الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دريدا والزرقاوي

صبحي حديدي

2004 / 10 / 12
مواضيع وابحاث سياسية


لو كان إدوارد سعيد علي قيد الحياة هذه الأيام، فالأرجح أن النصّ الذي كان سيكتبه في مناسبة رحيل جاك دريدا ‏‏(1930 ـ 2004) كان سيبدو بين أفضل المراثي، وأرفعها رصانة في الجانب النقدي، وأشدّها توغلاً في فكر وفلسفة ‏ومحاسن ومساوىء الفيلسوف الفرنسي الشهير. كان بين الرجلين خلاف عميق، لم يتسنّ له أن يظهر على السطح ‏للأسف، وإلا لكنّا كسبنا واحدة من أعمق مناظرات النصف الثاني من القرن العشرين. وكان بين الرجلين، غنيّ عن ‏القول، احترام متبادل وصداقة وعلاقات شخصية وحتى عائلية.‏
وأذكر أنني، قبل عشر سنوات تقريباً، استوضحت سعيد عن هذه المسألة، مشدّداً على أنه شخصياً، وفي مطلع مساره ‏الفكري، كان واحداً من قلّة من النقاد أبناء جيله في أمريكا، ممن قدّموا الفلسفة الأوروبية ودراسات النُظُم المختلطة ‏والفينومينولوجيا والبنيوية، وسواها. لماذا كنتَ قاسياً على دريدا بصفة محددة، سألت آنذاك، وهل تغيّر موقفك بعض ‏الشيء؟ الراحل، الذي كان يعرف أننا لم نكن في حديث مجالس، وأنّني كنت أحاوره لكي ينشر كلامه على الملأ، ‏أجابني هكذا: "أولاً: أعتقد أن دريدا رجل لامع تماماً. لقد أحببته، وقامت بيننا صلات شخصية وطيدة. ولكني مع ذلك ‏شعرت بتلك الحالة الطفيفة من انعدام التوازن بين منهج التفكيك ذي الطابع التشكيكي وربما الفوضوي العالي من جهة، ‏وبين اجتهادات التفكيك المنهجية من جهة ثانية. ولقد بدا لي، على نحو محتوم ربما، أنّ ما يلوح كنزعة تشكيك تأملية ‏ونيتشوية هي حالة يسهل تطويعها لملائمة مختلف المؤسسات: حقيقة أن دريدا أصبح "دريدائياً"، وأن مدرسة كاملة في ‏أمريكا تُعرف اليوم باسم الدريدائيين . وبالمناسبة، أخبرني دريدا نفسه أن شهرته في أمريكا تختلف عن شهرته في ‏فرنسا حيث لا يبدون به اهتماماً واسعاً. ولقد بدا لي أنّ حالة المؤسسة هذه أخذت تفقده حرّيته في الاستكشاف الدائم".‏‎ ‎
وتابع سعيد: "لقد شعرت، وأذكر أنني ناقشت هذه المسألة مع شومسكي، أنّ أعمال دريدا تنطوي على الكثير مما يثير ‏البلبلة وإطلاق العنان للأهواء، بدل المحاولة الجادّة للانخراط سياسياً في بعض قضايا الساعة الكبرى مثل فييتنام أو ‏فلسطين أو الإمبريالية. لقد شعرت على الدوام بوجود نوع من المراوغة، فأقلقني ذلك. وحين كنت التقي به، كنّا نتبادل ‏حوارات مفيدة. لقد زارني في بيتي، ودعوته لإلقاء محاضرات في كولومبيا في أواخر السبعينيات. وحين جئت إلى ‏باريس لإلقاء بعض المحاضرات في السوربون، دعاني وعرّفني على زوجته. في المستوى الشخصي كانت الأمور ‏على مايرام. ولكني شعرت انه بدأ يطوّر حسّ الدفاع عن منطقة وعقيدة جامدة. وكنت أقول في نفسي: ما معنى ذلك؟ ‏أضف إلى أنني ازددت انغماساً في السياسة، وخيّل إليّ أنه يزداد ابتعاداً عن السياسة".‏‎ ‎
الحال، للإنصاف، تبدّلت جذرياً في ما بعد، لأنّ دريدا أخذ يقترب أكثر فأكثر من موضوعات الساعة، لكي لا نقول ‏موضوعات السياسة بالمعني الحرفي للمفردة. لقد أصدر عدداً من الأعمال الهامّة في سياسة الأبارتيد، وسياسة الصداقة، ‏وسياسة الضيافة، وسياسة ماركس، إلى جانب كرّاسة في تحليل هزّة 11/9. وهذا، في الواقع، ينسجم تماماً مع روحيّة ‏منهج التفكيك التي أطلقها دريدا مطلع الستينيات، معتبراً أنّ جميع النظريات الغربية الخاصة باللغة والاستخدام اللغوي ‏‏(أي، في عبارة أخرى، النطاق الذي يشمل الثقافة الغربية بأسرها) قائمة على مركزية كلامية. وبين أبرز إجراءاته في ‏كشف (وبالتالي: تفكيك) الفرضيات الراسخة كان قلب الهَرَمية التقليدية التي تقول بأسبقية الكلام على الكتابة (ومن هنا ‏الأهمية الفائقة للدراسة الشهيرة "صيدلية أفلاطون"، التي ترجمها الصديق الشاعر العراقي كاظم جهاد). الإجراء التالي ‏كان استبدال هذه الهرمية المقلوبة عن طريق إدخال كتابة بَدْئية ليست سوى تكوين مُختلق، لكنه مع ذلك يمكن أن يدلّ ‏علي الكلام‎ ‎والكتابة في آن.‏
غير أنّ انقلاب فكر دريدا إلى فكر" دريدائي"، لكي نعيد التذكير بالتعبير الثاقب الذي ساقه سعيد، كان العتبة الأولى ‏لانزلاق منهج التفكيك إلى حيث لم يكن يليق بالمنهج أبداً، ولم يكن دريدا نفسه سعيداً به. لقد أعرب مراراً عن سخطه ‏من اللهو بالمصطلح، واستخدامه كيفما اتفق، وبالتالي رواجه في صيغة موضة فلسفية لم تعد تملك من أدوات التفكيك ‏سوى المعنى المباشر للمفردة ذاتها! والمفارقة أنّ شكوى دريدا كانت تنطبق على حال التفكيكية في الولايات المتحدة، ‏البلد الذي احتضن فلسفة التفكيك ورفعها إلى مصافّ عليا (وأحياناً مقدّسة لا تُمسّ!) في جامعات أساسية مثل ييل وجون ‏هوبكنز.‏
وذات يوم غير بعيد اشتكى دريدا، علانية، من أنّ صحيفة "نيويورك تايمز" استخدمت مصطلح التفكيك للحديث عن ‏تحضير طبق "يخنة الأرانب"! وليس مصادفة بحتة أنّ الصحيفة ذاتها نشرت، في يوم رحيل دريدا وإلي جانب مقالة في ‏رثائه، تحليلاً مطوّلاً بعنوان... "تفكيك أبو مصعب الزرقاوى"!‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -تنمو بشكل عكسي-.. طفلة تعاني من مرض نادر وهذا ما نعلمه عنه


.. بريطانيا.. مظاهرة في مدينة مانشستر تضامنا مع أطفال غزة وتندي




.. ما أبرز محطات تطور العملات في فلسطين؟


.. نازح فلسطيني: -نفسي نرجع زي قبل.. الوضع الحالي حسسنا إن كنا




.. انتبه!.. القوارير البلاستيكية قد تصيبك بالسكري #صباح_العربي