الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أعطوا الناس فرصة...ثم احكموا

نجيب المدفعي

2004 / 10 / 7
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


قبل عدة سنوات كنت أسير في أمسية شتائية بسيارتي في شارع (6) في منطقة الشيخ معروف بكرخ بغداد. كانت السماء ملبدة بالغيوم و قد بدأت قطرات المطر تتساقط، عندما مررت بشيخ قد وقف على جانب الطريق و هو يومئ بيده لإيقاف سيارة أجرة. فدفعتني أريحيتي للتوقف له لاصطحابه و تخليصه من الجو الممطر. ظن الرجل أني سائق أجرة وقفز إلى الداخل. رحبت به و أخبرته عن وجهتي و كوني لست سائق أجرة. شكرني الرجل، و راح يغمغم بكلمات تنم عن تململه من وضع البلد و الحال الذي وصل له العراق. تملكني الخوف منه و صنفت الرجل على إنه أحد منتسبي أجهزة الأمن العديدة التي تملأ البلاد، الذين من عادتهم استدراج الناس للكلام لانتقاد نظام صدام و من ثم تغييبهم. بدأت أحاول أن أطيـّب خاطره و الرد بحذر و أنا ألعن أريحيتي التي سوّلت لي التوقف لهذا الرجل.

إلا أن الرجل تمادى في لعن و شتم نفسه على وجه التحديد، مما أثار استغرابي. فسألته: و لم تشتم نفسك يا عم؟ هنا بدأ يقصّ عليّ ـ و بألم و ندم ـ حكاية تعود إلى مطلع ستينات القرن الماضي و التي تقول: أن هذا الرجل كان أحد المؤيدين أو المنتمين إلى حزب البعث. و بما إنه كان في عنفوان شبابه فقد كان واحد من (شقاوات = بلطجية) الكرخ، و هي نوعية الناس التي كانت ـ و ما زالت ـ تعتمد عليها الأحزاب العراقية، بهدف إثارة القلاقل و تسيير المظاهرات و تهديد وابتزاز الخصوم و ربما تنفيذ التصفيات الجسدية. و كان صاحبنا هذا يقوم بإثارة كافة أنواع المشاكل التي يطلب منه البعثيون افتعالها للتأثير على حكومة عبد الكريم قاسم و عرقلة عملها.

و يبدو أنه ألقي القبض عليه في إحدى المرات التي كان يثير فيها القلاقل، و لينتهي به المطاف إلى إحدى المحاكم حيث صدر بحقه حكم الإعدام. و يستطرد الرجل فيقول إنه قبع في السجن لبعض الوقت و هو يترقب تنفيذ الحكم بحقه. و فعلا جاء ذاك اليوم، حيث أخرج من زنزانته و اقتيد إلى مصيره المحتوم.

إلا أن المفاجأة الصاعقة بالنسبة له كانت هي انه وجد نفسه في مكتب عبد الكريم قاسم و في مواجهته بشحمه و لحمه. يقول، كانت جميع فرائصي ترتعد و أنا بمواجهة هذا البعبع كما كان يصفه لنا الرفاق الحزبيين، دعاني الزعيم للجلوس وقدم لي الشاي و السكائر، وتبسط معي في الحديث. سألني عن عائلتي و أولادي و عملي و السبب الذي يدفعني للقيام بأعمال مخلة بالأمن العام، فلم أتورع عن أجابته بخشونة مستخدما العبارات و الاصطلاحات التي درج على تلقيننا إياها مسؤلينا البعثيين في التهجم على الحكومة.

بقي الزعيم على هدوئه ـ والكلام ما زال لصاحبنا ـ و قال لي:" ابني ليش ما تنطونا مجال نندل دربنا حتى نخدم هذا البلد، ليش تشتتون جهد الدولة على شغلات ما من وراها فائدة. أعطونا فرصة و بعدين أحكموا علينا". ثم مد يده إلى جيبه و أخرج مبلغا من المال دفعه لي، و أمر بإطلاق سراحي.

بعد عودتي إلى المنزل و عائلتي صار المهنئون يتوافدون عليّ، و كان من بينهم الرفاق البعثيين الذين بلغوني بوجوب خروجي في اليوم التالي في مظاهرة حزبية و لكي أقوم بنفس الأعمال التي كنت أقوم بها قبل اعتقالي. هنا جن جنوني و رفضت الانصياع لهم و قطعت كل علاقة لي بالحزب، و صورة عبد الكريم قاسم و هو يحدثني و من ثم يعفو عني ترتسم أمامي.

بعد أن قصّ الرجل عليّ الحكاية عقب قائلا: هل عرفت لم أسـُبّ نفسي والقائد الضرورة؟ لأننا أناس متسرعين سطحيين، لا نعرف رعاية مصلحتنا الشخصية و الوطنية تحركنا شعارات براقة و وعود كاذبة، و لولا ذاك ما كنا بطشنا بعبد الكريم قاسم لنستبدله بصدام حسين. كان يقولها بحسرة و ألم كأنه فقد عزيزا.



إلى هنا انتهت حكاية الرجل و لكنها تثير عدة أسئلة و ملاحظات. لماذا يمتاز الناس في بلادنا بسرعة إصدار الأحكام في كثير مما يواجههم في حياتهم الخاصة والعامة؟ و لماذا تتطاير التهم والشتائم حتى عند حدوث شجار عائلي بسيط؟ و لماذا لا يملكون أنفسهم عند الغضب؟ مع إن ثقافتنا ـ في ما ندعي ـ الإسلامية تقوم على مبدأ (يا أيها الذين أمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) صدق الله العظيم. أي إن العنصر الأساسي في التعامل مع الأزمات هو الحُـلـُم و استخدام العقل و المنطق، فهل نحن مسلمون؟

مشكلتنا جميعا حاجتنا إلى الإنصاف. و لا إنصاف بلا ضمير، و في الإنصاف ينتصر الإنسان على أنانيته لصالح الآخر (حـُب لأخيك ما تحب لنفسك). أولى علامات الأنصاف: التريث في إصدار الأحكام. من لا أخلاق له، لا قدرة لديه على الإنصاف، و من ثم، فمن لا تربية له لا إنصاف فيه لغيره. الإنصاف هو عمل عقلي، لذلك قلّ ممارسوه، لأن رغبة الناس في استخدام العقل استخداما يوميا قليلة إن لم تكن معدومة.



أنا لست مع الحكومة العراقية و لا ضدها، لكن من الإنصاف أن نعطي القائمين عليها فرصة ليثبتوا صدق نواياهم. إذ من غير المعقول أن نحملها مشاكل فوق المشاكل التي تواجهها و هي لم تبلغ من العمر بضعة أشهر. إلا أنه من المعقول عدم السكوت على أخطاءها، لا من باب التشهير و لكن لمساعدتها في تلمس طريقها إلى ما فيه خيرنا جميعا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تحت غطاءِ نيرانٍ كثيفةٍ من الجو والبر الجيش الإسرائيلي يدخل


.. عبد اللهيان: إيران عازمة على تعميق التفاهم بين دول المنطقة




.. ما الذي يُخطط له حسن نصر الله؟ ولماذا لم يعد الورقة الرابحة


.. تشكيل حكومي جديد في الكويت يعقب حل مجلس الأمة وتعليق عدد من




.. النجمان فابريغاس وهنري يقودان فريق كومو الإيطالي للصعود إلى