الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زائر الكنيسة - قصة مترجمة عن النرويجية - تأليف تور بريكفيند

كامل السعدون

2004 / 10 / 6
الادب والفن


كان خادم الكنيسة يقتعد مقعداً عند الباب ، جهة الداخل . وأمامه على طاولةٍ عتيقةٍ واطئة ، يستقر صندوق جمع التبرعات ، الذي كان لما يزل فارغاً .
كان يوماً تموزياً حاراً في ذاك البلد الأفريقي الحافل بالتناقضات الحادة المفجعة . كان القداس مستمراً بلا نهاية ، ولا يبدو أن هذا الأحد موشكاً على نهايته ، فهذا القس الشاب كان من أولئك الذين لا يقل إعجابهم بأنفسهم عن إيمانهم بالرب ، إن لم يكن يزيد عليه زيادةٍ ملحوظة !
كانت كل خلجةٍ من خلجات روحه ، وكل عضلةٍ تنبسط أو تتقلص في ملامحه ، توحي بكم الإعجاب والانبهار بذاته وبصوته وكلماتهْ .
كان موضوع قداس هذا الأحد ، قول للسيد المسيح ورد في إنجيل "متي " ، الإصحاح الثامن عشر الذي يقول الرب فيه " حيث أجتمع على حبي اثنان أو ثلاث فأني حاضرٌ معهم " .
وإذ بدأ الناس بالتثاؤب ، فإن أولهم كان الفتى ، خادم الكنيسة الذي تثاءب ، وأغفى ، وتثاءب ثانيةٍ ولم يغفو ، إذ تململ باب الكنيسة العتيق المهيب ، صاراً عن مفاصلٍ متخشبةٍ متيبسة ، وأطلّ شبحٌ ملأ فتحة الباب الموارب باستحياء !
قطب خادم الكنيسة حاجبيه مستاءٍ ، هو لا شك واحدٌ من أولئك الآتون لغرض إجراء طقوس التعميد " فكر الخادم مع نفسه ، لكن …لا … هذا زنجي… قامته النحيلة الطويلة تملأ فضاء الباب الذي زاد أتساع فتحته شيئاً فشيئا …!
- هششششششش " همس الخادم وهو يشير بظاهر يده طارداً ، وقد جحظت عيناه من الاستياء والاشمئزاز "
ولا يبدو على الآخر إنه سمع أو رأى أو فهم الإشارة ، بل أستمر واقفاً ، يسد بجذعه الأسود شبه العاري ، فتحة الباب .
- أو لا تعرف أن هذه كنيسةٍ للبيض ؟ هيا غادر في الحال !! " همس الخادم بصوتٍ ينبض بالاشمئزاز والكراهية "
لم يجب الآخر ، وكأنه لم يسمع ، أو لم يفهم الذي قيل ، ولم يبد عليه أي تأثرٍ !!
ظل واقفاً يرنو إلى الداخل بحزنٍ شفيف ..!
- ألا تخرج ْ أيها العبد … أتريدني أن أقوم بنفسي فأرميك خارج الكنيسة ، أخرج في الحال " هتف به الخادم بصوتٍ أعلى قليلاً وأشد عدوانيةْ .
كان القس لما يزل منشغلاً بخطبته العصماء ، ولم يبد عليه كثيرُ اهتمام لهذا الذي كان يدور موارباً عند الباب ، وإن بدا وقد أرتفع حاجبه قليلاً بتعجبٍ لا يداني إعجابه المتواصل بذاته ، لكن الآخرين ، وبالذات الجمهور القريب من الباب ، تناهى لبصرهم وسمعهم ، هذا الذي يجري ببطيء ، فانقلبوا بكامل أنصاف أجسامهم العلوية مندهشين متسائلين.
أما الزنجي فلم يبد عليه كبير اهتمام .
لا شفةٌ نبست ، ولا خلجةٌ اضطربت ، إلا العينان كانتا تسبحان بنعومةٍ في فضاء الكنيسة ، تطالعان الوجوه بحبٍ وإشفاق وتأمل ، كانتا تسعيان في البحث عن شيء ما في الكنيسة ، في عيون الناس ، في الصلبان والأيقونات المصلوبة على الجدران !
التقت نظراته بكل العيون تقريباً ، واستقرتا أخيراً على وجه القس المزهو بذاته ، والتقت العينان ملياً !
وما عاد للهمس من ضرورة ، فأنفجر تيار الكراهية دافقاً :
- أخرج أيها الأسود الغبي ، ألا تعرف القراءة ، أما صادفت نظراتك القذرة تلك اللافتة التي تقول ، تلك كنيسةٌ للبيض ، ولا مكان فيها لأمثالك !!
وأمسكت يدا الخادم البضتين الناعمتين بكتفي الزنجي محاولةٍ دفعه إلى الخارج ، لكن هذا لم يتهزهز وكأن قدماه قد تجذرتا عند العتبة ، عمت الهمهمة الساخطة أرجاء الكنيسة ، تحرك زوجٌ من الرجال ممن كانوا يجلسون في الصفوف الخلفية القريبة من الباب ، متوجهين لمساعدة الخادم في دفع الزنجي خارج الكنيسة .
دمدم القس النبيل من مكانه عند منصة الخطبة :
- يستحسن أن تخرج يا فتى من بيت الرب هذا ، بلا مشاكل …، هذه ليست كنيسة للملونين !!
أما الذين نهضا لمد يد العون ، فقد أحاطا بالزنجي من الجانبين .
كان أحدهما منتفخ الصدر والذراعين ، لقوةٍ وجبروتٍ في بناء جسمه ، وكان هذا قد شد قبضته ، حتى بدت كمطرقةٍ رهيبةٍ ، لوح بها أمام عيني الزنجي الواهنتين الشفيقتين :
- أليس لديكم كفايتكم من الكنائس ؟ أخرج وإلا قصمت ظهرك !!
- أخرجوه بعيداً ، إني خائفةْ ، انظروا كيف يحدق بنا …. يا إلهي … أخرجوه ..!! " هتفت شابةٌ من الجمهورْ "
- إنهم يزدادون وقاحةٍ وتطفلاً علينا " هتفت عجوزٌ ، بصوتٍ واهنٍ مفعم بالكراهية … وعقبت بعد أن التقطت الأنفاس الواهنة " … تخيلوا إننا حتى لا نستطيع أن نصلي بسلام ، أو نقضي بعض الوقت لوحدنا معاً في كنيستنا …!
- واحدٌ مثلك ، يجدر بنا أن نشده إلى جذع شجرةٍ ونصلبه ، اغرب قبل أن أحطم جمجمتك " هتف ذو العضلات بوجه الزنجي ، حتى لقد غمر وجهه رذاذ فمه المتطاير "
ولم يبد على هذا أدنى تأثر ، حتى … حتى حين وجه الآخر الذي كان يقف عند اليسار ، لكمةٍ جبارةٍ لأنف الزنجي ، سال على إثرها الدم غزيراً ، غمر الحنك والصدر …!
- لا تنسوا يا أخوة إننا في بيت الرب ، أخرجوه بسرعة لنتابع القداس …! " هتف القس الشاب مستاءٍ "
وفتح الباب على مصراعيه ، وتواتر الشد والجذب والسحب ، تمكنوا من حلحلته قليلاً عن الباب ، ولما أعياهم المسعى حملوه جزئياً ورموه في الخارج …!
وقف جمعٌ من المارة وقد غلبهم الفضول متسائلين عن هذا الذي يجري عند بوابة الكنيسة .
- هذا القبيح الأسود ، أقتحم كنيستنا " هتفت واحدةٌ من الجمهور ممن كانوا في الكنيسة وقد غلبهم الفضول فخرجوا لمتابعة ما يجري في الخارج "
لا زال الزنجي الملقى في قارعة الطريق صامتاً ، كانت عيناه مغمورتان بالدموع .
انحنت واحدةٌ من المارة نحوه لتبصق في عينيه وهي تزمجر :
- أنتم جميعاً تستحقون الشنق ، أيها القمامة المتعفنة …!
كان كلامها دعوةٍ وجدت صداها في القلوب والعقول والضمائر ، ضمائر الجمهور المؤمن ، فاندفعوا بحماسٍ شديد لتنفيذ الدعوة بغير إبطاء وهم يرددون :
- لنبدأ بهذا الوقح الذي أقتحم كنيستنا ، فنصلبه على أقرب شجرة …! " هتف أحدهم "
- بل نطلي جسمه بالقار وننبت فيه الريش …! " هتفت واحدة "
- ثم نحرقه بعد ذلك ! " هتف آخر "
لكن الأمنيات لم يسعها الوقت للتنفيذ ، إذ حضر في تلك اللحظة شرطيان مسلحين بالمسدسات والهراوات .
شقا طريقهما بعناءٍ وسط الجمهور الغاضب الهائج المستثار .
جثم أحدهم على صدر الزنجي ، وقلبه بعنفٍ على ظهره ، فيما سارع الآخر ليشد الأصفاد في معصميه ، وسحل في الحال إلى السيارة التي كانت واقفةٍ عند ناصية الشارع من الجهة الأخرى .
في ذات تلك الظهيرة الملتهبة ، أجمع قضاة المحكمة العليا على أن الزنجي كان مذنباً باقتحامه بيت الرب وخرقه القوانين المرعية ، وتعطيله القداس وإزعاج الجمهور الأبيض المتعبد …!
وكان الحكم كما هو دوماً في مثل تلك الأحوال ، الموت …!
ونفذ الحكم في ذات المساء …!

*******

قال الجلاد الذي أنزل المقصلة على عنق الزنجي ، قال ذلك المساء لزوجته بينما كان يتناول طعام العشاء :
كان إنساناً غريباً هذا الزنجي الحقير ، إنه لم يقل ولا حتى كلمة واحدة طوال المحكمة ، وحتى وأنا أنزل المقصلة لفصل رأسه ، كان يتطلع بي بعيونٍ ذئبيةٍ ، أكاد أقول جميلة .
كانت نظراته دافئة ، يبدو لي إنه لم يكن … لم يكن زنجياً أصيلاً ، إنه لا شك مولودٌ مهجن ، والغريب …. الغريب " وصمت الرجل متفكراً …" الغريب هذه الآثار التي كانت في باطن كفيه ، هناك آثارٌ لثقوبٍ في كلتا الكفين ، وكأن أحدهم قد عبث به فثقب كفيه بالمسامير .
مسكين … مسكين هذا الزنجي الحقير ….‍!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لما تعزم الكراش على سينما الصبح ??


.. موسيقى وأجواء بهجة في أول أيام العام الدراسى بجامعة القاهرة




.. بتكلفة 22 مليون جنيه.. قصر ثقافة الزعيم جمال عبد الناصر يخلد


.. الكلب رامبو بقى نجم سينمائي بس عايز ينام ?? في استوديو #معكم




.. الحب بين أبطال فيلم السيد رامبو -الصحاب- ?