الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المجرم والضحية ومعادلة الغباء الاستراتيجي

جمال سواعد

2011 / 2 / 20
مواضيع وابحاث سياسية


تقافزت الشعارات المكتوبة على اللافتات من بين أكتاف الكتل البشرية ومن بين رؤوس_ وهامات وأذرع_ المحتشدين في ميدان التحرير (وقبله شارع بورقيبة في تونس) وهي تحاول القفز من اجل الظهور ولو للحظات على شاشات التلفزة العربية والعالمية..الشعارات التي نادت بطرح سياسي _ وبالتحديد اقليمي_ كانت نسبيا قليلة وهذا ما فتح الباب للتكهن وترك الاسئلة الصعبة معلقة في الهواء فخيالات الاصدقاء والاعداء ثم عيونهم وقلوبهم راقبت الشاشات راضية او مكرهة في حين كانت قلوب الجميع تتراقص بين حدود الفرح وتخوم الخيبة.
إذا جاز لنا ان نفتح الباب للمقارنة كما يحصل كثيرا في هذه الايام ,فلا أبالغ إذا قلت أننا امام نموذج ثوري جديد نسف كل قوانين تقدم التاريخ وبدد الصيغ الآمنة والمستقرة في توصيف الثورات والتنبؤ بها : فلا الطبقات _ خاصة الطبقة الوسطى_ كانت اقتصاديا مهيئة للتحرك كحال الثورة الفرنسية مثلا ولا السياق السياسي العالمي كان داعما كحال ثورات اوروبا الشرقية مع انهيار الاتحاد السوفييتي ,ولم تكن هناك أحزاب فاعلة تمتلك القدرة على حشد الشارع وتحريكه وتقوم بزرع الخلايا الثورية في كل قرية ومصنع وجامعة كحال ثورة الخميني في ايران او كما فعلت الثورة البلشفية في روسيا القيصرية.
الشعب _ كل الشعب _ هو الذي تحرك هذه المرة مفاجئا الجميع وقاذفا بالأحزاب ومتسلقيها الى ما وراء الكاميرا, فحوار الطرشان الذي تهافتت عليه احزاب المعارضة مع عمر سليمان في الايام الاخيرة للنظام سرعان ما تراجع امام زخم التقدم الشعبي وسرعان ما أفلس وسرعان ما ظهر أنه غير ذي جدوى.. فالاحزاب لم تبادر ولم تحشد الناس ولم تطلق المظاهرات وكانت آخر من نزل الى الشارع وأول من انضم الى قافلة الانتهازيين الذين هرولوا الى التفاوض مع نظام خسر كل اوراق اللعبة.
ثورة مصر , وقبلها تونس,سارت عكس ما علمنا التاريخ على التنبؤ به, كما انها سارت عكس المرحلة الامريكية الصعبة وعكس ميزان القوى الاقليمي وحسابات الدول الكبرى ذلك ان الشعوب لا تحفل ابدا بكل هذه المعطيات ولا تقيم لها وزنا يذكر عندما تريد ان تثور وعندما تريد ان تتحرك.
في كل جريمة هناك دائما ضحية وجلاد, تتسم الضحية بالحكمة اما الغباء فيكون من نصيب المجرم, حضر هذا المشهد بقوة في تونس وأعاد انتاج نفسه بشكل اكثر دموية في ميدان التحرير. في تونس ما ان تدفقت الامواج البشرية في شارع الحبيب بورقيبة وبعد ان كانت كل ولايات الجنوب التونسي قد كنست الحزب الحاكم وبلطجيته من كافة المدارس والمزارع والمؤسسات والشوارع حتى تلعثم الديكتاتور : " لقد فهمتكم, الآن فهمتكم جميعا"..لكن الذاكرة الجمعية لا تحتفي بالديكتاتور الا كجلاد , وقفزته البهلوانية الى خانة الضحية كانت دعوة صريحة للطوفان البشري كي يتقدم فالعودة الى الوراء, ولو بمقدار خطوة ,كان لها معنى واحد لا يحمل اكثر من دلالة : مجزرة.
في مصر , كما أسلفنا, أعاد المشهد التونسي انتاج نفسه بحجم اكبر وبأعداد خيالية من الضحايا, كما ان التداخلات الاقليمية والدولية حضرت بقوة اكبر في المشهد المصري نظرا لحجم مصر الجيو استراتيجي ولدورها في العالم العربي ولقربها من بؤرة الصراع العربي الاسرائيلي, ثمة من راهن على الجيش محاولا دفعه الى مواجهة مفتوحة مع الشعب الامر الذي كان سيؤدي الى تدمير شامل _ بنيوي وأخلاقي_ للمؤسسة العسكرية المصرية برمتها. لكن الجيش أمسك بالعصا من منتصفها وحسب المسألة حسابا دقيقا, وما تحليق المقاتلات الجوية فوق المتظاهرين في الايام الاولى للثورة الا نتيجة ملموسة لمثل هذه الحساب تفسر إمساك الجيش لشعرة معاوية في ظروف محلية واقليمية بالغة التعقيد.
الآن انتصرت الثورة,وكسب الشعب ضربة الجزاء الاولى في شباك النظام التي تمزقت بسرعة فلكية , لكن المرحلة الانتقالية القادمة هي التي يجب ان تكرس لها كل جهود بناء الدولة الحديثة والديمقراطية بعيدا عن شعارات الطرح السياسي المباشر ..لا اتجاهل الاخطار المحدقة بالثورة ولا اتجاهل مخاطر الدور الذي قد يحاول الجيش لعبه في الحياة السياسية في هذه الفترة الحساسة ولا اغمض عيني عن المصالح الاقليمية والدولية التي ستعمل على اجهاض الثورة وحرف بوصلتها ,لكني أراهن على شيء واحد في معادلة المجرم والضحية الا وهو غباء كل من ستسول له نفسه الوقوف بوجه شعب بأسره قرر ان يحكم نفسه بنفسه.
سقوط الديكتاتور لا يعني ان غباء المجرم انتهى فنسل الجريمة قادر على التوالد في منظومة متكاملة من الفساد والمصالح العالمية والاقليمية التي ارتعدت فرائصها لرؤية الصنم يتهاوى والتي ستعمل على استيلاد قيادات انتهازية لا ينقصها الغباء.
المطلوب الآن تكريس الجهود لعبور مرحلة الولادة الانتقالية هذه,ليس فقط بأقل عدد ممكن من الخسائر بل بالحفاظ على اكبر عدد ممكن من الثوابت اما الاستحقاقات السياسية لاقامة دولة يحكمها الشعب ,كدور مصر في مختلف القضايا العربية ومكانها على خريطة الصراع العربي الاسرائيلي فلنتركها الآن لمرحلة قادمة تكون الثورة فيها قد رسخت وجودها في دولة يحكمها الشعب من خلال برلمان منتخب يستمد شرعيته من صناديق الاقتراع.
في هذه الايام وعندما اصبح فشل ما يسمى بالعملية السلمية حديثا على كل لسان لا يبدو ان امريكا ستتنازل عن استراتيجية الغباء المعهودة خاصة بعد استخدام حق الفيتو ضد قانون يدين الاستيطان كأنها تصر على عم منح معتدليها من العرب حبة الدواء الضرورية في هذه المرحلة الحرجة ,صحيح ان منظومة اتخاذ القرار السياسي اكثر تعقيدا من مجرد تعميمات تاريخية وصحيح ان اتخاذ موقف سياسي شيء واطلاق تصريح اعلامي شيء آخر, لكن استراتيجيا غباء المحتل وجلاوزته مصرة على اداء مهمتها حتى اسقاط اخر الاصنام الموالية لامريكا في هذا الشرق الاوسط الجديد








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الترجي التونسي يستضيف الأهلي المصري في ذهاب الدور النهائي|#ه


.. الوصل يحقق انتصارا تاريخيا على النصر ليتوج بكأس رئيس دولة ال




.. لماذا تخاف إسرائيل من مخيم جنين؟


.. شهيدان بقصف إسرائيلي استهدف منزلا في مخيم بربرة وسط رفح جنوب




.. مطعم للطاكوس يحصل على نجمة في دليل ميشلان للمطاعم الراقية