الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من التحليل البنيوي إلى التعددية النصية و الثقافية

محمد سمير عبد السلام

2011 / 3 / 3
الادب والفن


تكشف أبحاث الناقد المصري الدكتور السيد إبراهيم عن اهتمامه بتبويب الاتجاهات النقدية الحديثة ، و المعاصرة ؛ مثل البنيوية ، و التطورات اللاحقة للنقد النصي عند بارت ، و غيره ، و الاتجاهات الجمالية ، و الثقافية ، و علاقة الأدب بمدلول العولمة ، و تداعياته في الأدب ، و السياق الاجتماعي ، و كذلك التحليل النقدي لتلك الاتجاهات في شكولها المختلفة ، و علاقتها بالثقافة العربية ، و الأدب العربي المعاصر ، و إعادة إنتاجها في الدراسات التطبيقية التي قدمها للنصوص العربية ؛ و من ثم تؤسس هذه الأبحاث للمراجعة المستمرة لمدلول النقد ، و اتجاهاته المعنية بمسار تأويلي بعينه ، و مدى التعددية المفتوحة للمعنى تبعا للتطبيقات النسبية ، و الخلفيات المعرفية المتباينة للنقاد ، و التي تبدأ من التفاعلية المعقدة للمعنى في دوال النص نفسه .
إننا – إذا - أمام استراتيجيتين أساسيتين تبرزهما تلك الدراسات التي ترتكز على نقد المنهج ، و إعادة إنتاجه في أكثر من ثقافة ، و تطبقه على نصوص متباينة ، و بخاصة الأبحاث ذات الطابع المستقل الذي يسعى للأصالة ، و الكشف عن المدلول الإنساني في النصوص الأدبية ، و النقدية ؛ مثل أعمال الناقد الدكتور السيد إبراهيم ، فضلا عن طابعها التعددي في التقديم ، و التطبيق ، و هما :
الأولى : التفاعل مع ثقافة الآخر ؛ فالاستراتيجيات النقدية ، و أدواتها التطبيقية تبرز مدى تطور الوعي بالنص ، و الكشف عن مراحل العقل النقدي نفسه ، و أسئلته الذاتية التي تراجع بنيته الإنسانية ، و تشكلها الفريد في الثقافات المتباينة .
الثانية : تفجير الدلالات المتنوعة ، و الكامنة في الدوال النصية انطلاقا من إعادة إنتاج المعنى من جهة ، و تعددية مسارات النقد التي تسمح بوجود فراغ تأويلي دائما يسمح بانتشار الدلالة ، و اختلافها ، و يشارك فيه العقل النقدي الذي يميل إلى تأكيد الأصالة ، و الاختلاف .
و يمكننا رصد ست استراتيجيات نقدية جزئية تتميز بها بعض أبحاث الدكتور السيد إبراهيم النقدية ؛ هي :
أولا : التحليل النقدي .
ثانيا : المقارنة بين التوجهات النقدية .
ثالثا : نقد النقد .
رابعا : من الأبنية السردية إلى التعددية الفكرية ، و الثقافية .
خامسا : الترجمة .
سادسا : التفاعل بين النص ، و السياق الثقافي .
أولا : التحليل النقدي:
يقوم التحليل النقدي الشارح على إبراز المسار الفكري لاتجاه نقدي بعينه ؛ و من ثم تحليل العناصر الفرعية لذلك المسار عند الرواد ، و نصوصهم التطبيقية ، و قد قدم الناقد الدكتور السيد إبراهيم أهم المسارات الفكرية – تنظيرا و تطبيقا – فيما يخص فن الرواية في كتابه (نظرية الرواية – دراسة لمناهج النقد الأدبي في معالجة فن القصة) ؛ إذ عرض لتنوع الأبنية الفنية القائمة على الوظائف المتكررة ، و طرق تفسيرها في النصوص القصصية ، و الحكايات القديمة .
يتتبع الناقد – إذا – نشوء الفكر النقدي البنيوي لفن القصة ، و تطوره من خلال ثلاث مسارات ، تبدأ بتكرار وظائف بعينها في عدد غير محدود في النصوص السردية عند بروب ، ثم التحليل البنيوي القائم على التقابل الضدي عند جريماس ، ثم التفسير النحوي للأبنية القصصية عند تودوروف .
في سياق عرضه لمبدأ الوظائف المتكررة عند بروب ، يرتكز الناقد على تمثيلات بروب – في كتابه مورفولوجيا الحكاية الشعبية - لتواتر شخصية الشرير ، و ما يرتبط بها من صفات ، و تجلياتها المختلفة في صور الساحرة ، أو التنين ، أو الغول ، و غيرها (1) .
و يقدم الناقد مبدأ التقابل الضدي عند جريماس من خلال أزواج الفاعل و المفعول ، و المرسل و المستقبل ، و المعين و المناوئ ، ثم يعرض لمدلول النظيرة ، أو الدلالة التي تمثل التجانس ، و دواله المختلفة في النص ، من خلال تطبيق جريماس لها على العالم المتخيل للروائي جورج برنانوس ، في كتاب له بعنوان علم الدلالة البنيوي ، ثم يعزز من أن هدف جريماس النهائي هو اكتشاف ميكانيزم توليد القصة مثلما فعل بروب (2) .
ثم ينتقل إلى مبدأ التفسير النحوي للأبنية القصصية عند تودوروف ، و تطبيقاته على قصص الديكاميرون لبوكاتشيو ؛ فالجانب التعريفي الذي يخص الاسم في اللغة يتواتر في الأعلام ، و الضمائر ، أما النكرة ، أو النعوت غير المحددة تدخل في الجانب الوصفي ، ثم تمييزه للحبكة بين حالتي التوازن ، و انعدام التوازن ، و بينهما أحداث المرور من حالة لأخرى (3) .
يرتكز الناقد – إذا – في استراتيجية التحليل النقدي الشارح على تعددية مبدأ التواتر في الفكر البنيوي ، و تجلياته المختلفة في التطبيق ، و كذلك التحامه الفعلي بالسياق النصي للقصص ، و الحكايات .
ثانيا : المقارنة بين التوجهات النقدية :
تقوم استراتيجية المقارنة هنا على مبدأ التنوع الأساسي في اللغة النقدية الخاصة بوصف تقنيات السرد ، أو بويطيقا الرواية من جهة ، و كذلك اختلاف التوجهات الفكرية ، و التأويلية للنقد الأدبي في تناول النصوص الكلاسيكية ، أو الحداثية ، أو النصوص التي تجمع بين الكلاسيكية ، و الحداثة من جهة أخرى .
و قد عرض الناقد للاختلاف في المصطلح النقدي الخاص بتقنيات السرد ، و بخاصة وجهة النظر التي يطلق عليها جيرار جينيت البؤرة في كتابه (خطاب الحكاية) الذي تناول فيه تقنيات السرد المختلفة عند مارسيل بروست ، ثم تقسيمه للتبئير بين الداخلي ، و الداخلي المتعدد ، و الخارجي ، و النص غير القائم على التبئير في النصوص التقليدية ، و يعرض للغة نقدية مختلفة للتقنية نفسها عند رولان بارت الذي يقسم المنظور إلى شخصي ، و غير شخصي (4) .
.
و أعتقد أن اختلاف التوصيف النقدي لتقنيات القص عند النقاد ، يضيف ثراء للعملية النقدية ، و يكشف عن تطور البحث البنيوي ، و عدم وصوله لنقطة حاسمة ، و صالحة للنصوص جميعها .
و لم يكتف الناقد بإبراز المقارنات التنظيرية للغة النقد ، و اتجاهاته ، و لكنه تجاوزها إلى الرؤى التطبيقية المختلفة للنص الواحد ، و قد أسهمت استراتيجية الترجمة في الكشف عن هوامش تأويلية جديدة يمكن للقارئ أن يضيفها للنص ، فضلا عن استعانته بالتوجهات النقدية المبنية على طرق التعامل مع النصوص الكلاسيكية ، أو الحداثية .
و يترجم الناقد قصة (قطة في المطر) لأرنست همنجواي ، ثم يقارن بين ثلاثة آراء مختلفة حولها من النقد التطبيقي ، و ترتكز المقارنة على التفاوت في النظر إلى النص تبعا لتوجهه الفني ، أو اعتبارات القراءة ، و آليات الكتابة في بنيته ، و كذلك المفارقة بين نزوعه نحو الواقعية ، أو إبهام المعنى في نصوص الحداثة .
يرتكز نص همنجواي على الزوجة الأمريكية التي تبحث عن قطتها في المطر ، و انصراف زوجها عنها بالقراءة ، ثم تطلعها لمظهرها الأنثوي في المرأة ، و تعاون صاحب الفندق الإيطالي في إيجاد قطة كبيرة لها .
و يعرض الناقد لرأي ديفيد لودج في النص ؛ إذ يرى أنه يجمع بين الكلاسيكية ، و الحداثة ، و لا يوجد به مفتاح واحد للمعنى ، و يتميز بالإبهام ، و اعتراضاته على آراء النقاد التي ذهبت في اتجاه بحث البطلة عن خصوبة ، أو أنها عاقر .
و يتناول رأى الناقد هاجوبيان الذي يفسر النص انطلاقا من افتقار البطلة للأطفال ، و حاجتها للخصوبة في علامات الحديقة ، و المطر .
و يذكر رأي كارلوس بيكر الذي يفسر موقف البطلة ببحثها عن حالة الاستقرار البورجوازي في بحثها عن مباهج الحياة ، و القطة ، و جمالها الذاتي (5) .
تقوم التباينات بين الرؤى النقدية – إذا – على ما يراه الناقد من علامات ذات طابع مركزي في النص من جهة ، و على تأثير الاتجاه الفني للنص ، و الناقد معا من جهة أخرى ؛ فاعتراضات لودج تنبع من أصالة التعددية في النص المكتوب ، و الانحياز النقدي معا في خطوة باتجاه انفتاح النقد النصي .
و أرى أن هناك هوامش تأويلية أخرى سمحت بها ترجمة الناقد للنص كجزء من استراتيجيات المقارنة ؛ إذ تعزز من المبدأ الحواري الذي ينبع مما هو مكتوب باتجاه القارئ ، دون التخلي عن أهمية المنجز النقدي للنظريات المختلفة .
و أعتقد أن النص يقدم لنا مجموعة من الإشارات المتوترة بالأساس بين تصاعد الهوية الأنثوية المستقلة المميزة للفكر النسائي ، و كذلك الفقدان المستمر لتلك الهوية من خلال ضياع ما يرتبط بها من تفاصيل صغيرة ؛ مثل القطة ، و تفاصيل الزينة الجسدية ، و درجة اهتمام الرجل ، و غيرها .
ثالثا : نقد النقد :
ترتكز استراتيجية نقد النقد هنا على التفاعل بين الناقد ، و ما يعرضه من اتجاه نقدي ذي إضافة نسبية ، و خاصة بسياق ثقافي ، أو فني متجدد ، و قد قدم الدكتور السيد إبراهيم لمبدأ التعدد ، و الاختلاف اللانهائي في الدلالة في سياق تطور النقد النصي ، و تجاوزه للبنيوية في دراسة (إس زد-S/Z) لرولان بارت ، و يعزز الناقد هنا من أصالة التعدد عند بارت في تناميه بالمكتوب لا القروء في لغة النقد نفسها .
يعرض الناقد في نهاية كتابة (نظرية الرواية) للتحليلات الإبداعية التي قام بها رولان بارت لقصة (سراسين) لبلزاك ، و كأنها بداية لتعددية مفتوحة يتجه إليها النقد بعد رصده للأبنية المتواترة في مجموعة أفقية من النصوص في نحو الرواية ، أو تقنيات نص بعينه في بويطيقا الرواية ، و هو ما يميز استراتيجية نقد النقد التي تضعه في سياق ثقافي ، و فني له علاقات متباينة بما سبقه من اتجاهات ، و ما يحتمله مستقبلي من تطوير لمبدا فكري بعينه .
يقوم نص سراسين لبلزاك على علاقة حب ناقصة ، و تداخلية بين ساراسين ، و زامبينلا ، و هو رجل يمثل دور امراة في النص ، و يتطور النص في اتجاه التداخل بين الشخصيتين .
و يعرض الناقد لمبدأ التعددية القائمة على الشفرات التفسيرية التي أبدعها بارت في تناوله للنص مثل زيادة الحرف الدال على الأنوثة في البطل / سراسين ، و من ثم إمكانية إضافة دال التأنيث للشخصية الملتبسة التي ستتفاعل مع شخص آخر يجمع بين الأنوثة ، و الذكورة ، ثم التفسير الإبداعي لصوت الزاي ، و شكلها Z ؛ فعلى مستوى الرسم يرى بارت أنها تشبه النصل المعقوف ، و يدل هنا على البتر ، أو الخصاء ، و على المستوى الصوتي لها حز يشبه السوط ، أو وخز الحشرة المتسلطة . و هنا يقارن الناقد بين استراتيجية بارت التعددية ، و ما ذهب إليه ابن جني – جزئيا – من معان للأصوات (6) .
و أرى أن تصورات بارت الإبداعية / النقدية عن النص تتضح نظريا بشكل يوحي بالتجاوز المستمر لأي بنية مستقلة محتملة في نسيجه ، و هو ما يكسب هذا النوع من النقد قدرة على الخروج من أسر المعنى الأحادي.
يرى بارت في كتابه (لذة النص) أن النص يقضي على كل لغة واصفة ، و بهذا يكون نصا ؛ فلا ينتمي إلى صوت ، أو علم ، أو سبب ، أو مؤسسة تقع خلفه ، و هو يهدم – إلى حد التناقض – فئته الاستدلالية الخاصة أيضا (7) .
و أرى أن تنظيرات بارت للنص توحي أننا أمام استراتيجية إبداعية للحضور المتنوع المميز للغة النص ، و دلالاته عن طريق الخاصية النقدية للمعنى ، و لأي بنية فنية يحتملها النص في تلك اللحظة الغنية بالتأويلات .
و في بحثه (لطفي عبد البديع مؤسس النقد الاستطيقي) – ضمن المؤتمر الأدبي الثامن لإقليم القاهرة الكبرى و شمال الصعيد – يتناول الدكتور السيد إبراهيم النقد الجمالي ، و علاقته بعلم اللغة ، و الأبحاث الأسلوبية القائمة على الحدس بين السياقين النظري ، و التطبيقي ، و في سياق ما قدمه لطفي عبد البديع من إضافات في هذا الاتجاه .
إنه يبحث في أصول توجهات عبد البديع ، و يضعها في سياق تطويره للنقد العربي القائم على مفاهيم الحدس الجمالي ، و اختصاصه باللغة الشعرية ذات الحساسية الخاصة .
يعرض الناقد لتحليل عبد البديع لبيتين للشاعر العربي ذي الرمة ؛ إذ يقول :
تريك بياض لبتها و وجها كقرن الشمس أشرق ثم زالا
أصاب خصاصة فبدا كليلا كلا و انغل سائره انغلالا
يرى عبد البديع أن لا تشير إلى السحاب الذي مزقته الشمس ، مثلما فعلت المحبوبة بقلب الشاعر (8) .
لقد ارتكز الناقد الدكتور السيد إبراهيم على مبدأ الإدراك الحدسي الفطري المميز للصورة الشعرية في تطبيقات عبد البديع ، و أثر ذلك المبدأ في تطوير الوعي بالشعر العربي القديم انطلاقا من نقد ذلك التوجه النقدي ، و وضعه في سياقه الثقافي ، أو الفكري .
رابعا : من الأبنية السردية إلى التعددية الفكرية ، و الثقافية .
في هذه الاستراتيجية يرتكز الناقد على تجاوز بنية القص نفسها إلى ما يتجاوزها من تعددية علاماتية في النص ما بعد الحداثي مثلا ، أو في فعالية القراءة التأويلية للقصة ؛ و من ثم فإننا إزاء إعادة تشكيل للبنية في مسارات فكرية تقوم على لا مركزية الدال في بنية النص من جهة ، و تفكيك بنية الحكاية عبر الدور الإيجابي للقارئ من جهة أخرى .
يناقش الناقد الآراء المختلفة التي طرحها روبرت سكولز حول الملكة القصصية التي تضع القارئ في حالة خضوع ، و استسلام لأحداث القصة ، و سبل تجاوزها في الأعمال القائمة على تفكيك المركز ، و الامتلاء عن طريق انتشار تشكيلات الصدفة في الفراغ ، و الصمت مثل أعمال جون كيج ، و غيرها ، و احتمالية التداخل بصورة أخرى مع الملكة القصصية في فعل التكرار ، و كذلك قدرة التحليل العلاماتي على إعادة بناء القصة في سياقات جديدة ، و فعالة في إنتاج الدلالة (9) .
إن الاتجاهات الفنية الجديدة ، و كذلك النقد السيميوطيقي الذي يعيد بناء العلامة طبقا لأفكار ، و اتجاهات فلسفية ، و ثقافية جديدة ، قد وضعت بنية القص في موضع سؤال دائم ، و كذلك أخرجت التوجهات النقدية من الاقتصار على وصف البنية ، و اكتشافها بطرق أفقية ، أو رأسية ؛ فالتكرار يسمح بدراسة أبنية الوعي المشتركة من خلال خطاب القص ، و لكنه ينفتح على ما وراء القص نفسه عند تحرير العلامة من مركزية الملكة القصصية ، و هو ما نلاحظه بوضوح في التأويلية الجديدة ، و التفكيك ، و التلقي ، و غيرها .
خامسا : الترجمة :
تتيح استراتيجية الترجمة الكشف عن إمكانات تأويلية عديدة تفجرها علامات النص المكتوب نفسه في القراءات المحتملة ، و التي يشترك في إنتاجها المنظرون ، و النقاد ، و القراء ، و كأن الناقد يريد أن يفتح نقاشا مفتوحا حول النص ؛ لتستمر تعددية إنتاج المعاني ، و الأبنية في المستقبل ، و بخاصة حول النصوص التي لم تترجم من قبل إلى العربية .
و قد قدم الناقد ترجمات لنصوص قصصية عديدة في كتابه (نظرية الرواية) ؛ مثل (إيفيلين) لجيمس جويس ، و (قصة قصيرة جدا) لأرنست همنجواي ، و (سراسين) لبلزاك .
و أرى أن استراتيجية الترجمة هنا هي جزء من السياق النقدي ، و الفكري للكتاب بوجه عام ؛ إذ ترتبط بنقد النقد الذي يعتمد على وضع الاتجاه النقدي في سياقه الفكري ، و اكتشاف إضافاته ، و تسهم الترجمة في إبراز ما أضافه النص النقدي من إضافات تفسيرية جديدة لم تكن واضحة في المستوى الظاهر من النص ، و قد لاحظت ذلك بقوة في الترجمة الكاملة لنص (سراسين) لبلزاك ؛ فقد أسست الترجمة – بشكل غير مباشر – في إظهار ما أضافه النقد النصي عند رولان بارت من شفرات تفسيرية إبداعية ، و جديدة في قراءة النص الكلاسيكي .
و ترتبط الترجمة أيضا باستراتيجية المقارنة بين الاتجاهات النقدية ؛ فالنص يكشف تعددية الأبنية المحتملة عند النقاد ، و يلقي ضوءا كاشفا على جذرية الاختلاف في الوعي النقدي من جهة ، و يترك هامشا تفسيريا محتملا لدى القارئ من جهة أخرى .
و قد أسهمت الترجمة التي قدمها الناقد قي إبراز الإيحاءات التي تكمن خلف العلامات اللغوية عبر وسيط اللغة الجديدة / المترجم إليها ، و لنقرأ هذا المقطع من ترجمة الناقد لقصة (سراسين) لبلزاك في نهاية الكتاب :
يقول بلزاك :
" في تلك اللحظة لو أن شيطانا مد قاع جهنم بين سراسين ، و بين الزمبينلا لعبرها هذا بقفزة واحدة . كان غرام النحات كأفراس الآلهة التي وصفها هوميروس يجتاز المسافات الواسعة في لمحة عين " (10) .
يصف بلزاك في المقطع السابق قوة العشق الناقص ، و التداخلي المميز لشخصية سراسين باتجاه الكائن الملتبس بين الذكورة ، و الأنوثة / زامبينلا ، و قد عززت الترجمة من قوة العشق ، و إيماءاته الغريزية غير العقلانية .
سادسا : التفاعل بين النص ، و السياق الثقافي :
تقوم استراتيجية التفاعل بين النص ، و السياق الثقافي على العلاقة المعقدة بين النص ، و المؤثرات الاجتماعية ، و الفكرية ، و الثقافية للمجتمعين المحلي ، و العالمي ، و قد كانت هذه الاستراتيجية محورا للدراسات الثقافية بتوجهاتها المتباينة التي ارتبطت بالبنيوية ، و ما بعدها ، و ما بعد الحداثة ، و النقد الاجتماعي الجديد ، و غيرها ، و أرى أنها طريقة بالغة النسبية ، و التعقيد ، و تسمح الآن بتنوع كبير في الدلالة ؛ نظرا للتباين المستمر بين السياقات الثقافية العالمية ، و شكولها المتنوعة من جهة ، و عوامل التأثير ، و التمرد الثقافي الكامنة في السياق النصي للأدب من جهة أخرى ؛ مما يسمح بانتشار التأويلات الثقافية المحتملة ، و الكشف عن تناقضاتها الذاتية ، و طرق تجليها المختلفة بين النص ، و الواقع .
و في بحثه (الثقافة الوطنية ، و ثقافة العولمة) – ضمن الدورة الخامسة و العشرين لمؤتمر أدباء مصر 2010 - يعرض الناقد الدكتور السيد إبراهيم لمدلول العولمة في سياق ثقافي جزئي للمصطلح ضمن مناقشته لآراء جارودي ؛ إذ تتجه إلى نموذج الهيمنة ، و الاستغلال غير الإنساني للتكنولوجيا ، و هيمنة القلة على رأس المال ، و إحساس المهمشين بعبثية الحياة ، و غيرها (11) .
و قد قدم الناقد قراءة لرواية (زهور بلاستيك) للروائي المصري شريف مليكة ، و ارتكزت قراءته للنص على مبدأ الزيف الشكلي لعناصر الحياة في ذلك السياق الجزئي المشوه للحياة المعاصرة ، و التي يكشف عنها النص في إطار النقد ، و يرى الناقد أن النص يكشف عن الحضارة الشكلية الفارغة من المضمون ، و قد أحلت التشبيه الشكلي محل الواقع ، و هو يناظر البو ، او الدمية الصغيرة التي تعوض الناقة عن فقد ولدها في الثقافة العربية (12) .
و أرى ان المسار الفكري الذي اتخذه الناقد إزاء ذلك النموذج من استخدام العولمة ، و ما يحويه من شكلية تشبيهية للحياة يعكس نقطة فلسفية مهمة في تطور الفكر العالمي ؛ و هي الأزمات المتواترة التي صاحبت فكرة (الإنسان) طوال فترة النهضة ، و تطور الحداثة ، ثم لجوء ما بعد الحداثة إلى السياق الكوني المتجاوز لمركزية الإنسان دون التخلي عن الإيمان به ، و لكن أعادت قراءته في صور أكثر جزئية من الحداثة .
إننا – إذا – أمام استخدامات متناقضة ، و معقدة للمصطلح ؛ فالأدب العالمي ، و النزعات العالمية المعتدلة عند إيهاب حسن مثلا تنبع من أصالة إنسانية ، و من تسامح حضاري تعديلي للعولمة ، أما السياق المضاد للجانب الإنساني فهو يتخلى عن المدلول المحرك للنهضة ؛ و من ثم تهدف الخطابات اليسارية ، و الأدبية العالمية إلى نبذه ، و التمرد عليه .
و لننظر إلى فكرة التشبيهات عند بودريار ، و التي يرى أنها تسبق الواقع الآن ، و يفند مدلول الحقيقي ، و يفكك أصالته من خلال عنصر الاختفاء ، و الاندماج بالأسطوري ، ثم يفكك المحاكاة بكونها نموذجا لواقع فائق الآن (13) .
التشبيه عند بودريار يثور على سياقه الشكلي ، و يلتبس بالحقيقي الذي يخرج من بنيته المغلقة ؛ و من ثم فالعودة إلى الواقع عنده ترتبط بالأصالة الإبداعية التي تسبق الشكول المغلقة الثابتة ، و كذلك الزائفة للواقع ، و الصورة معا .
تتواتر – إذا – الخطابات التعديلية لكل مدلول مركزي في الدراسات الثقافية المعاصرة ؛ فمفاهيم الواقع ، و التشبيه ، و الفن ، و العالم صارت مصدرا للمراجعة المستمرة تبعا لحضورها الثقافي الجزئي .

هوامش :
(1) راجع / د السيد إبراهيم / نظرية الرواية / دار غريب بالقاهرة / 1998 ص 16 .
(2) راجع / السابق ص 28 و 29 و 30 و 39 .
(3) راجع / السابق ص 45 و 46 .
(4) راجع / السابق ص 145 و 177 .
(5) راجع / السابق ص 220 و 229 .
(6) راجع / السابق ص 244 و 250 .
(7) راجع / رولان بارت / لذة النص / ترجمة د منذر عياشي / مركز الإنماء الحضاري بسوريا مع لوسوي بباريس 1992 ص 61.
(8) راجع / د السيد إبراهيم / لطفي عبد البديع مؤسس النقد الاستطيقي / ضمن كتاب (الثقافة و الجامعة المصرية) – المؤتمر الأدبي الثامن لإقليم القاهرة الكبرى ، و شمال الصعيد 2008 ص 181 .
(9) راجع / د السيد إبراهيم / نظرية الرواية من 190 إلى 192 .
(10) راجع / بلزاك / سراسين / ترجمة د السيد إبراهيم / ضمن كتاب نظرية الرواية ص 276 .
(11) راجع / د السيد إبراهيم / الثقافة الوطنية و ثقافة العولمة / ضمن كتاب (تغيرات الثقافة .. تحولات الواقع) – الدورة الخامسة و العشرون لمؤتمر أدباء مصر 2010 ص 112 و 113.
(12) راجع / السابق / ص 125 و 126 .
(13) Read / Jean Baudrillard, Selected Writings, ed. Mark Poster (Stanford; Stanford University Press - pp.166-184,
محمد سمير عبد السلام - مصر








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - طلب مساعدة
aid ali ( 2011 / 3 / 3 - 15:33 )
أرجو المساعدة في بحثي المتعلق ببلاغة التقابل في الرواية الجزائرية :كتب مقالات دراسات وشكرا

اخر الافلام

.. فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024


.. السجن 18 شهراً على مسؤولة الأسلحة في فيلم -راست-




.. وكالة مكافحة التجسس الصينية تكشف تفاصيل أبرز قضاياها في فيلم


.. فيلم شقو يحافظ على تصدره قائمة الإيراد اليومي ويحصد أمس 4.3




.. فيلم مصرى يشارك فى أسبوع نقاد كان السينمائى الدولى