الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءات في التنوير الألماني.. لماذا تقدمت أوروبا وتأخر غيرها؟

هاشم صالح

2002 / 8 / 10
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


 


الشرق الأوسط، 9/8/2002
كان شكيب ارسلان قد طرح سؤاله المشهور في القرن التاسع عشر او اوائل القرن العشرين: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ وانا هنا اعكس هذا السؤال لكي اصل الى نفس النتيجة. ولا اعتقد ان المثقفين العرب قد اجابوا عن سؤال شكيب ارسلان في هذه اللحظة على الرغم من كل محاولات تجديد الفكر العربي، او نقد التراث، او مراجعة الماضي.. الخ. والسبب هو انه لكي نجيب عنه ينبغي ان نعرف سبب تقدم الغير وتأخر الذات في آن معا. وفي كلتا الحالتين لم ننجح في المهمة حتى الآن على الرغم من بعض المحاولات الجادة والمخلصة هنا او هناك.. واعتقد شخصيا ان سبب الفشل يعود ليس فقط الى عدم الجرأة الى الذهاب الى اعماق الاشياء، وانما الى عدم توافر الكفاءة العلمية والفلسفية للقيام بذلك. ولا ينبغي ان نخجل من الاعتراف بهذه الحقيقة، ومن العودة الى مقاعد الدراسة من جديد لكي نتعلم طريقة التفكير العلمي بكل مناهجها ومصطلحاتها وادواتها. فهي وحدها القادرة على تشخيص المرض العربي او الاسلامي الذي نعاني منه والذي يبدو انه يستعصي على التشخيص والعلاج حتى الآن. بل انه تفاقم في الآونة الاخيرة وبخاصة بعد تفجيرات 11 سبتمبر الارهابية وما تلاها من احداث وتفاعلات.
مهما يكن من أمر فإن استعراضي لتاريخ التنوير الاوروبي لا يهدف الى شيء آخر، ولا ابغي منه فقط فهم سرّ تقدم الآخرين وتفوقهم، وانما ايضا كيف تحمل المفكرون مسؤولياتهم في لحظة ما من لحظات التاريخ تجاه اممهم، وكيف نجحوا في تشخيص عللها وامراضها.
لم تكن حالة الامة الالمانية اقل سوءا من حالة الأمة العربية بعد انتهاء حرب الثلاثين عاما (1618 ـ 1648)، وهي الحرب الاهلية الرهيبة الي دمرت مدنها وقراها وقضت على مئات الالوف من سكانها. ومع ذلك فإن الفكر العقلاني او التنويري انبثق على اثر تلك الحرب او قل نهض على انقاضها. وقد يقولون لك: هذا تناقض غريب.. لا، ليس تناقضا. فالشعوب لا تفهم للأسف إلا بعد ان تدفع الثمن. وكذلك الافراد ايضا. كان ينبغي ان يسقط ملايين البشر في حرب مذهبية طاحنة لا تبقي ولا تذر لكي يتجرأ فلاسفة المانيا على طرح سؤال واحد على مقدساتهم: اي على اللاهوت المسيحي التقليدي الموروث أبا عن جد منذ مئات السنين!
متى ابتدأ التنوير فعلا في المانيا؟ في اواخر القرن السابع عشر على يد لايبنتز (1646 ـ 1716) اي بعد حرب الثلاثين عاما بالضبط. فالانسان
لا يتحرك على ما يبدو إلا بعد ان تصل النار الى باب بيته.. عندئذ يأخذ في طرح الاسئلة: لماذا حصل ما حصل؟ لماذا مزق الكاثوليكيون والبروتستانتيون بعضهم البعض إربا إربا وهم ينتمون الى دين واحد، وكتاب واحد، ولغة واحدة؟ وهل هناك من طريقة اخرى لفهم الدين غير هذه الطريقة التقليدية المتعصبة التي ادت الى الكارثة؟
بدءا من تلك اللحظة انبثق التنوير كحركة تاريخية صاعدة ودخل في معركة شرسة وطويلة مع قوى الانغلاق والتزمت اللاهوتي المسيحي. وبعد ان حسمت اوروبا تلك المعركة مع ذاتها استطاعت ان تنطلق انطلاقة رائعة جعلتها تتفوق على جميع شعوب الارض بدون استثناء. صحيح ان التنوير الالماني لم يكن شعبيا في البداية. صحيح انه اقتصر على طبقة اساتذة الجامعات، والعلماء، وكبار الموظفين في الدولة، والناس المثقفين. صحيح ان عامة البشر ظلوا مرتبطين بالقس البروتستانتي، او بالكاهن الكاثوليكي وظلوا يتشربون تعاليمهما وكأنها نازلة من السماء.. ولكن عن طريق تعميم المدارس، والجامعات، والصحافة، وانتشار المعرفة بواسطة الكتاب المطبوع على نطاق واسع راح التنوير ينتشر تدريجيا حتى وصل الى شرائح واسعة من الشعب الالماني. ويمكن ان نقول الشيء ذاته عن بقية الشعوب الاوروبية.
لا ريب في ان التنوير الالماني كان تابعا في مراحله الاولى للتنوير الفرنسي والتنوير الانكليزي. كان تلميذا للفلسفة الديكارتية من جهة، ثم لعلم نيوتن وفلسفة جون لوك من جهة اخرى. وقد اخذ من ديكارت وضوح المنهج، والشك، والتمحيص. كان يقول بما معناه: لا يمكن ان نقبل بصحة اي رأي او مقولة حتى لو كان صاحبها بابا روما ذاته او مارتن لوثر ذاته ان لم نضعها اولا على محك النقد والغربلة والتفحص العقلاني. نقول ذلك باعتبار ان بابا روما يمثل اكبر هيبة دينية بالنسبة للانسان الكاثوليكي، ومارتن لوثر اكبر هيبة دينية بالنسبة للانسان البروتستانتي. لم تعد هناك اي هيبة فوق هيبة العقل وبخاصة في ما يتعلق بالشؤون الدنيوية والسياسية والاجتماعية. واما علم نيوتن فقد اصبح النموذج الاعلى لكل معرفة دقيقة في عصر التنوير. ألم يكتشف نيوتن القوانين التي تمسك الكون؟ ألم يوضح لنا القوانين الابدية التي تتحكم بالمادة الفيزيائية والاجرام السماوية، وهل هناك من علم فوق علمه؟ على هذا النحو راحوا ينقلون منهجية نيوتن الى مجالات اخرى غير مجال الفلك والفيزياء. فبما انها اثبتت فعاليتها بشكل لا يدحض هنا، فلماذا لا تثبتها في مجال الفلسفة، او السياسة، او حتى الاخلاق والدين؟ بدءا من تلك اللحظة اصبح الفكر الاوروبي تابعا للفكر العلمي الفيزيائي الدقيق. ولا تزال هذه السمة تلاحقه حتى الآن. لا يمكن فصل الفلسفة عن تقدم العلم منذ ديكارت او كانط وحتى الآن. ولذلك قال بعضهم: لولا نيوتن لما كان كانط!
وقد يقول قائل: ولكن فلاسفة القرون الوسطى من امثال توما الاكويني وابن رشد والفارابي وسواهم كانوا عقلانيين ايضا. وقد حاولوا التوفيق بين فلسفة ارسطو والعقيدة الدينية. وهذا صحيح، ولكن عقلانيتهم كانت موجها اساسا باتجاه الحياة التأملية، معتبرة انها اعلى وأجلّ شأنا من الحياة الدنيوية، الارضية. كانت المعرفة الحقيقية بالنسبة لهم هي تلك المعرفة النظرية الهادفة الى فهم الحقيقة الابدية والالهية. وهذا لا يعني التقليل من اهميتهم وانجازاتهم التي كانت كبيرة بالنسبة لعصرهم. واما بدءا من عصر التنوير فإن العقلانية اصبحت تطبيقية، محسوسة، عملية. اصبحت موجهة نحو فهم الحياة الارضية، والواقع المادي وتركيبة المجتمع. اصبحت تهدف الى اصلاح العالم وتغييره، بل التحكم بالتاريخ عن طريق العقل البشري. وهنا يكمن الفرق بين عقلية القرون الوسطى، وعقلية الحداثة. والانتقال من هذه الى تلك هو الذي صنع مجد اوروبا. وبما ان المجتمعات العربية أو الاسلامية لا تستطيع حتى الآن ان تحقق هذه النقلة فإنها لا تزال تتخبط في ورطتها، في مشاكلها، في مأزقها. ولكن هذا التخبط بحد ذاته دليل على ان شيئا ما يعتمل في احشاء الداخل العربي ـ الاسلامي. هناك تخمرات وتفاعلات قد تؤدي الى الخلاص يوما ما، والى انبثاق طريق الخلاص والنجاة.
لقد فهم فلاسفة التنوير في المانيا بدءا من لايبنتز وانتهاء بهيغل مرورا بليسنغ وكانط وفيخته وسواهم عديدين، ان انقاذ المانيا من براثن التعصب والتطرف لا يمكن ان يتم إلا بعد توليد قراءة عقلانية او تنويرية لتراثهم الديني. وهذه القراءة التأويلية الجديدة ليست معادية للدين في جوهره، اي في روحانيته الصافية واخلاقيته المثالية وتعاليه، وانما هي معادية للتفسير المتعصب والظلامي للدين المسيحي. وراحوا يتهمون هذا التفسير بأنه السبب في كل مآسي المانيا وفواجعها، وذلك لأنه يؤلب الناس على بعضهم البعض ويبرر المجازر والقتل والارهاب. وبالتالي فقد آن الاوان للتخلص منه اذا ما ارادت المانيا الا تسقط في جحيم الحرب الاهلية مرة اخرى، اذا ما ارادت ان تلحق بركب الامم المستنيرة التي سبقتها على طريق العلم والعقل: أي الامة الانكليزية، ثم الأمة الفرنسية. وهذا
ما حصل لاحقا عندما استطاعت المانيا ان تتجاوز محنتها وتضمد جراحها وتمشي على خط التطور والتقدم. ومن الذي فتح لها هذا الخط؟ انهم فلاسفتها الذين تحملوا مسؤوليتهم التاريخية امام شعوبهم وضحوا بطمأنينتهم الشخصية احيانا عندما قالوا لها الحقيقة بدون مواربة او خداع. نعم ان للمثقف دورا في نهضة شعبه او أمته. نعم ان دوره اهم من دور السياسي، او قل انه يسبقه ويضيء له الطريق على الاقل.

 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مظاهرة ترفع شعار -الخلافة هي الحل- تثير مخاوف عرب ومسلمين في


.. جامعة كولومبيا: عبر النوافذ والأبواب الخلفية.. شرطة نيوريورك




.. تصريحات لإرضاء المتطرفين في الحكومة للبقاء في السلطة؟.. ماذا


.. هل أصبح نتنياهو عبئا على واشنطن؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. طبيبة أردنية أشرفت على مئات عمليات الولادة في غزة خلال الحرب