد والعباد، وتسحق طبقات الشعب، خاصة الشباب، تجاه تلك المصلحة التي تتحول مع تجاهل مجاميع مصلحة الأمة، إلى سياسات اغترابية لا يشعر جيل الشباب المعاصر بأهميتها مادام انه لم يشترك في صنعها أو يستشار بقراراتها؛ من هنا تجد الأنظمة نفسها ، كما هو حال نظام مبارك ونظام بن علي، أمام خيارين : إما أن تلبي مصالح شعبها أو مصالح الأطراف الخارجية التي تحافظ على كيانها ونظامها، فالنظام الذي لم يأتي برغبة الشعوب أمر طبيعي أن لا يحترم إراداتها!! لكنه بالمقابل يخشى على نظامه من الخارج، بينما مطمئن أن شعبه قابع تحت وطأة البوليس والمخابرات!
والنتيجة المنطقية لذلك، أن هذا الاختيار الظالم بين الداخل والخارج، أو بين واشنطن والشعب، ارتد سلبا على خيارات النظام الثنائية، فخسر شعبه الذي أطلق شرارة الثورة لرحيل النظام، وتخلت عنه واشنطن حماية لمصالحها في المنطقة، ما يعني أن النظام المصري أو التونسي أو أي نظام عربي أخر، هو بالختام نظام وظيفي بالنسبة للولايات المتحدة، ما أن ينتهي دوره حتى تقلب له ظهر المجن وتبحث عن غيره لحماية مصالحها، ولا شك أن هذه التحولات السريعة في وطأتها على السياسة العربية، دفعت بعض الأنظمة العربية اليوم لمحاولة تغيير إستراتيجيتها والاحتماء بشعوبها وشبابها لأنها المحرّك الرئيس والمحفّز الأول لبقاء النظام أو رحيله!
أما عن الأوضاع الاقتصادية وما يرتبط بها من فساد وسوء توزيع ثروة، وتمازج السلطة السياسية الحاكمة بالثروة الفاحشة، في الوقت الذي ترزح فيه ملايين الشعوب العربية تحت وطأة الفقر والجوع والذل والبطالة، فحدث ولا حرج. فسوء إدارة المواد وتطبيق برامج إصلاح اقتصادية فاشلة نجم عنها بالنهاية تخب سياسية حاكمة متحالفة مع طبقة رجال أعمال نهبت ثروات العباد والبلاد، وباعت مؤسسات الدولة تحت مسمى الاستثمار، فزادت نسب البطالة والجوع والفقر، وذهبت المساعدات إلى جيوب الأغنياء والطبقات الحاكمة، وانتكس شعب مصر وتونس بذل البحث عن لقمة العيش والعمل والحياة الكريمة، فملايين الشباب في مصر وتونس فقدوا الأمل بالقدرة على الزواج والاستقرار وبناء حياة كريمة، فوجودا نفسهم أمام خيارين أحلاهما مر: إما الرحيل والاغتراب بحثا عن الحياة الكريمة، وإما البقاء والقناعة بذل لقمة العيش المغموسة بالاهانة وقلة الكرامة والاستبداد والظلم!!
لكن حتى الرضا بالخيار الثاني لم يسلم من القمع والإرهاب، فالشاب التونسي الجامعي "البوعزيزي" الذي احرق نفسه وأشعل نار الثورة في تونس وخلع نظام بن علي، ومات حتى تحيى تونس بحرية وكرامة، قمعته الدولة البوليسية وأحرقت عربته التي يقتات منها وعائلته، فحرمته من ادني درجات الإنسانية؛ فكان ذلك الحدث هو جوهر التغيير والثورة التي قادت تونس اليوم إلى عهد جديد أساسه الحرية والكرامة الإنسانية.
وفي مصر كان نفس السيناريو يتكرر، فالشاب الذي أشعل وقود الثورة الشعبية اليوم هو الشهيد "خالد سعيد" المعروف بشهيد قانون الطوارئ الذي مات بآلة تعذيب الدولة البوليسية في مصر لمجرد انه كشف خيانة بعض أفراد الأمن الذين يتاجرون بالمخدرات، فنكّلت به في مشهد دموي حرّك مشاعر الشباب المصري الذي قلب ظهر المجن على نظام مبارك وهز كل أركانه منذ ثورة 25 يناير، فمات الشهيد "خالد سعيد" دون أن يدري أيضا انه بموته أحيى جيل الشباب وصنع ثورة التغيير التي غيرت كل معادلات الاستبداد والظلم، وبات نظام مبارك قاب قوسين أو دنى من السقوط لتدخل مصر مرحلة جديدة من التنوير والحرية.
وبخصوص الدور الإقليمي، فلا شك أن انسحاب مصر من ثقلها العربي والإقليمي وانكفائها للمصلحة الداخلية التي يختلف حولها الكثير، أدت إلى بروز قوى غير عربية تحل مكان دور ومكانة مصر، خاصة إيران وإسرائيل وتركيا، وهذا الانسحاب أو الهروب من المكانة الإقليمية والدولية لأكبر دولة عربية "مصر"، أدرك الشباب المصري والعربي، انه متعمد ومدروس لإفساح المجال لهيمنت تلك القوى على قضايا الشعوب العربية، خاصة قضية فلسطين ولبنان والعراق والسودان والصومال، فلم تعد الدول الكبرى أو الإقليمية تقيم وزنا للدور المصري الذي بات بنظر الجميع حليفا وتابعا لمشروعات صهيونية وأمريكية امبريالية.
فانسحبت مصر من دورها في العراق لصالح إيران، وسلّمت القضية الفلسطينية لإسرائيل واللجنة الرباعية ولعبت دور مخابراتي لزيادة الفتنة بين الأشقاء الفلسطينيين، فمارست دور الدولة البوليسية على حركة حماس، وساهمت في تفتيت القضية لصالح إسرائيل!! وهربت من واجبها القومي في لبنان لصالح إيران وإسرائيل وقوى صغيرة في المنطقة، وتركت السودان ينقسم دون أن تمارس دورها في حماية عمقها الاستراتيجي، وفي نهاية المطاف تترك دولا صغيرة في إفريقيا تهدد منبع مياه النيل؛ كل ذلك يجري والنظام المصري يدفع مصر نحو الهاوية والانعزال، فظهرت مصر وكأنها دولة مريضة لا حول لها ولا قوة؛ فكان ذلك محفزا أخر من محفزات الثورة الشعبية المصرية التي يقودها شباب التغيير .
من خلال العرض السابق، وتفسير أسباب ثورة شباب التغيير، وتحليل مفهوم نظرية "ألفوضى الخلاقة"، نستنتج أن البعض خلط –سواء عن خبث كما هو حال الأنظمة أو عن جهل كأغلب الشعوب- بين ثورة الشباب العربي ضد الأنظمة الفاسدة، وبين نظرية الفوضى الخلاقة التي انتهجتها الولايات المتحدة للتغيير ونشر الفوضى في المنطقة، فالولايات المتحدة كانت تعتمد الوسيلة العسكرية لنشر "الفوضى الخلاقة" وما كان يتبادر لذهنها أن الشعوب العربية قد تملك زمام المبادرة وتقوم بالتغيير، ولو كان لديها ادني فكرة بذلك لما أنفقت مئات المليارات لاحتلال العراق وأفغانستان، ولشجعت الحركات الشعبية والشبابية في الوطن العربي لقيادة حركة الشارع العربي وفق منهج "الفوضى الخلاقة"، لكن مع كل هذا فان ثمة تقاطع يجري حاليا –دون تنسيق بالطبع أو دعم غربي- بين مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية في تطبيق فكرة "الفوضى الخلاقة" وبين ثورة الشباب والشارع العربي تجاه مقصد التغيير والانقلاب على الواقع، وهو تقاطع يلبي مصلحة الشعوب العربية بالدرجة الأولى وبيدها أن تقطع الطريق على الولايات المتحدة وإسرائيل لجني ثمار التغيير ونفض غبار الاستبداد والظلم والفساد، لذا فالكلمة العليا ستكون للشعوب ولجيل الشباب العربي، لان خاتمة مطاف الثورة هي الانقلاب على تحالفات الأنظمة الفاسدة أيضا، بما فيها التدخل العنكبوتي الأمريكي في حياة الشعوب العربية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مظاهرة وسط تونس تدعو لإجلاء المهاجرين من دول جنوب الصحراء


.. ميقاتي ينفي تلقي حكومته رشوة أوروبية لإبقاء اللاجئين السوريي




.. بمشاركة قادة سياسيين.. آلاف الماليزيين يتظاهرون في العاصمة


.. وسائل إعلام إسرائيلية تتناول مخاوف نتنياهو من الاعتقال والحر




.. تونس.. مظاهرة في مدينة العامرة تدعو لاجلاء المهاجرين غير الن