الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الولادة الثالثة لمصر ونهاية عصر المماليك والصعاليك!

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2011 / 2 / 20
مواضيع وابحاث سياسية


للأحداث التاريخية الكبرى مذاق ومغزى عادة ما يرغمان الفكر والذاكرة على البحث احدهما في الآخر عن صورة مقبولة ومعقولة بمعايير الماضي والمستقبل. أما الحاضر فهو الصيرورة المتراكمة في فعل التحدي والبدائل.
وفيما لو طبقنا هذه الصيغة الفكرية العامة على ما جرى ويجري في مصر، فإننا نتوصل الى تذوق وإدراك الحقيقة القائلة، بان مصر تولد من جديد. وأنها تعود الى حقيقتها، أي الى ذاتها بوصفها كينونة اجتماعية وطنية قومية، بدون فراعنة ومماليك وصعاليك! وعندما تعود مصر لذاتها فأنها يمكن أن تصبح من جديد ارض الكنانة، أي ارض العرب الحقيقة وليست ارض السياحة للعابرين القدماء والجدد. كما أنها ستقضي على أوهام الخيال المريض الذي جعل منها ارض الخروج ومن سينائها ارض التيه فيما مضى، وظهير الدفاع عن العابرين الجدد للامس القريب. أنها سوف تقفل كل هذه الثغرات المؤلمة للعقل والضمير القومي برتاج الحقيقة القائلة، بان طريق العابرين لا تنفع فيه أوهام العصا السحرية المحركة لدكتاتورية أقزام. فقد رمى الشعب المصري هذه الأوهام، وبرهن على أن حقيقة الأمم الحية هي ولادة دائمة، شأن الحياة.
إن ما جرى ويجري في مصر (وقبلها تونس) يشير الى ظهور ملامح ما يمكن دعوته باللحظة التأسيسية في التاريخ العربي الحديث، أي ملامح إرساء أسس المستقبل من خلال إدراك جوهرية التكامل الضروري بين الدولة والنظام والسياسي والأمة. وهو إدراك تلقائي، أي متراكم في مجرى المعاناة الكبرى للتاريخ العربي الحديث ومحاولة الخروج من مأزق الأزمة البنيوية التي أدى إليها "تناغم" البنية التقليدية والراديكالية السياسية. مع ما ترتب عليه من تشويه لا مثيل له لفكرة الدولة والنظام السياسي والقومية. أما النتيجة فهي المراوحة في عالم ديناميكي، والتخلف المريع بمقاييس المعاصرة، والتفريط شبه التام بمعنى الوجود، والبقاء بمعايير الزمن الفارغ، والتطفل على الإنتاج الإنساني. مع ما ترتب عليه من سقوط في وحل الإهمال الفعلي للعالم العربي كما لوا انه دمية قابلة للحركة الآلية فقط. وليس مصادفة أن يتحول الى ساحة للتجريب والتخريب والمساومات التافهة. مع ما لازمها بالضرورة من إهدار للحقوق والكرامة القومية. وقد تكون قضية فلسطين ومأساتها المستمرة لعقود من الزمن من بين أكثرها جلاء ووضوح. بمعنى القبول والتعايش، بل والدعوة "للسلم" مع لصوص الغفلة التاريخية التي عانى وما يزال يعاني منها العالم العربي.
إن الأحداث الكبرى في تونس ومصر واستمرارها الحتمي في العالم العربي تكشف عن ملامح التطور النوعي والحراك التاريخي الكبير الذي نقل زمام المبادرة من قوى البنية التقليدية وركام الراديكاليات السياسية الخربة وأحزابها وأزلامها الى قوى المجتمع الحية. وبهذا يكون العالم العربي قد قطع الشوط الضروري الأولي للانتقال من أولوية السلطة الى الدولة، ومن أولوية البنية التقليدية (العائلة والقبيلة والجهوية) الى أولوية الفكرة الوطنية والقومية، ومن أولوية التبعية والخضوع الى أولوية الحرية والشرعية الذاتية. وهي المقدمة الضرورية التي تقلب بنية الدولة العربية الحالية ونظامها السياسي صوب تفعيل المكونات والمقومات الأساسية للدولة الحديثة والمجتمع الحديث والأمة الحديثة. ومن ثم وضع أسس التقدم الفعلي، مع ما يلازمه بالضرورة من تفعيل منظومة التكامل الضروري على مستوى الفرد والجماعة والمجتمع والدولة والأمة.
فعندما ننظر الى أبعاد ومغزى الأحداث في تونس ومصر، فإننا نقف أمام تحول تاريخي هائل، يضع للمرة الأولى على امتداد قرون من الزمن فكرة الأنا باعتبارها تاريخا اجتماعيا ووطنيا وقوميا، أي فكرة بناء الدولة العربية. ومن ثم استعادة طاقتها الكامنة. وإذا كان الاهتمام بمصر اكبر، فلثقلها الكمي، ومن ثم النوعي بالنسبة لتداعيات الحدث على النطاق العربي. إلا أن المضمون واحد، والمأثرة الأولية لتونس. وهو التنافس الذي ينّشط مضمون الفكرة الاجتماعية والشرعية والوطنية والقومية، ويعطي له قيمة جمالية ومعنوية بقدر واحد. تماما كما نرفع بحسّ لا يخلو من الفخر والاعتزاز على أكتافنا من يفوز منا بسباق رياضي!
لقد بدأت تونس سباق الرجوع التاريخي للنفس، أو سباق المعاصرة الحقيقة من خلال إعلاء أولوية الدولة والمجتمع والحقوق على كل ما سواها. واستكملت مصر في ثورتها الكبرى هذا السباق. وبهذا تكون قد قطعت الشوط الضروري الذي ينتظر استكماله التام من اجل إتمام الإحساس الفعلي بالفوز بوصفه مهمة تاريخية كبرى. إنها مهمة استكمال ما جرى قطعه بطريقة لا تخلو من غرابة التاريخ واستهزاء الزمن!
فبعد ما يقارب القرنين من معاناة التجارب الفاشلة في بناء الدولة الحديثة، هب الشعب المصري أخيرا لاستكمال شروطها الضرورية. لكنه استكمال نوعي جديد، أو بصورة أدق استكمال طبيعي تلقائي. فقد كان الانتقال التاريخي للدولة الذي بدأه محمد علي باشا قد قوض تقاليد المماليك، لكنه جرى إعادة ترميمها بعد سقوط مصر في خديوية عاجزة عن مواكبة التطور الحقيقي. وانتزع جمال عبد الناصر مصر من براثن الاستبداد وتقاليد المماليك العتيقة لكنها سرعان ما سقطت في تبعية غريبة الأطوار والمعنى. بدأت بأنور السادات وانتهت بحسني مبارك. وكشفت بدورها عن أن التحول الذي جرى في مصر عام 1952 لم يكن تحولا منظوميا (رغم عظمته الفعلية)، كما انه استمر لحد ما بتقاليد المماليك! فهو لم يرس أسس الدولة الشرعية والنظام السياسي العقلاني. من هنا سقوطه فريسة سريعة الالتهام بلغت ذروتها في "منظومة" الفساد الشامل لسلطة حسني مبارك!
تكشف هذه الحصيلة العامة عن أن مصر لم تستطع على امتداد حوالي قرنين من الزمن وضع قدميها في الطريق الصحيح، وأن قطارها التاريخي يشبه قطاراتها الحالية. بمعنى أنها اقرب الى عربات متهرئة للناس والماعز والموت المجاني! كما تكشف هذه الحصيلة أيضا عن انه لا يمكن للمرء أن يكون فرعونا بدون مصر! أما فراعنة بدون مصر فأنهم في أفضل الأحوال أما بقايا مماليك وأما حفنة صعاليك!
إلا أن الشيء الأكثر جوهرية فيما جرى ويجري والذي لا يشبه الأشياء، شأن موسيقى الحياة هو فكرة المستقبل ونوعية البديل المرتبطة به. انه يكشف عن أن حقيقة مصر والعالم العربي هي أولا وقبل كل شيء مشاريع مستقبلية، أي ولادة حقيقة تنهي مرة واحدة والى الأبد زمن المماليك والصعاليك.

***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تحدي الثقة بين شيرين بيوتي و جلال عمارة ???? | Trust Me


.. حملة بايدن تعلن جمع 264 مليون دولار من المانحين في الربع الث




.. إسرائيل ترسل مدير الموساد فقط للدوحة بعد أن كانت أعلنت عزمها


.. بريطانيا.. كير ستارمر: التغيير يتطلب وقتا لكن عملية التغيير




.. تفاؤل حذر بشأن إحراز تقدم في المفاوضات بين إسرائيل وحماس للت