الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تسونامي الثورات الشعبية ودولة -الثقب الأسود- العربية

ياسر قطيشات
باحث وخبير في السياسة والعلاقات الدولية

(Yasser Qtaishat)

2011 / 2 / 19
مواضيع وابحاث سياسية


لعل العنوان الأبرز لكل الفضائيات العربية والأجنبية اليوم هو سلسلة المظاهرات والاحتجاجات الشعبية التي تجتاح عدة دول عربية في مشهد دراماتيكي لم يتوقعه احد قبل شهور قليلة، هو تسونامي شعبي عربي جديد يسري في جسد الأمة العربية من المحيط للخليج، فكل الشعوب العربية تطالب بالإصلاح والتغيير والحرية ومحاربة الفساد، وكان قدر الأمة العربية ان ترزح لعقود طويلة تحت نير الاستبداد والكبت والظلم والفساد والقهر، فمعظم الأنظمة العربية لا تكتفي بكبت الحريات ومسخ الإنسان العربي والسيطرة على مقاليد الحكم وحسب، بل أصبحت منذ عقود قليلة تمازج ما بين السلطة والثروة حتى باتت كلها بلا استثناء أنظمة اوليغاركية بشكل تام تتحكم في مصائر وثروات البلاد والعباد .
فمنذ اندلاع ثورة تونس نهاية العام الماضي وثورة الشعب المصري في يناير 2011م، نقلت تلك الثورتين ظاهرة الانفلات الشعبي من عقال الاستبداد والفساد والظلم، فخرجت شعوب عربية في موعد واحد، رغم اختلاف التفاصيل الثانوية بين كل دولة وأخرى، لترفع شعار واحد "الإصلاح، الحرية، التغيير ،العدالة اجتماعية" وهذا لا يتحقق إلا بمطالبات شعبية عربية واحدة أيضا محورها "الشعب يريد إسقاط النظام"، وهو شعار سمع دويه في ليبيا واليمن والجزائر، تلك الدول التي تشهد أنظمة تتقاطع مع بعضها مفهوم "الحكم المطلق" سواء حكم الحزب الواحد، كما هو حال الجزائر، أو حكم الفرد الواحد الممثل لقبيلة تحكم البلاد مثل اليمن أو حكم الفرد الواحد كما هو حال ليبيا القذافي!! فيما ردد الشعب العربي في مملكة البحرين والعراق شعار "الإصلاح الدستوري ومحاربة الفساد والبطالة" واستقالة الحكومة في كلا البلدين.
والقاسم المشترك لتسونامي الاحتجاجات الشعبية العربية، سواء في تلك البلدان أو بلدان أخرى ستظهر لاحقا، هو ما يمكن تسميته بدولة "الثقب الأسود" وذلك تجلياً للظاهرة الفلكية المشهور ، حيث تشكل السلطة التنفيذية "ثقباً أسوداً" يحوّل المجال الاجتماعي المحيط به إلى ساحة لا يتحرك فيها شيء ولا يفلت من إسارها شيء، وتجد هذه المركزية المتزايدة في الجهاز التنفيذي الضيق بما يضمن عمله وسيطرته نصوص صاغها النظام الحكام في الدستور والقوانين لتتخذ صفة الشرعية "المسلوبة" من إرادة الشعوب ، إذ تمنح غالبية دساتير الدول العربية، خاصة المذكورة أعلاه، الرئيس الأعلى للجهاز التنفيذي صلاحيات مطلقة وواسعة لا يقيدها قيد ولا يحد من سلطتها شي ، فهو الرئيس الأعلى لتلك السلطة وللبلاد ولمجلس الوزراء وللقوات المسلحة والدفاع والقضاء والخدمات العامة ، ما يكرس عملياً دولة مطلقة بالمقياس التقليدي للدول الاستبدادية التي عفا عليها الزمان .
وفي غياب شرعية تُستمد من إرادة الأغلبية ، لجأت الغالبية العظمى من الأنظمة العربية إلى الاستناد إلى شرعيات تقليدية (دينية أو قبلية) أو ثورية (قومية أو تحريرية) ، أو أبوية تدّعي الوصاية على المجتمع والأمة بحكمة "رب العائلة" ، بيد أن الفشل في التصدي للقضايا الكبرى التي ادعتها أو على أساسها وصلت للحكم ، مثل قضية فلسطين والتعاون العربي والإسلامي وتحقيق الوحدة العربية وتحقيق دولة الرفاه وإشاعة الحرية والديمقراطية والتنمية الإنسانية ومواجهة أعداء الأمة .. الخ ، فضلاً عن ضعف تمثيل الدولة للقوى الفاعلة في المجتمع وقيام مواجهة بينها وبين المعارضة ، جعلها تواجه أزمة شرعية مزمنة ، فباتت معظم الأنظمة العربية، تركز في خطابها للأمة على شرعية الإنجاز أو الوعود بما ستنجزه في مجالات محددة مثل الاقتصاد والسلام والاستقرار والمحافظة على القيم والتقاليد ..، وكان مجرد الحفاظ على كيان الدولة في مواجهة تهديدات خارجية في بعض الأحيان انجازاً يكرس الشرعية .
وتعضد بعض الأنظمة العربية الآن شرعيتها باعتماد صبغة مبسطة وفعالة لتبرير استمرارها ، وهي كون هذا النظام بعينه أهون الشرين وخط الدفاع الأخير ضد الإستبداد الأصولي أو ما هو أسوأ ، أي الفوضى وانهيار الدولة، وهو ما أسماه البعض "شرعية الابتزاز".
ومع تآكل "شرعية الابتزاز" ، بسبب الإدراك المتزايد بأن عدم وجود البديل الصالح هو في حد ذاته ثمرة من ثمرات سياسات الأنظمة التي أغلقت منافذ العمل السياسي والمدني بما يمنع تبلور البدائل ، فإن استمرارية دولة "الثقب الأسود" اعتمدت إلى حد كبير على أجهزة التحكم الدعاية ، إضافة إلى تحييد النخب بالترغيب والترهيب ، والمسارعة إلى عقد الصفقات مع القوى الأجنبية والإقليمية ، أو إلى التكتل فيما بين الدول ، لتعزيز وضخ النخب الحاكمة ضد القوى الصاعدة ، ما جعل من أزمتها المزمنة مع الشرعية مظهراً من مظاهر غياب الديمقراطية والحرية والتنمية الإنسانية والاقتصادية.
ولا تفلت بالطبع الدول العربية التي تشهد ثورات احتجاجية شعبية اليوم من ذلك الوصف الدقيق، إذ تشهد البحرين والجزائر والعراق منذ أسبوع تقريبا حالة من الاحتجاجات والثورة الشعبية ما لبثت أن أخذت منحى تصاعديا أدت في النهاية إلى مقتل العشرات في تلك البلدان وعشرات الجرحى اثر صدامات مع الشرطة، وحاولت حكومات الجزائر والبحرين والعراق الدعوة لتخفيف حدة التوتر والوعود بالإصلاح والتغيير وتلبية مطالب الجماهير.
وما يجمع بين الدول الثلاث هي مركزية السلطة الحاكمة وإقصاء المعارضة والفساد، واستخدام أسلوب "البلطجة" للرد على المظاهرات والاحتجاجات، ورغم أن البحرين نجحت نسبيا عبر هذا الأسلوب في فض الاحتجاجات خوفا من ديمومتها وخطورتها في حال استمرارها كما حدث مع نظام مبارك وميدان التحرير، فان حكومات العراق والجزائر ما زالت تواجه المحتجين بالعنف والقوة، وفي حال خرجت المظاهرات عن سيطرة الأمن واتسعت رقعتها، فان مصير تلك الأنظمة سيصبح في مهب الريح.
فيما تشهد ليبيا القذافي اليوم ثورة شعبية تطالب بإسقاط النظام بعد حكم دام "42" عاما، أساسه غياب الحريات والديمقراطية والتنمية وانتشار الفساد وسوء توزيع الثروة، والاعتماد على اللجان الثورية للسيطرة على البلاد بقوة البوليس والحديد، وليبيا التي تعد ثالث منتج إفريقي للنفط، مع احتياطيها المقدر بـ41.5 مليار برميل، ورفع حجم احتياطها بـ6.5 مليار برميل، وتعد أيضاً رابع منتج إفريقي للغاز الطبيعي، باحتياط مقدر بـ1500 مليار متر مكعب على إنتاج 3.2 مليار متر مكعب من الغاز هذا العام، وتنتج 2 مليون برميل يوميا من النفط على الأقل، ليبيا هذه يبحث العديد من مثقفيها وعمالها للبحث عن فرص عمل في دول الخليج، لان الفساد وسيطرة نظام القذافي على ثروات البلاد ومنتجاتها حوّل الشعب إلى طبقتين لا أكثر –كما هو حال مصر والعديد من الدول العربية- طبقة ثرية بشكل فاحش وتملك اقتصاد البلاد، وطبقة فقيرة يعمل أغلبها في القطاع الحكومي.
ورغم هذه الثروات التي تمتلكها ليبيا أو النظام الفردي الحاكم على الأصح، فان البينة التحتية والخدمات التي تقدم للشعب الليبي لا تستوي وثروات ليبيا الجمة، ولا نستطيع ان نقول اقتصاد حقيقي بمعنى الكلمة، لان القائد معمر القذافي لم ينجح حتى اليوم في قياد دولة صناعية أو اقتصادية بالمعنى الدارج للدول النفطية، فسياسته الاقتصادية القائمة على أفكاره في كتابه المعروف "الكتاب الأخضر" حوّلت البلاد إلى دولة رعوية لا إنتاجية أو تنموية، فهي تقدم ما تستطيع من خدمات للشعب بشكل بيروقراطي فض، ومؤسسات الدولة الاقتصادية تلهث للحصول على استثمارات أجنبية بعد فشل خطط القذافي الاقتصادية لتحقيق أدنى درجات التنمية والرفاهية للشعب الليبي.
يضاف إلى ذلك سياسة القمع والقهر والخوف التي ينتهجها النظام ضد مواطنيه، وربما فضحت ثورة الشعب اليوم حقيقة النظام القمعي البوليسي في ليبيا، فبعد أيام قليلة على الاحتجاجات، تجاوز عدد القتلى في ليبيا الـ(120) قتيلا!! والجرحى بالمئات، ويستخدم الأمن الليبي الطائرات والأسلحة المحرمة دوليا ضد مواطنيه.
ومنذ بداية سقوط الأنظمة المحيطة بليبيا، والرئيس معمر القذافي يبكي هذه الأنظمة، فبكى بن علي في خطاب وجهه للشعب التونسي، أهان فيه الشعب وثورته وعظم الديكتاتور المخلوع، كذلك الحال بالنسبة لثورة الغضب في مصر، إذ دافع عن التهم التي طالت الرئيس مبارك واعتبره رجلا فقيرا، وتبرع بان يستضيفه ويشتري له ملابس وبلغ القذافي الذروة في تصرفاته البهلوانية المتمثلة في قراره التظاهر مع المتضررين من حكمه ضد حكومته!!
وذات السيناريو يتكرر في دولة الرئيس علي عبد الله صالح التي يتحكم وقبيلته باليمن السعيد منذ (33) عاما، حيث منذ قيام الوحدة بين اليمنيين عام 1990م وعد بالإصلاح والديمقراطية والحرية.. الخ من الشعارات العربية الرنانة، لكن البلاد ما فتئت العودة للفوضى عام 1994م على اثر مفهوم سلطة "الثقب الأسود" ومركزية القرار في يد رئاسة الدولة وحزب الرئيس الحاكم، فضلا عن اقتصار التنمية على الجزء الشمالي من البلاد وافتقار الجنوب للعدالة في توزيع الثروة، وهو ما حدا بالحوثيين لمحاربة النظام اليمني عدة مرات، كان أخرها عام 2009م لمطالبتهم بحقوق سياسية واقتصادية، رغم ان البعض يعتبرها مطالب طائفية.
وتعد فترة حكمه أطول فترة حكم لرئيس في اليمن منذ العام 1978. وهو صاحب ثالث أطول فترة حكم من بين الحكام العرب - الذين هم على قيد الحياة حاليا، بعد القائد معمر القذافي والرئيس السابق حسني مبارك.
ورغم تعديل الدستور في 2003 واعتبار ولاية صالح الحالية ولايته الأولى، ما يمنحه الحق في الترشح لولاية ثانية مدتها سبع سنوات، أعلن في حفل بمناسبة الذكرى السابعة والعشرين لتوليه السلطة نيته عدم الترشح لانتخابات الرئاسة القادمة، وأدى إعلانه إلى حالة توتر شديدة. خرجت مظاهرات شعبية، وحملات لجمع التواقيع فيما اعتبرته المعارضة مسرحية سياسية تهدف لحشد التأييد الشعبي لصالح، وخرجت مقابلها مظاهرات أيدت عزمه عدم الترشح لولاية جديدة، لكن الأمر بقي معلقاً، ففي أي لحظة يستطيع العودة عن قراره، خصوصاً وأن حزبه تمسك به كمرشحه للرئاسة في الانتخابات المقبلة، وأن المعارضة لم تقدم أي مرشح.
وفي المؤتمر الاستثنائي لحزب المؤتمر الشعبي العام، أعلن صالح في يونيو 2006 أن قراره ليس مسرحية سياسية، وأنه جاد في عزمه عدم الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة، وأن على حزبه أن يجد مرشحاً بديلاً له، الأمر الذي خلق حالة من الصدمة المؤقتة، فالانتخابات بعد ثلاثة أشهر، واليمنيون لا يعرفون بعد من هم مرشحو الرئاسة. أعلن صالح قبول الضغوط الشعبية لإعادة ترشيحه مجدداً بعد ثلاثة أيام من التصريحات النارية التي أطلقها بخصوص عدم ترشيحه.
وترشح صالح ضد بن شملان الذي رشحته أحزاب اللقاء المشترك وفاز صالح لفترة رئاسية جديدة تنتهي عام 2013م ، الانكى ، انه في ديسمبر 2010 تقدمت الكتلة النيابية للحزب الحاكم الذي يترأسه صالح بمشروع قانون يقضي بالسماح لصالح بالترشح لفترة رئاسية قادمة ، بل ويلغي تحديد مدة الرئاسة والذي عرف حينها بمشروع تصفير العداد إلا أن أحزاب المعارض الرئيسية والمنضوية تحت تكتل اللقاء المشترك أعلنت مقاطعتها لجلسات البرلمان واعتبار مشروع التعديلات انقلابا على الدستور ومضامين الجمهورية .
ومنذ أيام خروج الشعب اليمني بمسيرات قدرت بالملايين تطالب برحيل صالح عن الحكم/ ما دفع الرئيس صالح للإعلان عن عدم نيته الترشح لانتخابات 2013 وكذلك عدم نيته التوريث لنجله أحمد والذي يشغل منصب قائد الحرس الجمهوري والقوات الخاصة كما أعلن تجميد مشروع التعديلات الدستورية.
ومنذ ثورة تونس وأختها ثورة مصر، وبعد تسونامي الثورات الشعبية في ليبيا والجزائر واليمن والبحرين والعراق، علمت الشعوب العربية علم اليقين الهدف الحقيقي لصفقات السلاح العربية التي تقدر سنويا بمليارات، فيما التنمية الاقتصادية والبحث العلمي ينفق عليهما الفتات من بليارات تنفقها الأنظمة بشكل عبثي وعشوائي، فصفقات الأسلحة التي تشتريها اغلب الأنظمة العربية من قوت الشعب العربي تستخدمها ضد مواطنيها وشعبها الأعزل، فليس لديها ثمة عدو سوى مواطنيها في ظل الاستسلام التام لخطر الصهيونية والعصابات الأمريكية التي تديرها المخابرات العالمية والأمريكية ضد دول وشعوب المنطقة، فتسرح وتمرح في بلاد العرب وتنشأ قواعد عسكرية هنا وهناك، وضمن اتفاقات عسكرية وحماية أمنية للحفاظ على النظام وبقائه سيدا لخدمة مصالح الغرب والكيان الصهيوني، فيما تستخدم أسلحتها بكل قذارة تجاه مواطنيها المطالبين بأبسط حقوق الإنسان والحرية والكرامة والعيش بعزة وأمن!!
القرار اليوم بيد تسونامي الشعوب العربية، فقد أمسكت زمام التغيير والإرادة لفرض سيادتها على حقوقها المهدورة منذ عقود طويلة، ولان تلك الأنظمة لا تملك سوى "البلطجة" والقوة والقهر والعنف لضرب الحائط بسيادة الشعوب العربية، فان مشهد سقوط زعيمي تونس ومصر، سيتكرر قريبا في أكثر من دولة عربية، ومنها كما نعتقد ليبيا واليمن، فدولة "الثقب الأسود" ستزول من سماء المنطقة القريبة آجلا أم عاجلا، وسيشهد العالم العربي نسائم الحرية والحقوق الديمقراطية، وستملك الشعوب العربية من جديد سيادتها وثرواتها .
ولا سبيل أمام الدول العربية الآن، إذا أرادت الهروب من انتقال تسونامي التغيير والثورة الشعبية إليها، سوى بتحقيق الإصلاح بكافة مكوناته، شريطة أن يكون إصلاحا شاملا في مختلف مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، وإعادة توزيع ثروات البلاد والقضاء على الفساد والفاسدين، وأي محاولة للالتفاف على هذه الإصلاحات او إتباع أسلوب "الترقيع" و"التسويف" يعني المزيد من التراجع والاحتقان والتوتر، ولن تكون بمنأى عن ثورة الشعوب العربية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مفاوضات القاهرة بين الموقف الاسرائيلي وضغط الشارع؟


.. محادثات القاهرة .. حديث عن ضمانات أميركية وتفاصيل عن مقترح ا




.. استمرار التصعيد على حدود لبنان رغم الحديث عن تقدم في المبادر


.. الحوثيون يوسعون رقعة أهدافهم لتطال سفنا متوجهة لموانئ إسرائي




.. تقرير: ارتفاع عوائد النفط الإيرانية يغذي الفوضى في الشرق الأ