الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فلنتثقف أولا ...

خليل محمد الربيعي

2011 / 2 / 12
مواضيع وابحاث سياسية


صنمُ الثلج العملاق
يذوب وينهار
في أحشاء الظلمة
مَن كان يصدق أنّ الكلمة
تتفجر أحيانا كالبارود
لتحطم أعمدة الطغيان
لكنّ المصباح المجهول أنار الشاطئ
وأزاح الليل..ومن هذا الدفء الهادئ
بدأت عاصفة الذوبان ..

إن الثالوث المُرعب لأي حاكم مستبد ّ هو (الثقافة الواعية – البرلمان الفاعل – الإعلام الحر) وكل هذه المظاهر، إن وجدت، تمثل مكبراتٍ لصوت الشعب الحي كلما أطلق صرخته بوجه الظلم. ولذلك ترى الطغاة والمستبدين يمهدون لبقاء تحكمهم وتسلطهم منذ البداية بثلاثة إجراءات وقائية مضادة: بتجويع الشعب أولا ومحاصرته كي ينشغل عن طلب العلم والثقافة، ثم بشراء الذمم وإنشاء برلمان من المرتزقة الذين باعوا نفوسهم واتبعوا بوصلة أطماعهم الذاتية المحدودة، وأخيرا بتجنيد الإعلاميين لخدمة الحاكم وكمّ أفواه المخالفين والمنتقدين وجعل المؤسسة الإعلامية شعبة تابعة لوزارة الداخلية في الدولة ونصبها لتؤدي مراسم التحية والتعظيم كلما طــُـلب منها ذلك كما تـُنصب ساعات الميادين العملاقة عند رأس كل ساعة لتؤدي نغمة مبرمجة بعينها.
ولأنّ الحكام لا يستطيعون أن يمنعوا جميع المتطلعين للتعلم والتثقف برغم التجويع والحصار وتضييق مجالات طلب العلم، فإنهم غالبا ما يلجأون إلى تسخير مؤسسات التعليم لتنشئة جيل من المتعلمين المستعبَدين الذين يخدمون أغراض الحاكم ويعملون على تحسين صورة النظام ويلبسون الحق بالباطل متى اقتضى الأمر، وهم في الحقيقة نتاج تلاعب جيني خطير يقوم به النظام الدكتاتوري ليحدث تحولا ًخبيثا ً في نمو البراعم الثقافية لتخرج أشجارا ً مشوهة ً (طلعها كأنه رؤوس الشياطين) يأخذ الحاكم من خشبها كلما أراد ليصنع منه أقفاصا ً لسجن أصحاب الفكرة الحرة... فإذا استطاع محظوظ بعد ذلك أن ينجوَ وينتزعَ نفسه من مقصلة الجوع ويهرب من مختبر التشويه الثقافي، عمل النظام على محاربته وتغريبه في وطنه ثم تخوينه وسجنه انتهاء بتصفيته..فإن أمكنه الهرب خارج الوطن لوحق وطـُلب حتى يعيش في هروب دائم وهو في المهجر يجترّ بين الحين والآخر الآمال الكـِـذابَ لينسى مآسي الواقع الأليمة....هذه باختصار دورة حياة المثقف في دول الإستبداد والقمع.
نترك المثقف المهجـّر في حالة انفصامه ونرجع إلى الوطن لنستكشفَ حال الفريسة الثانية للنظام الدكتاتوري: البرلمان الذي كان من المفترض أن يمثل الشعب من خلال أعضائه المنتخبين، لنجدَ المال المسروق من قوت الشعب الجائع يـُصرف بسرف لجذب هؤلاء (المؤلفة قلوبهم) وشراء أصواتهم وضمائرهم، ونرى المقاعد البرلمانية تئنّ من نتانة الفاسدين الجالسين عليها، ونشهدَ إجراء عمليات التصويت الرمزي، وفرز النتائج المعروفة مسبقا ً، وتكرار مهزلة الإجماع المطلق...إنّ مجالس الشعب في دول العالم الثالث (ومنها الدول العربية) تشبه مداجن الدجاج والبط، يكثرُ فيها الصياح والضجيج طولَ اليوم ثم يـُحمل البيض في الليل على سكة متحركة ليـُعبـّأ ويشحن إلى بيت مال الإقطاعي (الحاكم) من الباب الخلفي..أما الشعب المسكين الذي ينتظر البيض أمام المدجنة فيـُردّ عليه في الصباح بأن الإنتاج كان قليلا ً بسبب (الظروف الراهنة والمنعطف التاريخي الحالي)، ثم تـُعطى الوعود الكاذبة وتـُحفزُ الجماهير على التبرع بالمزيد من العلف كمجهود شعبي... لذلك لا يستغرب المراقب لسقوط الدكتاتوريات المختلفة من تفتت البرلمانات السابقة وذوبانها حال سقوط النظام، وكأنها لم توجد أو كأنها مجرد خيالات وأوهام لدمى كانت في يد الحاكم وأعوانه يحركونها ويديرون تصرفاتها أمام الشعب حتى يـُخيـّلَ إليه من سحرهم أنها تسعى..فبمجرد ذهاب الحاكم وفشل منظومته ينتهي السحر ويعود كل نائب كان في المجلس إلى حقيقته الأولى ومنزلته الواقعية كما تعود سندريلا إلى حقيقتها المتواضعة بعد أن تدقّ الساعة الثانية عشرة..فترى العائد إلى عمله كرقــّاع أحذية أو بيـّاع عتيق أو سائق أجرة أو مزوّر في سوق المزورين..أما مرتكبو الجرائم وأرباب الفساد الذين يخشون العقاب من الشعب فيتخلون طواعية عن جنسيتهم ليلتحقوا ببلدان أخرى مستخدمين تأشيرات الدخول (الخضراء) التي طالما جمّعوها بكل الطرق عندما كانوا نوّاباً.
أما الإعلاميون فلا يبقى منهم إلا بيّاعو الكلام المنمق والمعسول (فيما يتعلق بالنظام وتصرفاته)، وأرباب الالتفاف على المنطق وتزوير الكلمة وتفصيل الألقاب على مقاييس الحاكم. فالهزيمة الصريحة انتصارٌ يجب الاقتناع به، والفشل الحضاري مرده إلى تآمر القوى الاستعمارية، وانخفاض مستوى الفرد سببه التقشف الخفيف الذي سيفضي قريبا ً إلى الثراء للجميع، وهذه الظلمات التي تلف المدن والنواحي هي ضياء من نوع جديد لا يبصره إلا المؤمنون حقا بالنظام ومبادئه..فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها....وإن وجدت مؤسسة إعلامية أجنبية تتبنى النقل الحر للأحداث من غير حذف ولا مونتاج، حوربت وشـُنـّع عليها في شاشات التلفاز الحكومي والصحف اليومية، أو ضـُيّق عليها في عملها فلا يستطيع مراسلوها التنقل بحرية في البلاد، أو قـُطع بثها لتـُنقل الأحداث من خلال إعلام الدولة إلى الشعب لا كما وقعت تلك الأحداث ولكن كما يريد لها الدكتاتور أن تكون وقعت.
إن الإعلام والبرلمان إذا تمت مصادرتهما من قبل الحكام المستبدّين فإنهم سيأمنون أن يأتي يوم يقوم فيه الشعب ثائرا على حكومته أو ناقما عليها أو مطالبا بالحقوق المشروعة..وسيستمر حكمهم ما شاء الله أن يستمر..إلا أن المثقفين..العنصر الثالث..هم المشكلة القائمة دوما في خواطر هؤلاء الحكام وعقولهم..فمهما كـُبتت الثقافة وكـُممت الأفواه الحرة فلن تتوقف عقول المفكرين وقلوبهم عن التطلع للحرية ومحاولة تغيير الواقع..ومع أول غفلة من النظام عن المثقفين الأحرار ينتفضُ هؤلاء ليضخوا في الشعب قوة جديدة ويفتحوا أمامهم آفاقا كانت مغيبة عنهم ويخلقوا لهم أسماعا وأبصارا فيسمع الشعب من خلالها ويرى..وكأنّ المثقفين والمفكرين الشباب قد أصبحوا يمثلون صاعقَ التفجير للثورات العربية..وهذا ما حصل في الفترة الأخيرة عندما ثار الشعب التونسي والشعب المصري بوجه الظـَلمة المعمّرين، الذين غفلوا عن المفكرين والمثقفين (وخاصة من الشباب) واقتنعوا بأن الصغار لن يفعلوا ما عجز عنه آباؤهم..ونسوا أنّ الصغار المتسلحين بالإنترنت والـ Facebook والـ Twitter ليسوا صغارا..وأنّ العصر الحديث قد حكم عليهم بأنهم ليسوا من أهله وأنه لم يبق على حاله فلا ينبغي لهم أن يبقوا على حالهم فيه...وبدا أنّ كل حاكم مستبد قد صـُدم من الأحداث ولم يعترف بأن هذا (الكارت الأحمر) مرفوع بوجهه هو..فنراه أصبح خارج اللعبة ولا يزال يعترض بأنـّه بات قريبا من تحقيق الهدف..لكنّ الرئيس الذي ظل يرتضع من ثدي الرئاسة على مدى تلك السنوات لم يعد حــِجرُ الرئاسة يتـّسع له !.. والشعبُ الذي لم يخف من لسان التهديد والوعيد عندما فجـّر الثورة لن يمنعه اليومَ من المضيّ في ثورته مَن بات يتحدث إليه بلسان الشحاذين..
ومع أنّ الثورات العربية الحالية أصبحت كالعدوى تنتقل من بلد إلى آخر لقرب الموقع الجغرافي وتشابه الحال مع الحال، إلا أنّ بعض المحللين المتفائلين أبعدوا في تفاؤلهم عندما رأوا إمكانية قيام ثورات مماثلة لتلك التي حدثت في تونس ومصر في بلدان عربية أخرى كالعراق ودول الخليج..ولا أدري من أوحى لهؤلاء المحللين بتلك الآراء التي لا تنمّ عن فهم صحيح للثورات الحالية ودوافعها..فعندما نتحدث عن الشعب العراقي نتحدث عن شعب عانى من أقسى وأعتى السياسات الدكتاتورية الفاشلة على مدى عقود من الزمن، كان من نتائجها ما نراه اليومَ من شيوع الأميّة في أكثر من 60% من الشعب (بحسب أكثر الإحصاءات تفاؤلا)، وغياب شبه تام للخدمات الأساسية، وتشتت وتفرق وتنازع يكاد يظهر حتى في الأسرة الواحدة، وبرلمان (كانتونات) كل حزب فيه بما لديهم فرحون، وحب للرئاسة وتطلع لها يتجلى حتى عند الأطفال في ألعابهم (إما أنا أو لا ألعب)، ورفض وإنكار عام لمبدأ لتداول السلمي للسلطة، واختراق مخيف للأجهزة الأمنية، وأهواء وشهوات لا يمكن الجمع بينها وتطبيقها إلا إذا تم تعيين 28 مليون رئيس في العراق (وهو تعداد الشعب العراقي)..إننا نتحدث عن بلد تم تخريبه على مدى عقود طويلة فهل يمكن للمظاهرات أو الثورات أن تعيد بناءه؟ على أنّ المضحك في العراق هو أنّ السلطة الحاكمة فيه اليومَ هي التي تدعو المواطنين إلى التظاهر والمطالبة بالحقوق، فرأينا مظاهرات هنا وهناك خرج فيها بعض الموظفين (وكثير منهم منتمون لأحزاب حاكمة) ورفعوا الشعارات التي تطالب بالخدمات وزيادة الرواتب وتم تصويرهم في عدة محافظات بشكل تمثيلي مكشوف..وكأنّ القهر والإجبار قد كـُتب على الشعب العراقي حتى في ممارسة الديمقراطية والحرية.. إنني لا أدعو الشعب العراقي إلى اليأس ولكن لنكن واقعيين: إذا كان الثوار المصريون قد احتشدوا في ميدان التحرير وقضوا الليالي الكثيرة على ضوء مصابيحه الساطعة، فأين سيجتمع ثوار العراق –إن ثاروا– وكيف سيرى بعضهم بعضا ويراهم العالم إذا لفـّهم ليل بغداد الحالك بسبب انقطاع الكهرباء المزمن؟..ثم هل يستطيع العراقيون اليوم أن يغيروا– بثورة هنا وهناك– واقعهم السياسي الذي توافقت عليه وترعاه أكثر من خمس دول إقليمية وعالمية بمخابراتها وميليشياتها ونفوذها في العراق؟؟ ومن سيقوم بالثورة أو يفجرها؟ أهم المثقفون المنتفعون سابقا الذين شـُرّدوا واجتـُثوا ولا يهمهم اليوم سوى التحريض وإشعال الفتن من أجل استرجاع مكانتهم الغابرة ولو كان ذلك على أنقاض وطنهم وجثث أبناء شعبهم؟ أم همُ المثقفون المشردون سابقا والعائدون ليعوضوا ما فاتهم تسوقهم لغة الانتقام وتملؤهم أفكار انفصامية مركزة بعيدة عن الواقع كالتي تملأ خيال المراهقين وهم يمارسون العادة السريّة؟ من ؟؟...ومع هذا تتعالى بعض النداءات الآن لجعل يوم 25 شباط الحالي يوم الغضب العراقي.....والله يستر.
أما دول الخليج العربي فلا يوجد فيها أي دافع لثورة أو مظاهرة فالمواطنون هناك يعيشون حياة مترفة مترهلة، والوظائف مضمونة، والسوق ملآنة بكل البضائع العالمية (بما فيها الأعضاء التناسلية الصناعية)، والسفر مفتوح للسياحة والمتعة، والخدَم متوافرون وجاهزون لإرضاء أي رغبة، وتندرج في قائمة هؤلاء الخدم طبعا الأساطيل الأمريكية المحتشدة في المياه والأجواء (الوطنية) للحماية والمراقبة..ولا تقل لي أن الشعوب التي مافتئت تلح وتسأل الشيوخ والمُفتين على شاشات التلفاز منذ اندلاع الثورة التونسية ومن بعدها المصرية السؤال التالي: هل يمكننا الإعتقاد بأن ما يحدث من ثورات الشعوب على حكامها هو من أشراط الساعة ونذير بقرب يوم القيامة؟؟ لا تقل لي أن هذه الشعوب تفكر حقا في تقليد تلك الثورات (الآثمة)...!!
على أنّ نتائج ثورتي تونس ومصر لم تتبين بعدُ وقد يكون من العجلة المذمومة أنْ تحاول الشعوب العربية الأخرى محاكاة هذه الثورات والمضي خلفها فربما انجلت هاتان الغمامتان قريبا ً لنرى أنّ ما حصل في ذينك البلدين لم يكن ثورة بل كان كارثة حقيقية...وعلى كل حال إذا كان لنا أن نفجر ثورة فلنصنع جيل الثورة أولا...فلنتثقف.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إدارة بايدن وإيران.. استمرار التساهل وتقديم التنازلات | #غرف


.. ناشطون يستبدلون أسماء شوارع فرنسية بأخرى تخص مقاومين فلسطيني




.. قطر تلوح بإغلاق مكاتب حماس في الدوحة.. وتراجع دورها في وساطة


.. الاحتجاجات في الجامعات الأميركية على حرب غزة.. التظاهرات تنت




.. مسيرة في تل أبيب تطالب بإسقاط حكومة نتنياهو وعقد صفقة تبادل