الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فرح كلّه قشعريرة

جمال علي الحلاق

2011 / 2 / 28
حقوق الانسان


لأوّل مرّة أكتب وأمسح ، وأكتب وأمسح ، لأنّ الحدث الذي أريد الكتابة عنه أكثر ثقلا وأهميّة من الكلمات التي ترتجف فرحاً وهي تحاول الإقتراب من القراءة ، لقد خرج الشارع العراقي أخيراً على الطوق ، أصبح الآن لدينا شارعٌ لا تحمكه المراجع الدينية ولا الأجندات السياسية ، شارع ينطلق من نفسه ليعبر عن نفسه ، لقد كنّا قريبين من نقاوة الإنفعال ، إنفعال الهتاف ، لأوّل مرّة نسمع الهتاف ونتحسّس صدقه ، الهتاف الذي لا يمكن تجييره الا الى الشعب ، والى الوطن .

كنّا نراقب الحدث ونحن ننزف ، نراقب الفضائيات الحكومية وهي تحاول إحباط المشاهدين بأخبار منتقاة بحسب الرغبة ، رغبة المؤسّسة الداعمة ، لكنّنا أيضاً كنّا نترك الفضائيات لهذياناتها ، ونلجأ الى النافذة الأكثر صدقاً ، الى الفيس بوك ، نافذة الحقيقة الجديدة ، كنّا نشعر بفرح جديد ، فرحٌ كلّه قشعريرة ، نرتجف بهجةً ، هكذا خرج الشارع العراقي بهويّة أخرى ، لا علاقة لها إلا بلحظتها الإجتماعية ، هويّة كشفت ثقل التكتّلات السياسيّة ، وثقل المرجعية الدينية على صدر الحياة اليومية ، لقد إلتفتت العين بعيداً ، وما عاد أحد قادراً على استغفالها .

***

كان معلّق الفضائية العراقية يقول وهو يصف التجمّعات تحت نصب الحرية : " إنّ الأعداد قليلة لا يتجاوزون المئات ، وأنّها تطالب بمطالب شخصيّة " ، هكذا حاولوا إجهاض الروح ، لكنّنا رأينا على الضفة الأخرى ( الفيس بوك ) رأينا الأحجار الكونكريتية التي أغلقوا بها جسر الجمهورية ، أغلقوه لا لكي يمنعوا مرور العربات الدخيلة ، بل لكي يمنعوا مرور أيَّ أحد من المتظاهرين ، حاولوا قمع التظاهرة بأيّ وسيلة ، بهذه الطريقة يتمّ تزييف الحقائق ، وهكذا تتمّ كتابة التاريخ أيضاً .

الفضائية التي تمثّل الحكومة العراقية تنصب كاميراتها بشكل ثابت تحت نصب الحرية بينما الحقيقة القصوى كانت هناك على الضفة الأخرى من جسر الجمهورية .

لا تزال المؤسّسة تفكّر بعقليّتها الضيّقة ، وتستخدم نفس الآليات القديمة ، ولم تعِ للآن بأنّ الزمن قد عبر الى مسافات لا تطالها عين الماضي ، الماضي يتقنفذ بطريقة لم تحدث من قبل ، لقد كانت الأرشفة الحيّة للتظاهرة على الضفة الأخرى صفعة حاسمة لعقلية الحكومة والمؤسّسة الداعمة ، تحوّل كلّ متظاهر الى مراسل حي للعالم ، هكذا يفقد الإعلام المركزي مركزيته ، ويتناقل الناس على الأرض كلّها البثّ الحي عبر مراسلين أحياء لا يعنيهم سوى إيصال الحقيقة كما هي بلا تعليق ، نقل الفعل والهتاف دون رفع أو خفض للصوت ، ودون تزويق أيضاً ، نقلٌ حي يشير الى حركة الحياة .

***

أستطيع القول أنّ المراجع الدينية ( سواء أكان السيستاني أو الصدر أو اليعقوبي ) ولأوّل مرّة في تاريخ وجودها تّتخذ قراراً سلبياً الى جانب الشعب وليس ضدّه ، لقد كان قرار إنسحابها من المشاركة في التظاهرة السلمية أجمل وأهم قرار صدر خلال الأسبوع الماضي ، لا أريد التحدّث عن ما تضمّنه هذا القرار من إنتهازيّة هي الهويّة الطبيعية للمؤسّسة الدينية ، لكنّني أريد التحدّث هنا عن الفائدة التي خرج الشارع بها من هكذا قرار .

لقد بات واضحاً للجميع أنّنا الآن نمتلك شارعاً لا يمكن إستغفاله ، ولا يمكن الضحك عليه ، شارعٌ أنضجته المأساة ، المأساة التي تخلق وعياً آخر ، وعياً رافضاً لكلً ما يدعو الى التهميش والإذعان ، شارعٌ متديّن ، لكن بطريقة أكثر تحضّراً ، يعي كيف يتبع الحياة الجديدة ، ويتّقن الإنصات لحاجاته اليومية أكثر من الإنصات لفتاوى المرجعية ، شارعٌ لا يعيش في الماضي ، شارعٌ هو ابن لحظته الراهنة ، ويطالب بإحتياجات لحظته الراهنة أيضا .

***

حاولت الحكومة على لسان ( المالكي ) أن تزرع الرعب والخوف في صفوف الناس ، حاولت بطرق قميئة أن تهبط من عزم الشباب على التظاهر ، فوصفتهم بأسوأ ما تستطيع من صفات ، بعثيون قاعديون إرهابيون مخرّبون ووو ، كان لسان المالكي المفزوع يردّد الكلمات ويبحث عن أخرى ، سانده في ذلك الخط المرجعي وبعض الإنتهازيين من شيوخ العشائر ، وكانت القناة العراقية تبثّ الفتاوى والتصريحات في اللحظة ذاتها التي تبثّ فيها خطاب المالكي .

لقد شنّ الإعلام المؤسّساتي أعتى حملة ضدّ الشباب العازم على التظاهر ، لا لسبب إلا لأنّ التظاهرة كانت بلا جهة سياسية ، ودون مرجعية دينية أيضاً ، أي أنّها كانت تظاهرة خارجة على ما هو مألوف لدى المؤسّسة . كانت خطورة التظاهرة تكمن في أنّها بلا هوية طائفية ولا سياسية ، بل إجتماعية صرفة ، شيئا شعبيا خارج نطاق المحاصصة ، وهذا كان خروجاً على وعي الحكومة بكلّ تدرّجاتها السياسية والدينية ، من هنا نرى تقنفذ المراجع الدينية وهروب بعض البرلمانيين كالجرذان الى جحور يتّقنون العبور اليها لحظة الضيق .

***

لقد أثبت الشارع العراقي أنّه أكثر حكمة ورزانة من المؤسّسة الحاكمة ، وأنّه أكثر سيطرة على أعصابه ، وهذا درس فاجأ الكثيرين مّمن شكّكوا في استعداد الجماهير لتقبّل الديموقراطية ، كان المالكي على رأس المشكّكين بذلك ، حتى أنّه بدا وكأنّه يحاول محاربة الديموقراطية التي جاءت به الى منصبه الوظيفي .

وقد رأينا إنتشار القوّات المدجّجة بالسواد ، والخوّذ اللماعة ، لماذا يتّفق العالم على هذا الزيِّ البغيض ، كما لو أنّهم أسراب قمل في الشارع ، لا أستطيع أن أتخيّلهم غير ذلك ، لقد كانوا كذلك في تونس وفي مصر وفي اليمن وفي البحرين ، ويبدو أنّ هذا النوع من القمل موجود في كلّ بلدان الأرض ، كلّ حكومة تحتفظ بقملها الى وقت الحاجة .

وكانت أشجار الكونكريت تغلق المسامات على عبور المتظاهرين الى الضفة الأخرى ، قال أحد أصدقائي وهو أستاذ في أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد : " لقد فرضوا الحظر على تحرّك العربات ، لذا فأكثر أصدقائنا قضوا ليلة الخميس في المناطق القريبة من ساحة التحرير لكي يصلوا الى التظاهرة " .

لقد أتّقنت الحكومة لعبة إغلاق المسامات ، ومع هذا بقي للشارع العراقي النافذة الأكثر حياةً ، والأكثر إخلاصاً للحقيقة ، بقيت لهم عدسات هواتفهم النقالة ، ويقيت لهم نافذة الفيس بوك ومواقع الأنترنيت التي كانت تنقل ما يحدث لحظة بلحظة .

***

لم تخلو التظاهرة من ضحايا ، لا مجرم فيها سوى الحكومة ، يجب أن لا نحاسب الشرطي أو الجندي ، بل المسؤول الذي أنزله الى الشارع ، المسؤول الذي كان يتخفّى كالصرصار وهو يُشرف على التظاهرة من شقوق البنايات ، كان المشهد مافيوياً بحتاً ، وكم كان مهمّاً أرشفة ذلك بعدسات المتظاهرين ، إنّهم قريبون جداً ، ويراقبون كلّ شيء ، يسمعون هتاف الجائع ولا يعيرون له بالا ، كلّ ما يهمّهم هو الحفاظ على الإمتيازات التي تفتح باب اللصوصيّة على مصراعيه .

عشرة قتلى أو يزيدون ، وأعداد كثيرة من الجرحى ، هل يمكن الآن السكوت عن القاتل ، الكلّ سيتنصّل ، الكلّ سيدّعي أنّه ذئب يوسف ، وسيحاولون بأقصى ما يستطيعون أن يديروا أعين الناس عن الضحايا ، المجرم يتّقن لعبة المناورة ، ولعبة إشغال الناس ، لن تتحدّث القنوات الفضائية الحكومية والدينية عن جرائم القتل ، وسيثيرون قضية حرق ستارة هنا ، أو تحطيم باب هناك ، سيحاولوا تجريم الشعب المسالم ، سيحاولوا دائماً جعل الشعب هو المتهم ، وهو السبب الأوّل والأخير في وجود ضحايا .

المالكي متّهم أوّل ، ثمّ كافّة أذرعه وأياديه ، جرائم القتل لا ينبغي السكوت عنها ، بهذه الطريقة قطف صدام حسين أعداد لا تحصى من زهور العراق ، سيخرج الشباب ثانيةً لإحياء الضحايا ، فلنعمل على جعل الضحيّة حيّةً دائماً ، وتطالب قاتلها بحقّها ، أدعوا الى رفع صور الضحايا في التظاهرات القادمة .

***

لعلّ أجمل ما حصل من نتائج للتظاهرة هو قضية ( شلتاغ ) ، هذا الذي قدّم استقالة خطيّة بعد أن تمّ رفضه وطرده من قبل الشارع العراقي في البصرة ، الجميل في الأمر هو هذا التخلّي المؤسّساتي عن أيّ فرد ، حتى ولو كان قيادياً في لحظة السقوط ، فقد رأينا كيف أعلن حزب الدعوة براءته منه ، وكيف تبرّأ المجلس الأعلى أيضاً ، هكذا يكون الساقط منفردا ، وهي لعبة سياسيّة صرفة ، فما دام الفرد قيادياً فهو عضوٌ فاعلٌ ، لكنّه في لحظة السقوط لن يكون سوى جرذ ، يحاول الجميع أن يتخلّص منه ، الكلّ يحاول الحفاظ على رصيده الشعبي ، الرصيد الذي يبدو وكأنّه قوالب ثلج تحت شمس آب .

حاول أحد أصدقائي وهو أستاذ في كليّة المعلّمين في ديالى أن يمدح عقلية ( شلتاغ ) ، قلت له : الشارع العراقي الآن يرى القمامة المتراكمة على الأرصفة ، وفي الممرّات ، ومنها يقيس عمق واتّساع عقليّة المسؤول .

***

والآن ، بعد أن نجحت التظاهرة ، وبعد أن استعاد الشارع العراقي روحه الحيّة ، ستعمل الحكومة بكلّ مؤسّساتها السياسية والدينية على احتواء هذا النفس الجديد ، او إحتواء هذا العقل الجديد على حدّ تعبير الشاعر سليمان جوني .

لقد رأوا إفلاسهم الشعبي ، وسيحاولون بكلّ الطرق أن يكونوا هم من يرفع شعار الإصلاح ، بعد أن أرغمهم الشارع على ذلك ، وعليه ينبغي التحرّك بهدوء ، وأقول للشباب ، لا تتنازلوا عن نصب الحرية فهو مكانكم الحقيقي ، أما هم فليرفعوا لافتاتهم وأدعيتهم قرب مكاتبهم السياسية ، وقرب صوامعهم ومساجدهم .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تحية
عباس يونس العنزي ( 2011 / 2 / 28 - 07:22 )
اغتنم قراءتي لكلماتك الرائعة وابعث اليك تحية طيبة وأقول أننا نعيش عصرا وصفه بدقة هربرت ماركوز بكتابه الإنسان ذو البعد الواحد ، وتلك التجربة التي نفذت بنجاح هائل في الغرب تسوق حاليا في البلاد. بالمناسبة لم أعثر على كتابك المهم حول مسيلمة الحنفي ولا أدري كيف أحصل عليه ويبدو أنه سيكون مثل كتاب للدكتور كمال الصليبي حول التوراة وجغرافيتها حيث لم اتمكن من قراءته إلا بعد عشرين عاما

اخر الافلام

.. شاهد: المجاعة تخيّم على غزة رغم عودة مخابز للعمل.. وانتظار ل


.. مع مادورو أكثر | المحكمة الدولية لحقوق الإنسان تطالب برفع ال




.. أزمات عديدة يعيشها -الداخل الإسرائيلي- قد تُجبر نتنياهو على


.. وسط الحرب.. حفل زفاف جماعي بخيام النازحين في غزة




.. مظاهرة وسط تونس تدعو لإجلاء المهاجرين من دول جنوب الصحراء