الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سقوط النمط الآسيوي للإنتاج وانتصار شباب الثورة الثالثة

مهدي بندق

2011 / 2 / 18
مواضيع وابحاث سياسية


عن سقوط النمط الآسيوي للإنتاج وانتصار شباب الثورة الثالثة وتحية للقرضاوي وجمال البنا
مهدي بندق
منذ صدورها عن وزارة الثقافة ، خصصت جريدة القاهرة مشكورة صفحتين ، يجمعهما عنوان واحد هو " معارك ومواقف " في إشارة ذات مغزى مفادها أن الجريدة الحديثة في عصرنا - أيا كانت نوعيتها - لابد وأن ُتعنى بالشأن السياسي ، لأنه في مداه العام يستدعي " الموقف " من " المعارك " الدائرة على الأرض في كل المجتمعات البشرية ، فكان طبيعيا أن تجتذب هاتان الصفحتان عددا لا يستهان به من أصحاب الأقلام الراسخة جنبا إلى جنب الأقلام الشابة ، يمارسون عليهما عمليات النقد الثقافي العام التي تعد تمهيدا ً يوطئ للإصلاح ، وقد يمضي إلى ما هو أبعد أي إلى الثورة حال توفر الشروط المجتمعية المحددة لقيامها . وهاهي الثورة المصرية الشبابية العظمى تولد تامة الخلقة والتكوين مثلما ُ ولدت منيرفا ( ربة الحكمة ) من رأس جوبيتر كبير آلهة الإغريق .
وما من شك في أن أنهارا من المداد سوف تسيل على صفحات الجرائد والمجلات والكتب تبحث في نتائج هذه الثورة المظفرة لسنين قادمة ، وهذا واجب لا مندوحة عنه . أما كاتب هذه السطور فيود أن يرصد اليوم – لدواعي البحث العلمي- أسباب تأخر تلك الثورة " الديمقراطية " الأولى في مصر وفي المنطقة العربية لقرون خلت . وحين أقول " الثورة الديمقراطية الأولى" فذلك لأن ثورة 1919 (العظيمة أيضا ً )إنما كانت ثورة وطنية ضدا على المحتل الأجنبي في أساسها ، وإن ُألحقت بها لبرالية شكلية لزوم التحول الصناعي المحدود .
على هذه الصفحة كتبتُ مقالات عديدة ،خلال الأعوام الماضية ، مجادلا في ارتهان بلادنا ً– نتيجة معطيات جيبوليتيكية - بوضع اقتصادي / سياسي معين [ يسمى اليوم في علم الاجتماع الحديث نموذج "النمط الآسيوي للإنتاج" Asiatic Mode Of Production ] حيث يتشكل هذا الوضع وفق الطبيعة النهرية ، كونها وحدة هيدروليكية واحدة يلزم للمنتجين فيها حكومة مركزية قوية ، بل وكلية القدرة ليس حسب ُ لفض النزاعات بين الفلاحين الزراع والمتصلين بهم من تجار وموظفين ومستهلكين ...الخ ، بل وأيضا لكونها – أي الحكومة المركزية - الهيئة الوحيدة القادرة على تنفيذ المشروعات الكبرى في الري والصرف والتصدير واستيراد المواد اللازمة لمباشرة وتطوير العملية الإنتاجية برمتها . ويسمى ذلك الواقع الإنتاجي في أدبيات علم الاجتماع السياسي بـ " الظرف الموضوعي " أي المعطي من قبل التاريخ والجغرافيا دون أن يصنعه فرد بعينه . ولتوضيح معنى الظرف الموضوعي ّ وقدرته عل ضبط إيقاع الناس للتصرف فقط من خلاله أضرب مثلا اندفاع الأعاصير على الموانئ البحرية ، عندها لا يمكن لراغبي الاصطياف أن يرتدوا المايوهات] وعليه فلم يكن الجمود السياسي إلا حصادا ً منطقيا ً لاستمرار هذا الظرف الموضوعي المغذي لنمط الإنتاج ذاك .
لكنني جادلت أيضا ً في إمكانية تجاوز هذا الواقع الفظ في جموده ، ولكن فقط حين يتغير الظرف الموضوعي ّ، عندئذ يمكن الحديث عن دور الناس في إحداث التغيير المنشود لإصلاح حياتهم . وكم راهن كثير من المفكرين على تجربتي محمد على وجمال عبد الناصر بحسبان أن كلتيهما سعت إلى اللحاق بالثورة الصناعية الحديثة التي من شأنها نقل المجتمع المصري من مجتمع زراعي بالدرجة الأولي إلى فضاء المجتمعات الصناعية التي يقودها نظام رأسمالي - مهما يكن مستغلا لقوى العمل المأجور – أنما من شأنه الوصول بالمجتمع لنوع من اللبرالية السياسية . بيد أنني عارضت هذه الرؤية ، مؤكدا على أن إخفاق تجربتي الوالي والعقيد قد حدث لا بسبب القيادة العسكرية ، وإنما لوصولهما متأخرتين ، بينما كانت الدول الغربية الكبرى ( مركز النظام الرأسمالي) قد أحكمت سيطرتها على الأسواق العالمية ، بما سمح لها أن تحدد شروط النمو لكل دولة من دول الأطراف، وما من شك في أن المركز المهيمن لم يكن يرى في طموحات محمد علي وعبد الناصر إلا تهديدا لمصالحه ، ومن هنا جرى إجهاض التجربتين من خلال إنزال الهزيمة العسكرية بهما . فهل كان هذا هو نهاية المطاف ؟ وهل يظل مقدرا ً لبلاد مثل بلادنا ألا تفلت من براثن ذلك النمط الآسيوي شقيق الجمود ووالد الطغاة ؟!
كتبت ُ في أكثر من مقال – على هذه الصفحة أيضا وفي عدد من المجلات المتخصصة – داعيا ً إلى التفكير فيما ألح عليه ألفن وهايدي توفللر من أن الثورة الثالثة ( بعد الثورة الزراعية والثورة الصناعية ) كفيلة بحرق المراحل لدى الأمم التي تخلفت ، وانتهيت في مقالي المنشور بجريدة القاهرة بتاريخ 12/10/ 2010 ص 14 إلى أن سؤال النهضة لم يعد مطروحا على مائدة البحث التاريخي في المرحلة الحالية بل سؤال التغيير ، على الوجه التالي :
"فهل ثمة أمل في أن ندرك أن سؤال النهضة ( بله استعادتها!) قد ولى زمنه وتلاشت شروطه وتبخرت مياه الحياة فيه ؟ وهل ثمة احتمال أن ُيستبدل بهذا السؤال العقيم أطروحة الاندماج " الثقافي" في عالمنا المعاصر المسافر على ذرى الموجة الثالثة التي تندفع بزخـْمها للمستقبل عبر ثورة المعلومات والاتصالات والإنتاج المعرفي؟ ذلك هو السؤال المنتج حقا ً، ولحسن الحظ فإن الثورة الحالية هي ثورة من نوع جديد، مفارق بطبيعته الكوزموبوليتانية لنموذج " المركزية الأوربية " الذي يشترط النهضة أولا ً ثم الإصلاح الديني ثانياً فالتنوير ثالثاً قبل الدخول في عالم الحداثة ! إنما في بحار الثورة المعرفية الحالية فإن بإمكان أي مجتمع متخلف أن يركب أمواجها قفزا ً، وسواء نجحت قفزته بدرجة امتياز أو بدرجة مقبول فلا ريب أن أفكاره ( بما فيها أسئلته) سوف تتغير" أ.هـ
كان هذا هو السؤال، ولعل شباب الـ Face Book في مصر كان يفكر فيه ويعمل على الإجابة عنه عمليا ً ، حتى أن شابا ً منهم شديد الوعي راح يكتب قائلا :
«المواطن الرقمى» Digital Citizen من أهم ملامح تكوين هذا المواطن ويمكن رصد خمسة ملامح رئيسية وذلك كما يلى: (١)أن المواطن الرقمى يمتلك سلطة دون تكليف من أحد، فهو قادر على أن يتواصل مع الأحداث الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية التى تحدث فى أى مكان فى العالم يتأملها ويدرسها ويتعلم منها ويوظفها. (٢) كما بات هذا المواطن يشكل علاقاته دون مراجعة من أحد. (٣) كذلك تتيح له التقنية الرقمية أن يكون دائم الاكتشاف والتجريب والبحث الدائم. (٤) وأخيرا، توفر التقنية الرقمية أمام هذا المواطن آفاقا من الحرية ربما لا تتاح أمامه فى الواقع وهو ما يدفعه إلى الانخراط دون قيود فيما يحقق له ما يريد. (٥) وأخيرا، يفتح المجال الرقمى أمام مواطنيه التواصل دون حدود أو قيود ويوحد بينهم، أو العكس، فيما يرونه فى الواقع الحقيقى. أ.هـ
بهذه الإجابة العملية الرائعة أقول باطمئنان : لقد تغير الظرف الموضوعي فعلا ، بدخول شباب بلادنا عالم الثورة الثالثة ، وآن لنمط الانتاج الآسيوي الجامد الراكد أن يذهب لمزبلة التاريخ ؛ وإن كان هذا لا يعني أن قوى الثورة المضادة قد استسلمت إنما هي ستحاول ما استطاعت أن تستخدم الآلية القديمة في إملاء شروطها : آلية السمع والطاعة في مستواها الخشن (= العسكرتاريا ) والناعم ( = الثيوقراطية أي حكم رجال الدين) أو بالجمع بينهما معا في حلف غير مقدس مهمته تفريغ الثورة من محتواها الديمقراطي . فهل يخيب جيش مصر العظيم آمال قوى الثورة المضادة بألا يسمح لها باستخدامه ضدا ًعلى شعبه؟ وهل يمكن للأخوان أن ينحازوا لشعبهم – بمسلميه وأقباطه – في سعيه لبناء دولنه المدنية الديمقراطية ؟ وفي هذا السياق لابد من تحية الشيخ يوسف القرضاوي على موقفه الإيجابي من الثورة ، والصديق الأستاذ جمال البنا على محاولته للتوفيق بين الفكر الإسلامي وبين المنظومة الفكرية للديمقراطية ، وإن كنت أعتقد أن كبار السن من الأخوانيين غير قادرين على النهوض بهذا الجهد بحكم النشأة والطبيعة الطبقية للجماعة ( البورجوازية الصغيرة ) ومن هنا فلقد كان المناسب في هذا السياق الذي تغادر فيه مصر ثقافة الإذعان لتركب قطار ثقافة الفاعلية أن تكون دعوته موجهة لشباب الإخوان ممن شاركوا في الانتفاضة الباسلة ، وهم أناس ينتمون إلى طبقات اجتماعية مختلفة ، الأمر الذي يسهم في دمج قواهم بقوى الثورة " الديمقراطية "الحالية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تحليل ممتاز
ياسر فهمي ( 2011 / 2 / 18 - 13:39 )
تحليل علمي ممتاز ، خاصة حين ينتهي إلى دعوة شباب الإخوان لدمج قواهم بقوى الثورة الشبابية الرامية لتأسيس دبمقراطية هفدقيقية لأول مرة في مصر


2 - قراءة رائعة للواقع المصري
ندى عمران ( 2011 / 2 / 18 - 18:26 )
هكذا عودنا أستاذنا الدكتور مهدي أن يكون موجودا في عمق الأحداث التاريخية بعقله الراجح وتفسيراته المضيئة للحظة التاريخية الفارقة ونحن تلامذته وقراءه دائما ما نجد عنده أجوبة شافية لتساؤلاتنا . وهو اليوم يجيب عن سؤال ملغز شديد الأهمية لماذا تأخرت هذه الثورة قرونا ؟ نعم لقد عرفت الجواب


3 - الشيخ القرضاوي كيف؟
مجدي فهيم ( 2011 / 2 / 19 - 18:23 )
موافق علي معظم ما جاء بالمقال عدا تحية الشيخ قرضاوي فهو من أقطاب الأخوان المسلمين وما قاله في ميدان التحرير مجرد مسايرة للثورة ولكن ما في القلب في القلب


4 - إلى صاحب التعليق الثاني
كاتب المقال ( 2011 / 2 / 20 - 13:50 )
عندك حق .. فالرجل كاد يخدعنا بخطبته حول الدولة المدنية ثم تبين أنه يضمر ما نشأ عليه طوال حياته .. وتلك هي خصائص الأخوان

اخر الافلام

.. اجتهاد الألمان في العمل.. حقيقة أم صورة نمطية؟ | يوروماكس


.. كاميرا CNN داخل قاعات مخبّأة منذ فترة طويلة في -القصر الكبير




.. ما معنى الانتقال الطاقي العادل وكيف تختلف فرص الدول العربية


.. إسرائيل .. استمرار سياسة الاغتيالات في لبنان




.. تفاؤل أميركي بـ-زخم جديد- في مفاوضات غزة.. و-حماس- تدرس رد ت