الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نكسة العرب حزيران 1968

علي الأمين السويد

2011 / 2 / 17
كتابات ساخرة


"حـــب الوطــن ما أجمله"، كلمات طالما صدح بها صاحب الصوت الدافئ وديع الصافي رحمه الله، فتعيد شحذ محبة الوطن في القلب وتضفي على الشعور المنبثق قدسية تصفّي القلب من هنّات القهر والمعاناة "هنيهة" على الأقل.
فالكل يحب وطنه، فمن ذا الذي لا يتعلق قلبه بمسقط رأسه – وطنه، ومن ذا الذي لا يشعر بكمال كينونته حين ينظر يمنة فيرى أقرباءه، وينظر يسرة فيرى أحباءه من الجيران من الوجوه المألوفة وغير المألوفة التي يشعر بأنه يعرف أصحابها جميعهم، ويشعر بأنهم يعرفونه ، ويحبهم، بالرغم من كونهم على غير لهجته، أو مهنته، أو ديانته، أو مذهبه، فالمهم عنده هو هذا التشارك، الذي لا تستقيم الحياة بدونه، في الماء والهواء والأرض والجدران والأهم من هذا وذاك التشارك في المواطنة.
المواطنة لا تعني فقط العيش في نفس البقعة من مكان ما مع أناس آخرين، بقدر ما تكتمل معانيها بأن يفعل المواطن ما بوسعه لخير مواطنيه، فيرتد ذلك إيجاباً على المحيط القريب والبعيد من الوطن الكبير.

ومن أشكال هذا الحب الأسمى الذي لا يمكن الجدال حول صوابيته، هو الدفاع عن الوطن في ساحات الوغى حيث من الممكن جداً أن يفقد المواطن حياته، أثمن ما عنده، ثمناً لحبه لوطنه الذي يضم أهله وأقرباءه وجيرانه ذوي الوجوه المألوفة وغير المألوفة ولا أعتقد أن في هذه جدال أو استثناءات، فعظم التضحيات تساوي المضحى به.
وهذا مثال عن محبٍ لوطنه يجسد المعيار الأول لحب الوطن:
السيد محمد مجند التحق في الجيش قبل نكسة حزيران 1967 ليؤدي واجبه اتجاه أرضه، و ليظهر معدن مواطنته، و يترجم وطنيته. أتته الأوامر بالتحرك لنقل حمولة من الذخيرة من قلب الجبهة إلى خطوط المواجهة برفقة ثلاث شاحنات أخرى، فوصلوا أرضاً مكشوفة، فلاح في الأفق سربٌ من طائرات آل صهيون، فقضت إجراءات السلامة البديهية أن يتوقف السائقين لينجوا بأنفسهم، ومن ثم استكمال المهمة إذا نجوا من قصف الطيران، وفعلاً استطاع المجندون الثمانية الوصول إلى ساتر يقيهم من ضربات الطيران التي لم تبق ولم تذر شيئاً من الشاحنات الأربع اللواتي أصبحن أثراً بعد عين...
تتسارع الأحداث، ويكتشف الجنود الثمانية وغيرهم بأنهم في الأرض المعادية آنذاك بحكم الاحتلال الصهيوني الكاسح، وان أوامر القيادة بالانسحاب الكيفي قد صدرت وانتهى حلم تدمير إسرائيل باتضاح حجم مأساة العرب الصغرى في الخامس من حزيران 1967.


إلى الآن لا غبار على مفهوم حب المواطن لوطنه، أليس كذلك؟

غير أن مقالتي هذه ليست عن حب المواطن لوطنه، وإنما عن حب الوطن لمواطنيه. هل نفهم أن على الوطن أن يقدم شهادة محبة لمواطنيه، وما شكل هذه الشهادة إن وجدت؟ الجواب نعم، والشهادة تكون بان يبادل المواطن مواطنه المحبة والاهتمام، أن يبادل الجار جاره الاحترام، أن يبادر المدير موظفيه بتقدير الأكفاء ونصح المتقاعسين بمحبة، أن يرد القائد تحية مرؤوسيه بأفضل منها، أو على الأقل أن يعامل المرء على مبدأ: ابتسم في وجهي ولا تطعمني وهي ترجمة متواضعة للمثل"لاقيني ولا تطعميني."


فحب الوطن لبنيه يتبلور حين يبارك المدير عمل موظفيه ويشيد بهم و بإنجازاتهم وبشتى الوسائل حتى على سبيل المجاملة، و يتضح حب الوطن لبنيه إن أقام مهندس مشروعاً فنال شكر وتقدير من حوله، ويفهم شكل حب الوطن لأبنائه حين تتصل سفارة بلاده لتطمئن على أحواله إن حدث كرب ما في بلد الغربة.
فما ذُكر يعتبر مقدمات غير مكلفة من الخطوات البسيطة ولكنها تؤلف قلوب أبناء الوطن وتجعل كل مواطن يفكر في مصلحة غيره أكثر من مصلحته الخاصة، و ربما تدفعه هذه الخطوات البسيطة لبذل حياته عرفاناً وتقديراً...
وهنا سأتابع قصة السائق محمد الذي انضم إلى صفوف قوى الأمن الداخلي بعد النكسة بشهرين، وصار شرطياً يخدم وطنه بطريقة أخرى.
كان يتحدث عن بطولات رفاقه في الجيش، وعن تضحياتهم وكم اقسم انه يود زيارة فلان، وربما ذرف الدمع شوقاً إلى تلك الأيام، وعن قصصه الشخصية التي عاشها طوال أربع سنوات الخدمة في أحلك ظروف الأمة. كان يتحدث والفخر والقهر يملأ صدره، فقد قدم ورفاقه أفضل ما عندهم بما ملكت أيمانهم، فما نفع شيء و ما كان بالإمكان أفضل مما كان.

بقي يشعر بالحزن على ما آلت إليه أوضاع وطنه وجيشه عاماً كاملاً آنذاك إلى أن جاءته الزلزلة أو ربما الصاعقة يوم تسلم برقية مستعجلة من قيادة الجيش والقوات المسلحة في حزيران عام 1968 تطلب إليه دفع غرامة مالية ضخمة (180 ليرة سورية) لقاء ضياعه وإهماله للقناع الواقي وللخوذة اللتين كانتا في عهدته حين تركهما في الشاحنة التي دمرها الطيران الصهيوني.

صدمة ...
خازوق ...

هل يوازي شعور الشرطي محمد شعور المغدور به؟ وهو الذي بقي يتسلل ستة أيام بين اليهود مشياً على قدميه ليصل أرض "وطنه"؟
هل يوازي شعوره شعور محب خانته عشيقته، وهو الذي بقي فاقد السمع الجزئي لأكثر من شهرين بعد النكسة الأولى؟
عقدت الدهشة لسانه ولسان زملائه على اختلاف رتبهم، فدهشتهم كانت مملوءة بالتساؤلات والتي منها : ومن يعوض شاحنات الذخيرة، ومن يعوض من استشهد؟ ما قيمة قناع واق ممزق أصلا من مخلفات الحرب العامية الثانية، وخوذة تشبه طنجرة المجدرة المحترقة؟ ومن ....؟ ومن...؟ أسئلة أخرى لا تعد ولا تحصى.
أقسم الحاج محمد أن يوم استلامه لبرقية الغرامة أضحى اشد حزناً عليه من يوم هزيمة العرب كلهم يوم الخامس من حزيران، وقال أن ذلك اليوم هو يوم النكسة الحقيقي، يوم نكسة المواطن العربي.

ورقة حقيرة واحدة وبلحظة واحدة نسفت كل معاني البطولات التي سمع بها أو مارسها أو عرفها أو تحدث عنها وصار هو ومن تلقى برقيات مماثلة يقولون يا ليتنا كنا ترابا، فقد تحول المدافعون عن شرف الأمة مذنبون بالتقصير، والدليل ضياع "محمد" مثلاً لخوذة وقناع، وربما فقد محمد آخر أو جورج أو جاسم حذائه العسكري فُعد ذلك جريمة يحاكم عليها محاكمة عسكرية. أليس الخامس من حزيران هو يوم النكسة الصغرى قياساً بنكسة حب الوطن لجنوده وحماة دياره؟

فالمعقول أن تأتي برقية تهنئ المواطن محمد وزملائه بالسلامة على الأقل، أو أن تشكرهم على ما قدموه في ميدان المعركة، تشكرهم بالكلمات حيث لم نقل حفل تكريم أو ما شابه فمصاب الأمة كان في مزاج لا يسمح إلا بالحزن. و المعقول أيضاً أن تدفع لهم رواتب الأشهر الأخيرة من الحرب التي قُنصت منهم.
ومن المعقول أيضاً أن يقوم الوطن ممثلاً بأصحاب العلاقة بالعبير عن تقديرهم لعمل محمد و أمثاله، فكيف يفهم المجند محمد، أو غيره، بأن وطنه يحبه ويحترمه؟ كيف يتقبل معاني أغنية وديع الصافي: "حب الوطن ما أجمله (في الاتجاهين)"؟

فحب الوطن مثل حب المرأة، نحبها وتحبنا وتحب نوقها جمالنا، وفي اللحظة التي تتحول عنا عيونها، نحول عيوننا عنها بالرغم من حبنا المقيم في الأعماق والذي قد لا يتبدل ولكنه بالكاد يظهر.
المواطن محمد حي يرزق وقد قارب السبعين من العمر، أمد الله في عمره، وقد ذكر لي هذه القصة بحكم انه والدي حفظه الله زهاء الخمسين مرة، وفي كل مرة كانت تدمع عينيه حين يأتي للجزء الذي يخص استلامه برقية الغرامة. وفي آخر مرة رواها لي، قلت له بعد أن تثاقلت عينيه بالدمع مستدركاً: "احمد ربك أنهم غرموك بثمن الخوذة و القناع فقط! فرد والدهشة تملئ وجهه: "وبماذا كان يمكنهم أن يغرمونني غير ذلك؟ فقلت له: "احمد ربك أنهم لم يغرموك بأرض فلسطين كاملة و الجولان"، ضحك كثيراً يحسبني أمازحه، ولكنني، في أعماقي، كنت أفكر في "لماذا لم يفعلوا ذلك؟!!!".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج كريم السبكي- جمعتني كمياء بالمو?لف وسام صبري في فيلم


.. صباح العربية | بمشاركة نجوم عالميين.. زرقاء اليمامة: أول أوب




.. -صباح العربية- يلتقي فنانة الأوبرا السعودية سوسن البهيتي


.. الممثل الأميركي مارك هامل يروي موقفا طريفا أثناء زيارته لمكت




.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري