الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صناعة الشعر (3)

خليل محمد الربيعي

2011 / 2 / 20
الادب والفن


لطالما قرأتُ في كتب الأدب والتاريخ عن بعض الشعراء الأقدمين وما يعتريهم من حالات غريبة وتصرفات مقيتة وهم ينشدون الشعر فأستشنع منهم ذلك وأردّ الأمر إلى أمراض نفسية كالكبر والغرور ومحاولة إغاظة الحاضرين في بلاط الخليفة أو الأمير والتعالي عليهم، وأحمد الله أني لم أكن معهم حينها لأشهدَ تلك السخافات التي تروى عن بعضهم كبشار بن برد وهو يبصق في يديه ويفركهما ويتنحنح قبل الإنشاد ويعيد البيت مرتين وثلاثا، والبحتري عندما يعدّلُ عباءته وينتفشُ بحضرة الخليفة ويستغرب من عدم إعجاب الحاضرين ويقول ألا تسمعون، وكثيـّر عزة وهو يفعل شيئا قريبا من ذلك ويتطاول برغم قصره وقماءته.. لكنني أرجع سريعا فأعذرهم عندما أقرأ الشعر المؤثر والقافية الآسرة والألفاظ المنتقاة والمعاني المبتكرة، وأتحمل منهم سخافاتهم وأضع ذلك في خانة التبجح بالشعر وشدة تقدير صاحبه له وما يشعر به من الخفة والانتعاش وهو يرى إنتاجه الذي جلس الساعات –ربما– يحبر فيه، وقد قالوا قديما إن الشعر مَـزلـّة العقول، وذلك أن أحداً ما صنعه قط فكتمه ولو كان رديئاً وإنما ذلك لسروره به وإكباره إياه..وهو كتغنج الحسناوات ودلالهنّ على عشاقهنّ وكتحجّج الأطفال المدللين عندما يأمنون الرد والعقاب من آبائهم..ولست أراني مغبونا ً إن غفرتُ لهؤلاء الشعراء سخفهم وغرورهم إذا قرأتُ لهم الروائع التي ما زالت تتردد منذ مئات السنين ويتعجب منها النقاد والخاصة ويتغنى بها العامة.
ونحن نجدُ اليوم مثل تلك التهويلات والانتفاشات في شعرائنا مع فرق واضح وهو أننا لا نحصلُ بعد كل هذه الجعجعة على أي طـِحن..فلا أوصاف ابن برد وغريبه، ولا مدائح البحتري وبديعه، ولا غزليات كثيّر وعذريته..لا نحصل إلا على رطانة شبه أعجمية ومعان متكسرة وألفاظ خارجة على قانون اللغة ومواضيع تافهة ورؤى متهافتة..فترى شاعر هذه الأيام يمتلك القدرة على إدارة عدة أدوات تمثيلية ومسرحية وغنائية وإنشادية لا ليدعم بها شعره ويزيده حلاوة وطلاوة وتأثيرا في المستمعين، ولكنْ ليغطي بكل ذلك على انحطاط شعره وتدني مستواه..وهي ظاهرة عامة تكاد تشمل كل أنواع الفنون والآداب عندنا، ففرَق الرقص والتطبيل والعُري أصبحت من ضروريات الغناء لإلهاء عيون المشاهدين وآذانهم عن قيمة الكلمة المغناة ومعناها، وموجة الحداثة في الرسم من الرمزية والتجريد صارت حجة َ الفنانين إذا سئلوا عن غموض لوحاتهم وعبثية ألوانها..إنها ضجة وضوضاء مفتعلة حول كل الأعمال الفنية لإنشاء حاجز أمام النقد والتقييم الموضوعي لها من قبل الجمهور المميز، وهي أشبه باللصوصية المقنعة التي تستعمل خفة الحركة والتنويم المغناطيسي لسحب النقود من الجيوب..على أن هذا النوع (الرخيص) من الفن الحديث يكلف الجماهير ثمنا ًباهظا ً ولو أعطيَ مجانا ً لأنها حتى لو لم تخسر النقود فقد خسرت الوقت بإضاعته على ما يقال أنه فنّ وهو في الحقيقة ملهاة أدائية يمكن أن تجد فيها كلّ شيء إلا الفن..وعلى العموم فإنّ المهارة في التزوير مهما بلغت لن تجعل الدينار المزوّر محظيا ً ومرغوبا ً فيه عند من يكتشفونه.
إننا اليوم نبحث عن تأثير الكلمة ووحيها في النفس لا عن تأثير الصوت أو الإنشاد أو الهيأة، وأنت إذا شاهدت أو سمعت يوما أحد هؤلاء الغوغاء في مهرجان ما وهو ينشد قصيدة في الشعر الحربي فيقطـّب جبينه ويوسّع عينيه ويتكلف تضخيم الصوت ويفتعل الحركات المثيرة ويزبد ويرعد، وربما ضجت له القاعة بالتصفيق والهتاف، ثم قرأت القصيدة ذاتها في جريدة اليوم التالي –فسوف ترى سخافة محضة ومبالغة مضحكة ورصفا مرتبكا أشبه بتخاريف الصبيان وهذيان المحمومين..ويعود الفارق بين قصيدة اليوم والأمس كالفارق بين البضاعة الرديئة مكشوفة للعيان والبضاعة نفسها يقف عليها حلاّف مهين يحاول أن يغطي عيوبها بالكذب المنمق..وقل مثل ذلك في أضرابه الذين يشاركون بقصائد الغزل أو المديح أو الوصف وغيرها من مواضيع الشعراء، فالكل يستنجد بالمؤثرات السمعية والمرئية للتمويه على عُواره الشعري.. ثم تسأل نفسك: هذه الكلمة فأين سحر الكلمة ؟!
وإذا أردتّ أن تعرف سماجة ما يفتعله أغلب شعراء العصر فاكتم التلفاز أو سـُدّ أذنيك وانظر إلى حركات الشاعر مجردة عن الصوت والكلام، فإنك ستضحك حتما من رتابة الحركة وطرافة الإشارة، ولا أظنك ستستغرب حتى تعيد الصوت إلى التلفاز وتسمع القصيدة لتدرك تباين المستوى بين معانيها البسيطة وبين مقدار الحركة المتضخمة المصاحبة لها.
هل يعرف شعراؤنا أنّ بعض الشعراء البارزين كانوا ينشدون الشعر وهم جالسون؟ ومنهم المتنبي حين شرط ذلك في بداية تعرفه على سيف الدولة، حتى إنه لما أنشد قصيدته (لكل امرئ من دهره ما تعودا) قال بعض الحاضرين: ما أحسنها من قصيدة لو أنشدها واقفا، فأجابه المتنبي: ألم تقرأ صدر البيت يا رجل؟ (يريد أنه متعود على العزة والأنفة)..فإذا قـُدّر لشعرائنا أن ينشدوا وهم جالسون فكيف سيكون حالهم؟؟
لا أريد أن يفهم القارئ من كلامي أنني لا أحفلُ بهيئة الشاعر وطريقة إنشاده ولا أرى لها أثرا في تقبل الشعر والتأثر به، ولكن لكل شيء أصوله وحدوده، وحركة اليد والرأس والعين والفم ينبغي كلها أن تستمد هيئتها ومجالها من معنى الكلام الملقى وتفصل على أساسه لا أن تنأى بلغة الإشارة عن لغة الكلام حتى يفهمَ سامع القصيدة الحاضر في المهرجان غير ما يفهمه المصغي إلى المذياع أو قارئ الجريدة أو الأصم الذي يقرأ الإشارة فقط. إن هيئة الإنشاد والصوت والإشارة كلها أساليب إقناع تساند الكلمة وتضيف إلى معناها لا أدوات تضليل تغطي على الكلمة وتشوه معناها. وهذا المتنبي نفسه أنشد بعض قصائده أثناء استعراض الجيش واقفا بين الصفوف ومع سيف الدولة وهو أمر يتطلب مهارة إلقائية وسيطرة أدائية كبيرة. وعلى الرغم من أن الرواية لم تنقل لنا هيئة إنشاده في تلك المواقف إلا أنّ كل ذواق للشعر يجد نفسه وهو يقرأ أبيات المتنبي مشدودا بمتانة الأسلوب وعمق المعنى والتهاب العاطفة حتى كأنه حاضر بين الصفوف ومتفاعل مع قضيتهم..بل إنك لو حاولت أن تنشدها لما استطعت إلا وأنت تحرك جسمك وتغير تعبيرات وجهك في حركة طبيعية نابعة من إحساسك بمرامي القول وصدق المعنى.
ومن الغريب أن شعراءنا يدفعون الشعر إلى الأعجمية دفعا، ويمكرون بقصائدهم من حيث يريدون أن يمكروا لها، فتسمعهم يمطـّون الحروف ويضيعون موسيقاها الكامنة ويكسرون إيقاعها ليلائموا النبرة التي يصطنعونها في الإلقاء وحسب، وهذا ما أشار إليه الجاحظ في بعض كتبه حين قال: (العرب تقطع الألحان الموزونة على الأشعار الموزونة، والعجم تمطط الألفاظ فتقبض وتبسط حتى تدخل في وزن اللحن فتضع موزوناً على غير موزون) وهو ما يفعله شعراؤنا كثيرا فيضيعون وزن الشعر ولا تسمع الأذن الحساسة منهم إلا نشازا مقصودا يرمي بالقافية إلى مرتبة الكلام المنثور.
إن طريقة الإلقاء والهيئة عند إنشاد الشعر تختلف من شاعر لآخر وتكاد تكون كالبصمة أو كنبرة الصوت لا تتطابق لاثنين أبدا، وما ذلك إلا لأنّ لكل شاعر حبكة خاصة وتأليفا محددا يخلقُ تناغما بعينه بين الحروف يقود الشاعر إلى نمط أدائي خاص به، ومن الخطأ ما نراه من تقليد الكثيرين لنمط معين من الإلقاء ينشأ عنه استنساخ جامد مكرر يذهب بالشخصية الشعرية وتنوعها..وباختصار فإنّ التمثيل الفاشل لن يصنعَ شعراءَ ناجحين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي