الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل يتمكن الشعب المصري من تعديل المصطلح الكلاسيكي لمفهوم الثورة ؟

مهدي بندق

2011 / 2 / 26
مواضيع وابحاث سياسية


في إيمانه بالاشتراكية، كان سلامة موسى يطالب بالانفتاح على غرب "معادٍ للغرب " قاصدا ً بذلك الإشارة إلى أن أوربا التي عهدناها مفرخة ً لطيور الاستعمار الجارحة ، لم تخل من تيارات فكرية تناقض النزعة الاستعمارية المنبثقة عن نظام رأسمالي يسعى – بطبيعته وهياكله وغاياته – للهيمنة على الأسواق العالمية ولو بقوة السلاح ؛ نظام أساسه امتصاص فائض قيمة عمل الأجراء "الأحرار" .. والأحرار هنا تعني أنهم ليسوا مجبرين على العمل ، إنما هم مضطرون – بحكم الفاقة - لعرض طاقاتهم البدنية والعصبية بوصفها سلعة تباع بثمن إنتاجها في سوق الصناعة، أي بالأجر الذي يكفي بالكاد لإبقائهم على قيد الحياة ، وكلما نجح أصحاب المصانع في زيادة ساعات العمل أو تكثيفها [ مثال شارلي شابلن في فيلم الأزمنة الحديثة ] ازداد ما يحصـّلونه من شراء واستخدام تلك السلعة -التي هي قوة عمل الأجير- دون أن يسددوا عنها أجرا ً.
والحاصل أن تلك المغالطة الاقتصادية في مجال تبادل القيم ، سرعان ما استفزت أصحاب المثل العليا الباحثين عن العدل المطلق ، فأقبلوا يتذامرون داعين إلى أفكار"إنسانية " رفيعة الشأن ُأطلق عليها فيما بعد الاشتراكية الطوباوية Utopia ، واليوتوبيا معناها لا مكان، أي أن أحدا لا يمكنه التعامل معها واقعيا ً، وعليه فقد كان الإخفاق مآل تلك الاشتراكية الخيالية. لكن السعي وراء حلم العدل لم يمت ، إذ تلقفه ماركس وانجلز بالنقد وبالدرس العلمي إلى أن استويا به على هيئة فلسفة مادية واقعية قابلة للتطبيق .
وهكذا صار الغرب منتجا ً لنوعين من الأنسقة الفكرية: أولهما مستغل مستعمـِر ضارٌ بحاضر ومستقبل البشر، بينما ثانيهما يرفض الاستغلال ويعادي الاستعمار ويبشر بتاريخ جديد للإنسانية يحصل فيه المرء على حقه الذي هو نتاج عمله كاملا غير منقوص. فأين كانت العلوم الإنسانية من هذين النسقين المتعاكسين ؟
الاجتماع ومشرق النور والعجائب ؟
في عام 1838 أطلق أوجست كومت اسم علم الاجتماع Sociology على ذلك الفرع الأكاديميّ المختص بدراسة العلاقات القائمة بين أفراد المجتمع الواحد بوصف كل فرد رفيقا ً وشريكا ً لغيره Socius بيد أن كومت لم يلتفت قط إلى حقيقة أن الرأسماليين ما كان لهم أن يقبلوا البتة بفكرة أن العمال شركاء ورفاق لهم ، وهو ما كاد يعصف بعلم الاجتماع لولا انفجار الصراع الطبقي الذي سمح للفكر الاشتراكي بانعاش وتطوير هذا العلم ، بل وسمح أيضا لعلماء كبار غير ماركسيين من أمثال إميل دور كايم ، وماكس فيبر بتجاوز " وضعية " كومت الخاضعة والمبررة لمصالح البورجوازية.
ذلك ما دفع بسلامة موسي إلى الترحال لآفاق الثقافة الغربية ينهل من مياهها ما رآه يروي ظمأ بلاده التي طالما قبعت في كهوف الجمود التاريخي ّ مستعينة على آلام الظلم والمذلة بالمسكنات الميثولوجية وبأقراص الإذعان السياسي، لا تعرف معنى لكلمة الثورة غير ما سجلته قواميس لغتها العربية من شروح تدور كلها حول معاني الهيجان والشغب وبث الفتن وإزكاء الغضب في نفوس الغوغاء ...الخ
فهل من تثريب علينا لو انتهجنا نفس النهج " السلاموسي " ونحن نحاول الإجابة عن سؤال اللحظة التاريخية الفارقة في حياة بلادنا : بماذا تسمى " بنية " أحداث يناير 2011 ؟ وأين سيكون موقعها على خارطة علم الاجتماع المعاصر ؟ وهل يكفينا لنسميها ثورة صياح قادة الغرب المشدوهين : سوف ندرّس ما فعله المصريون في جامعاتنا / لقد علمتنا مصر في فجر التاريخ وهاهي ذي تعيد تعليمنا في القرن الحادي والعشرين / كيف مع غياب الشرطة الكامل والمتعمد استقر الأمن بين الناس ؟! وكيف تلاشت الإحن والبغضاء بين المسلمين والمسيحيين وكنا ننتظر نشوب الحرب الأهلية بينهم ؟! / لأول مرة نرى شعبا يخلع طاغية ، ويجرس أعوانه الفاسدين الجبابرة ويلزم الحكومة بحبسهم ومحاكمتهم ثم ينظف بعدها الميادين والشوارع وهو يغني ويؤلف الأشعار ؟! قالت كلينتون : لقد غير الشعب المصري صورة العرب والمسلمين . ولأن هذا هو ما جرى فعلا ً فدعنا (مؤقتا ً) تحت عنوان ما أسماه نجيب محفوظ : مشرق النور والعجائب .

الغرب الطيب والغرب القبيح
لا شك في أن الديمقراطيين الحقيقيين في الغرب قد سعدوا أيما سعادة بـ " يناير المصريين " وحين يقول هؤلاء إن ما حدث في مصر ثورة لا غش فيها ، ينبغي حمل أقوالهم تلك على محمل الجد . أما قادة النظام الرأسمالي ثمة فالتوقف بالفحص التحليليّ إزاء ترحيبهم بـإنجاز بلادنا ضرورة حياتية من حيث مردودها على مستقبل المنطقة بل والعالم بأسره .
وآية ذلك أن ما حاق بالقطب الأوحد في 11/9/2001 من تدمير برجيْ نيويورك ومبنى البنتاجون بطائرات مختطفة ؛ كان دافع الغرب لإعلان الحرب على الإرهاب " الإسلامي " بقواعده الخفية في الشرق الأوسط ، ولكن مع استحالة تحقيق النصر الكامل بات الغرب ملزما بالبحث عن بديل سياسي عكفت عليه معاهدُ دراساته الإستراتيجية ( بروكنجز – أولين – راند – كارنيجي وغيرها خارج الولايات المتحدة ) حيث تبدى هذا البديل في خيارين أحلاهما مر :
أولهما إعادة رسم خريطة المنطقة وتقسيم دوله الحالية بما يحقق الانسجام العرقي والعقائدي لصالح الهيمنة الغربية، وقد حصل هذا السيناريو في العراق على درجة ضعيف جدا .
وأما الخيار الثاني فكان اقتراح دمقرطة Democrization المجتمعات العربية والإسلامية أملا في أن تكون الديمقراطية ( الشكلية طبعا ً) قادرة على التعامل السياسي مع الاختلافات الدينية والأيديولوجية والإثنية بما لا يعكر على مصالح الغرب الإستراتيجية ، وذلك بتأمين تدفق المواد الخام وفي مقدمتها النفط ،جنبا إلى استمرار الأسواق المحلية مفتوحة أمام السلع والاستثمارات الغربية ، إضافة إلى التأمين اللوجستي المنشود لربط الغرب بالشرق .
وهكذا قرر الغرب " القبيح " أن يجمـّل وجهه التقليدي بدعوته علم الاجتماع فيه لدراسة التجربة المصرية " الينايرية " باعتبارها " ثورة " ضمن الثورات الملونة ..تلك التي احتضنها الغرب بأمل منه في أن تكون مطالبها محدودة بحدود الإصلاح السياسي ، إذ ما دام هذا الإصلاح لا يذهب إلى العصف بالنظام الرأسمالي ذاته فلا بأس من دعمه وتأييده
ولكن من قال إن الغرب إله قدّر الأقدار ، وأنه كما شاء فعلت الشعوب ؟!

الثورة وضبط المصطلح
يطلق علم الميكانيك اسم الثورة Revolution على دوران الجسم 360 درجة حول محوره ، ومن هذه الخاصية استعار علم الاجتماع السياسي تلك التسمية ليسبغها على كل حركة اجتماعية تؤدي إلى انقلاب شامل في المفاهيم الفكرية والسياسية بما يتضمنه ذلك الانقلاب من تغيير راديكالي شامل في أوضاع الملكية . ومن الواضح أن هذا التعريف لا يكاد ينطبق إلا على ما حدث في فرنسا عام 1789 وروسيا عام 1917 حيث تمكنت هاتان الثورتان من تحقيق أهدافهما بحيازتهما سلطة الدولة ، وهو ما لم يحدث في مصر يناير ، على الأقل حتى الآن .
ذلك هو التعريف الكلاسيكي لمصطلح الثورة من وجهة نظر المادية التاريخية ، أما التعريف ( الكلاسيكي أيضا ً ) في رؤية الفكر البورجوازي فلا يشترط ، بل وربما يرفض ، اقتران الثورة بتغيير أوضاع الملكية ، وهذا ما يفسر وصف كثير من التطورات التاريخية الطبيعية بـ " الثورة " كما في تسمية الزمن اللاحق للنهضة الأوربية بعصر " الثورة الصناعية " والزمن التالي لها بعصر " ثورة الاتصالات " و " الثورة المعرفية " ...الخ وهي تعبيرات مجازية مقصود منها تفريغ مصطلح الثورة من مضمونه الإنساني وتحويله إلي لعبة من ألعاب اللغة .
والحق أن حسم ذلك التضارب " المصطلحي " ليس مما يدخل في باب المماحكات اللفظية [ فالعلم في جوهره منهج ومصطلح ] وعليه فلابد للمشتغلين بعلم الاجتماع في مصر وفي مقدمتهم الأستاذ السيد ياسين والدكتور وحيد عبد المجيد ، وللمؤرخين الجدد أمثال الدكتور محمود إسماعيل والدكتور عبد الهادي عبد الرحمن والأستاذ صلاح عيسى ؛ أن ينهضوا إلى تخصيص دراسات ضافية حول هذه الظاهرة غير المسبوقة ، دراسات تكون غايتها الارتفاع بالوعي الوطني العام إلى مستوى التنظير العلمي الدقيق ، لا سيما وأن ما حدث في يناير إنما يشي بانقلاب تاريخي جذري في الشخصية المصرية أساسه سقوط نمط الركود الإنتاجي بمطرقة عصر الاتصالات الذي أثمر محو ثقافة المفعولية والإذعان ، فاتحا ً الفضاء الثقافيّ لإرادة الفاعلين الاجتماعيين التي ُوجدت لا بخبطة عشوائية أو بمنحة ميتافيزيقية ، بل بفضل تكنولوجيا العصر التي مكنتهم من امتلاك وسائل إنتاج معرفية جديدة . ولاحظ كلمة "امتلاك" هذه بدلالتها " الثورية " الأصيلة .
**
ويبقي أن يلتفت شعب يناير العظيم بقوة إلى أن نجاحه في تغيير المصطلح الكلاسيكي لمفهوم الثورة ، إنما هو أمر مرتهن بقدرته على الانخراط غير المتحفظ في مؤسسات العمل السياسي والحزبي ، حيث لا مندوحة من قيام ملايين الشبان والشابات (الذين نجحوا في إسقاط الطغيان) بتشكيل حزب سياسي جبهوي على غرار وفد 1919 تكون مهمته استلام سلطة الدولة عبر صناديق الانتخابات ، وبالتوازي فإن انضمامهم إلى أحزاب " مدنية " جديدة أو قديمة لحرّي ٌ بتحويل تلك الأحزاب إلى جبهات ديمقراطية يستحيل ضربها . ودون ذلك فإن طريق القوى المضادة معبـّد ٌ، ومفتوحا ً لا يزال لشرورها القديمة، تلك القوى التي تعمل من الآن بكل طاقاتها وخبراتها ، متحالفة مع فلول النظام الفاسد المخلوع لكي تخنق الديمقراطية الوليدة في مهدها .
وساعتها سوف يسأل التاريخ علماء الاجتماع : هل كان يناير مصر ثورة أم كان مجرد حلم جميل ؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تؤذن في مالطة
د . عادل البطراوي ( 2011 / 2 / 27 - 10:20 )

يا دكتور مهدي حضرتك تعرف جيدا حقيقة ما حدث قياسا على مصطلحات علم الاجتماع السياسي الذي أظنه مجال تخصصك ، وهل هنلك ثورة تعجز عن الامساك بسلطة الدولة ؟ يا سيدي دعنا نسمي الأشياء بأسمائها ، ودون ذلك فنحن مجرد قوم من الدراويش والمساطيل
لم تقم أي ثورة في مصر فالثورات تجب ما قبلها وهذا ما لم يتحقق في تظاهرات25 يناير .لقد عشنا وهم كبير اردنا أن نصدقه . وليس أدل على ذلك من قيام شباب الفيس بوك بتقديم ١٠٠ طلب لمجلس الرئاسة وهو ينتقي منها ما يحلو له . لم أعد أثق في هذا المجلس لحكم مصر في المرحله القادمه ويجب أن نركز جهودناعلى مطلب واحد و واحد فقط : مجلس رئاسي من خمسة أفراد منهم واحد يمثل المؤسسة العسكريه . إلا لو أردنا إعطاء فرصة للحزب الواطي لتجميع صفوفه والعوده إلى الحياه مرة أخرى ويدهم في يد الأخوان المسلمين. غير كده سلملي على الثوره ، وبالمرة سلم لي على المصطلحات العلمية وبنية العقل المصري

اخر الافلام

.. اجتهاد الألمان في العمل.. حقيقة أم صورة نمطية؟ | يوروماكس


.. كاميرا CNN داخل قاعات مخبّأة منذ فترة طويلة في -القصر الكبير




.. ما معنى الانتقال الطاقي العادل وكيف تختلف فرص الدول العربية


.. إسرائيل .. استمرار سياسة الاغتيالات في لبنان




.. تفاؤل أميركي بـ-زخم جديد- في مفاوضات غزة.. و-حماس- تدرس رد ت