الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المصلحة العربية بين القطرية والقومية

ياسر قطيشات
باحث وخبير في السياسة والعلاقات الدولية

(Yasser Qtaishat)

2011 / 2 / 18
مواضيع وابحاث سياسية


بخلاف ما يوحي به العنوان ، تواجه الدارس عن المصالح القومية إشكاليات عديدة تكتسب أبعادها القصوى والمركبة عندما يتعلق الأمر بالحديث عن مصالح عربية منقسمة بين دول قطرية ونظام إقليمي قومي عربي ، فمرد الإرباك في مصالح الدولة العربية القائمة –كما هي بالواقع- يعود إلى حقيقة أن هذه الدول ليست من نوعٍ واحد ، فهي متفاوتة ومتباينة على صعد عديدة ، كلها مؤثرة في صياغة مصالحها ، مثل النشأة والميراث التاريخي ، وعدد السكان ، ودورة التطور ، والمساحة ، والموارد ، ودرجة النمو الاقتصادي والتقني ، والمشاركة السياسية ، ودرجة الانتماء أو الاندماج في النظام الدولي ... الخ .
وتصبح مهمة تحديد وتجديد مصالح كل دولة عربية في ظل التنوع ومدى تقيدها بالفكرة القومية أو استجابتها لقطريتها ، مهمة عسيرة ان لم تكن مستحيلة ، لذلك يصبح المطلوب عند البحث عن "المصالح العربية بين القومية والقطرية" ان نكتشف المهمة الأساسية المشتركة بين الدول العربية جميعها والتي تؤثر في صياغتها لمصالحها وسعيها لتحقيق هذه المصالح.
ان هذه السمة التي تضم هذه الدول هي قطريتها وقطرية مصالحها كمعادل موضوعي لقطرية الدولة العربية ذاتها ، على أنه من الضروري التوقف عن التعامل مع مفهوم القطرية والقومية كمفهومين مجردين ، بل على اعتبارهما في علاقة جدلية ينفي فيها الواحد الأخر في الواقع السياسي العربي الحالي ، وبناء عليه فقد وظفت الفكرة القومية كمؤسس للدولة القطرية، التي ما ان انتصرت حتى أخذت تسعى لتحقيق مصالحها عن طريق إقصاء فكرة القومية من سلوكها الفعلي ، مما أدى الى الأزمة في النظام الإقليمي العربي بين القائم والمرغوب .
منذ قرن تقريباً وشعار الوحدة –كترجمة سياسية لفكرة القومية- يتردد في الخطاب السياسي العربي ، بمختلف اتجاهاتهِ ومنازعهِ الفكرية ، وكان مفهوم "الوحدة" يتحدد في غالب الأمر بالآخر أو بنقيض الوحدة الغوي ، أي "التجزئة".
لقد اكتسب مفهوم الوحدة في المشرق العربي معنى مغايراً لذلك المفهوم في المغرب العربي ، حيث كان في الأول يعني الخلافة العثمانية ، وكانت الوحدة تعني انفصال العرب عن الأتراك لتكوين دولة عربية كبرى تضم البلدان العربية الأسيوية ، إضافة الى مصر ، وكان للبلاد العربية في المغرب وضع خاص وتصور أخر عن هذه الوحدة والقومية ، حيث أن الأخر هناك هو الاستعمار الغربي وتحديداً الفرنسي ، ومن هنا عندما طرح شعار "وحدة المغرب العربي المسلم" في النضال ضد المستعمر الفرنسي المسيحي ، برز ترادف مفهوم العروبة والإسلام في المغرب ، بينما اقتضى النضال للتحرر من سيطرة الأتراك في الخلافة العثمانية المسلمة التمييز بين العروبة والإسلام.
وهكذا أصبح الآخر الذي به يتحدد مفهوم الوحدة في الوطن كاملاً هو الاستعمار، ولكن بما أن هذا الآخر كان متعدداً تعدد لدول (الخلافة العثمانية، بريطانيا، فرنسا، إيطاليا ..الخ) وتعدد الوضع القانوني (الاستعمار، حماية ، انتداب ، وصاية ) إضافة الى تكريس التعدد داخل الوطن العربي عن طريق ربط كل قطر على حده بالمركز الاستعماري ، واقامة الحواجز بين الأقطار العربية ، حتى بين تلك التي تعاني من مستعمر واحد ، مما نتج عنه واقعياً ، تعدد التنظيم في الحركات المناضلة ضد الاستعمار بتعدد الأقطار، وهذا انعكس على شعار الوحدة من حيث ترتيبه في سلم الأولويات ، ذلك أنه لم يكن من الممكن التفكير في الوحدة الا بعد "الاستقلال" القطري الذي أصبح القضية ذات الأولوية الأولى في التشبث بالوحدة كشعار قومي ، بمعنى أصبح شعار الوحدة شعاراً يوظف في النضال القطري من أجل الاستقلال .
واستطاعت الحركات الوطنية في المغرب العربي أن توظف فكرة الوحدة توظيفاً إيجابيا في نضالها ضد الاستعمار الفرنسي ، وأدى التنسيق بين الحركات الوطنية في كل من المغرب والجزائر وتونس الى إفشال السياسة الاستعمارية بالمنطقة بدءاً من التجنيس ومحاولة فصل العرب والبربر وصولاً الى سياسة الإصلاحات التكتيكية الهادفة الى احتواء الحركات الوطنية ، وهنا أدركت فرنسا خطورة توحد كل هذه الحركات سوية لإنشاء وحدة عربية واحد في المغرب العربي ، فبدأت في عملية مفاوضات ثنائية ومنفردة بينها من جهة وبين كل من تونس والجزائر والمغرب كلا على حده ، الأمر الذي نجم عنه منح الاستقلال الوطني لكل بلد في غضون عقدٍ من الزمان بدءاً من عام 1956م وحتى عام 1962م.
وفي المشرق العربي ، ورغم اختلاف وضع الأقطار العربية عن أقطار المغرب العربي، فانه وبشكل عام يمكن القول أن تلك الأقطار وظفت فكرة القومية والوحدة لخدمة القضايا القطرية وقضايا الاستقلال لوطني ، وانتهى بها الأمر إلى إنشاء جامعة الدول العربية التي كرست الاعتراف "بالدولة العربية القطرية" التي حدد الاستعمار حدودها وكيانها السياسي والاقتصادي ، وحرمت الجامعة العربية المساس بسيادتها أو التدخل في شؤونها الداخلية ، ذلك هو البعد السياسي الواقعي والميداني لفكرة الوحدة والقومية قبل منتصف الخمسينات في النظام الإقليمي العربي .
وبعد ذلك العقد بدأت تسريبات القطرية تهيمن على مفردات أيديولوجيا الوحدة والقومية، الأمر الذي آلت إليه انتصار القطرية مقابل انحسار وإقصاء الوحدة العربية ، فقد كان لهذا المفهوم بعد أيديولوجي ظهر في الخطاب النهضوي العربي ، خاصة في المشرق العربي ، من خلال إعطاء مفهوم الوحدة مضموناً مستمداً من وحدة اللغة والتاريخ حيناً ، ومن وحدة المصير والطموح حيناً أخر ، أما في المغرب العربي فقد كان مفهوم الوحدة يستقي مضمونه الأيديولوجي حتى عام 1957م من تأكيد الهوية العربية الإسلامية لشعوب المغرب في مواجهة السيطرة الفرنسية ومحاولتها فصل المغرب عن المشرق.
ومع نهاية الخمسينات شهدت المنطقة العربية تحولات كبير في معطيات الواقع العربي ، وهي تحولات غيرت المتغيرات التي كان مفهوم الوحدة يستمد منها مضمونهِ ، ففي عام 1956م حدثت حرب السويس جراء العدوان الثلاثي على مصر ، وأخذ جمال عبد الناصر حامل لواء القومية بالسطوع ، وقويت شوكة الأحزاب والتنظيمات السياسية القومية بصورة منقطعة للنظير، ورافق ذلك قيام الوحدة المصرية – السورية والتي كانت في خلد الكثيرين مجرد خطوة أولى ستتلوها خطوات وحدوية أخرى ، وجدت عقبتها الرئيسية في كيفية تحويل الدول الوطنية الى كيانات سياسية في إطار دولة عربية واحدة ، خاصة تلك الدول التي نظامها السياسي قائمة على الملكية والوراثة ، فكان تصور عبد الناصر أن أول خطوة للاندماج العربي الكامل هي توحيد النظم السياسية العربية في صيغة أنظمة جمهورية ، وهو ما نجم عدة محاولات مصرية في إطار النظام الاقليمي العربي للخلاص من بعض الأنظمة العربية الملكية ، منها ما نجح كما حدث في العراق عام 1958م ، واليمن عام 1961م ، ومنها ما فشل مثل فشل العديد من المحاولات المصرية – السورية ، وفيما بعد العراقية ، ضد كل من الأردن والسعودية بشكل خاص ، وهو ما نتج عنه في ظل القومية الصدام المباشر بين التطلعات الوحدوية بتصورات فردية وشخصية للزعامات العربية ، وبين الدولة القطرية التي بدت في حالة الدفاع عن الذات والوجودية.
أما في المغرب العربي ، فقد استقل كل من تونس والمغرب عام 1956م ، مما يعني أن مفهوم الوحدة قد أُشبع ولا بد بالتالي من الاتجاه نحو هدف آخر لم ينفذ بعد ، هدف جديد يعطي الوحدة مضمونها ، فكان التضامن الفعلي مع الجزائر التي كانت لا تزال تخوض حرباً تحريرية ضارية ضد فرنسا ، وجاء رد فعل المغرب على الوحدة بين مصر وسوريا قويا ، إذ دعت المغرب في مؤتمر طنجة عام 1958 الى تكثيف الجهود العربية لمساعدة الجزائر على الاستقلال ، والملاحظ ان مؤتمر طنجة جاء في دلالته السياسية والتاريخية للدفاع عن مشروع الدولة القطرية في المغرب العربي ، إذ سعى الى إيجاد الجزائر كقطر مستقل يضاف الى الأقطار العربية الأخرى هناك.
أما مشروع توحيد المغرب العربي في دولة واحدة ، فقد أُحيل الى المستقبل "المجهول" ، وأصبحت الدول الثلاث بعد استقلال الجزائر تعيش حالة من التنافس والصراع الدامي ، أحيانا ، حتى هذا اليوم بسبب الاختلاف والتنافس على الحدود التي زرعها الاستعمار الفرنسي قبل أن يخرج من المنطقة ، فضلا عن طموحات الهيمنة لدول كل دولة قطرية على حدة .
ومع انهيار الوحدة المصرية – السورية في عام 1961م ، اتجهت الأمور في المشرق والمغرب على حدٍ سواء نحو تأكيد الدولة القطرية ودعم كيانها وإقصاء فكرة الوحدة بعيداً ، كمشروع مستقبلي –ان لم يكن مستحيلاً- ، وبالتالي فان ضمور شعار القومية العربية كمؤسس لمفهوم الوحدة ، قد "سجلت انتصاراً للدولة القطرية وبروزها كواقع عنيد قادر على احتواء شعار الوحدة وإفراغه من مضمونهِ الحقيقي"، وعلى هذه الشاكلة أصبحت الدولة القطرية هي "الآخر" الذي يتحدد به نفياً مفهوم الوحدة بعد أن دخل الاستعمار منطقة الظل .
وتجدر الإشارة الى ان تجليات انتصار القطرية لا تتمثل فقط بفشل محاولات الوحدة خلال عقد الستينات والسبعينات ، وانما في دخول الدول العربية في حرب عربية باردة وصراعات ثنائية وجماعية ، أغلبها حدودية وأيديولوجية ما زالت مستمرة حتى يومنا هذا ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى غياب أي مرجعية قومية في تعامل الدول العربية بعضها ببعض، أو في تعاملها مع الدول الغربية ، وهذا هو المغزى الحقيقي لموقف معظم الدول العربية من القضية الفلسطينية المتمثل في عقد أو مباركة معاهدات صلح منفردة مع "إسرائيل" من قبل بعض الأطراف العربية بما فيها منظمة التحرير الفلسطينية ذاتها ، التي اعتمدها قرار الرباط عام 1974م ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني ، وقد وصل الأمر في بعض الأطراف العربية الى حد التنسيق مع "إسرائيل" لمواجهة تكتيكات أطراف عربية أخرى .
ان من مظاهر انتصار القطرية السياسي وأد مؤسسات العمل العربي المشترك في المجالات الفنية والاقتصادية وغيرها ، وانخراط الدول العربية في منظمات إقليمية تضم “إسرائيل” أحياناً في هذه المجالات ، ومجالات مكافحة الإرهاب وهي مؤسسات إقليمية لا تعترف بالمصلحة والأمن القومي العربي كإطار سياسي ، وتعمل على تذويب هذه المصالح بكافة الوسائل ، وهو ما نجم عنه في نهاية المطاف خلق أزمات مختلفة للدولة القطرية العربية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إدارة بايدن وملف حجب تطبيق -تيك توك-.. تناقضات وتضارب في الق


.. إدارة جامعة كولومبيا الأمريكية تهمل الطلاب المعتصمين فيها قب




.. حماس.. تناقض في خطاب الجناحين السياسي والعسكري ينعكس سلبا عل


.. حزب الله.. إسرائيل لم تقض على نصف قادتنا




.. وفد أمريكي يجري مباحثات في نيامي بشأن سحب القوات الأمريكية م