الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أوديب في ميدان التحرير

روجيه عوطة

2011 / 2 / 13
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


رغم ما يقال عن أن الشبكة الإفتراضية تشتت الرغبات وتحولها تحويلا ً رقمياً، إلا أن رغبات الشارع المصري ظهرت بشكل أقوى من ما كانت عليه أمام شاشة الحاسوب. في عالم الإفتراض، تشتت الليبيدو الجماعي ليعود ويجتمع في نسيج رغبوي يتعامل مع العلامات القامعة بفعل أكثر تمردا ً على واقع المحن والإستغلال.
في مصر، الرغبة تسيطر على الشارع بشكل جديد، إذ تدفع كل من تجوّهر في الهامش الى الوقوف وجها ً لوجه ضد المتن.
سؤال الثورة ليس بحثا ً في الـ"لماذا" بل حفرا ً في "الكيف" المرتبط إرتباطا ً كاملا ً بتسارع الأحداث الخالقة لجو لا يمكننا إلا أن نصفه بالأوديبي المضاد لعقدة نقص تاريخية تجذرت في وعي كل الشعوب، التي اعتُبرت فاقدة لحس التحرك النقدي، المتموقع منذ إرهاصات الوعي في جسد حاله كحال المجتمع المهمش، جسد رغبته طارئة، وواقعه يفتح الباب لسكيزوفرينيا الكشف عن إخفاء الرغبة في خطاب يرتد الى بنى معرفية تحددها السلطة بآليات فكر حديدي يكره الإختلاف لأنه مشبع بالقوة الإيروسية الضاغطة على الوحدة المؤسساتية للسلطة القامعة.
من شأن الوعي المضاد أن ينصف المضطهدين، يُشَرِّح الإستغلال ويكشف مصدره الظالم، فيصير لأوديب فكر متشاءم ربما، ولكنه متفاءل بإرادته الغير ملوثة بالذنب بل الدؤوبة على تحقيق "العدالة الشعرية"، برموز تُخلَق من تساؤل حر، إذ ينظر إليها فكر المتن-الأب أنها مجرد عمل سوريالي لا جدوى منه، فأوديب قبل أن يُلعَن بالذنب كان شاعرا ً، وفي ميدان التحرير أوديب يكتب شعرا ً ضد عقدته المقترنة بخط تاريخي مستقيم، يمنعه من التحاقه بخطه التاريخي المكسور لأنه محكم الرغبات، المؤطرة في التصرفات اليومية، ففن الحياة فن الرغبة خارج التنميط، الذي يجعل من الفرد صنيعة السلطة فقط لا غير.
صيرورة الهامش الأوديبي، الذي نشهده اليوم في مصر، بثقافته وشعره وفنه، يمظهر عمل اللاواعي بتكاثر الرغبات، تعدديا ً وتفكيكياً، وليس عبر التقسيم والتراتبية الهرمية، التي خطّت خانات السلب في الحياة الفكرية اليومية، وحدّت من إقتراب الشارع من الإختلاف بجعل الرغبات حشوا ً في خدمة الأحادية الأبوية الثابتة، أي حدّت من اقتراب الرغبة من إبداع واقعها. لا تجمع التراتبية مكونات الهامش الأوديبي، بل ما يجمعها هو فعل التحرك نحو فك الفردنة كشكل من أشكال صناعة التماثل الإجتماعي مع صورة الأب.
الجسد الأوديبي له حصته في ما يحصل، فالناظر الى بعض اليافطات، يجد فيها حس رغبوي كبير، فبالإضافة الى أنها تعبر عن مطالب سياسية وإقتصادية، تحمل معنى جسدي أيضاً، إذ نجد فيها العلاقة بين الرغبة والجسد، كتلك التي كان يحملها أحد المتظاهرين، كتب عليها:"إرحل أيها الديكتاتور أريد أن أحلق شعري"، ما يدلنا على التعطيل الفيزيولوجي لوظائف الجسد ورغباته الأكثر بساطةً، فالسلطة القامعة تحوّل أجساد المقموعين الى زومبيات، كأوديب عندما أصابته عقدة موت الأب، فتحول الى جسد بلا أعضاء، جسد يسكنه جسد الأب الميت. أجساد الثائرين في مصر لا يسكنها سوى رغبات إبداعية، عفوية، لا تتناقض لأنها لا تشكل تابعا ً للمتطابق مع متن حالة الطوارئ الإجتماعية والجسدية أيضاً.
ولأن رغباته هي الواقع، فأوديب يسعى الى هدم كل زيف النظام الذي يعيش فيه، إذ يصاب بالإنفصام عنه، ويدحض التمثلات التي تسكنه وتحيط به من كل الجهات، فانسيابه اللانهائي يشكك في مفاهيم تقييد حركته الفكرية التي تنشأ عن ممارسة التحليل كرغبة تحقيق التعددية وتعزيز الفكر الغير محدد دوره في التمعن والتأمل فقط، بل بالتمدد الدائم داخل كل نسق يجده أوديب مصدرا ً للذاكرة المذنبة، وداخل كل بنية تجعل منه رقما ً لا رغبة له. على إثر الحالة الفصامية هذه، لا يصبح أوديب خارج الجماعة فقط بل خارج عقدته التاريخية، وبالتالي لا تكون أفعاله مجرد ردات فعل، بل أفعال خلاقة. في ميدان التحرير أوديب ليس أوديبياً.
ضد الحقيقة الرغباوية المفروضة عنوة ً على مجتمع الأسفل، يقف اليوم كل ثائر في مصر موقف الأوديبي المضاد لكل شكل من أشكال الإرهاب، أكان الإرهاب التنظيري المحض، صنيعة الوسائل الإعلامية الرسمية، أو الإرهاب التطبيقي القمعي صنيعة الاجهزة الأمنية التي بانت على حقيقتها العنيفة خلال الأيام الأولى للثورة.
هؤلاء الشباب الثائرون على السلطة والمتمردون على كل حالات تحديد وتنميط رغباتهم وحاجاتهم يمتلكون الوعي الكامل الذي يخولهم التصدي لكل أنواع الأحادية في المجتمع المقسوم على عمود الشلل الاقتصادي، الاجتماعي، والسياسي. هذا ما يدفعنا للقول أنهم جعلوا من كل البنى التي تقسّم رغباتهم عدوا ً لا بد من ضحض حقيقته أولا ً والتخلص منه ثانيا ً، فهم ضد هذا الجسم المضلل الذي أوقع الكثيرين في حب السلطة.
يقف أوديب في وسط ميدان التحرير، لا يقوم بفقأ عينيه، بل بالتخلي عن عقدة ذنبه التاريخية، ولأنه غير مذنب يسير في اتجاه تحقيق كل رغباته. لطالما كانت مصر، أم الدنيا، تلد أولادا ً يعاقبون الأب، لكن هذه المرة الأولاد ليسوا مذنبون.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيديو يُظهر ما فعلته الشرطة الأمريكية لفض اعتصام مؤيد للفلسط


.. النازحون يعبرون عن آمالهم بنجاح جهود وقف إطلاق النار كي يتسن




.. مسؤول عربي لسكاي نيوز عربية: نتنياهو ولأسبابه السياسية الخاص


.. ما آخر التطورات وتداعيات القصف الإسرائيلي على المنطقة الوسطى




.. ثالث أكبر جالية أجنبية في ألمانيا.. السوريون هم الأسرع في ال