الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كلام لا يسقط في الهواء!

سلام حمدان

2011 / 3 / 6
مواضيع وابحاث سياسية


كلام لا يسقط في الهواء!

سلام حمدان

"موت وليتك من طيابة نيتك". العبارة التي قيلت لوالدي، المفجوع بالمصيبة، يوم وفاة أختي، في يوم شتائي ممطر قبل ما ينوف عن ربع قرن، فتحت عقلي وقلبي على واقع مرعب من التمييز والقهر، وانا الطفلة التي كانت لا تزال تتلمس وقع المفردات الجديدة، تقرأها على الوجوه وتبوّبها تحت أحد عنوانين: الخير والشر. وقد زخر الأول بالكثير في حين أقتصر الثاني على محورين أساسيين: الاحتلال والمرض.
لم أفهم العبارة للوهلة الأولى، ولكن وجه والدي حمل لي تفسيرا موجزا لا لبس فيه: وكأنما تلقى صفعة بدلا من التعزية. مزيج من الغضب والقهر والذهول تراءى على صفحة وجهه ولم يتبعه شيء سوى صمت موحش.
رحلت أختي عن الدنيا بعد صراع أليم مع سرطان الدماغ الذي نتج عن نشاط ذهني عال. كان معدل ذكائها مرتفعا ومبشرا بطاقة كبيرة ، الا أن كل ذلك لم يشفع لها، كونها ولدت انثى، ويبقى رحيلها عن الدنيا "أفضل" من بقائها فيها.

"الله يطعمكم الولد" و "انشاءلله هالبنت بتتزين بالصبيان وبيجيك مين يحمل اسمك ويستر عرضك" هي الدعوات الاساس التي طالتها أذناي الصغيرتان، المتأهبتان دوما، ليترجمها عقلي الصغير أيضا الى معنى بيّن لا لبس فيه: قيمتي انا البنت محدودة تماما قياسا مع القيمة الكبرى لأي ولد، بغض النظر عن محدودية أو اتساع طاقته!

كلمات، مصطلحات، عبارات، "حكم شعبية"، اقوال مأثورة وأغنيات، تسمعها الفتيات الصغيرات في كل مكان، يحفظنها في الذاكرة ويترجمنها الى هواجس، كوابيس، وسلوكيات. يتعلمن أن طريق السلامة والقبول هي الخضوع، تحجيم الذات الى حدها المطلبي الأدنى. فالتواضع والأدب والاخلاق تتلخص جميعا في تقدير أدنى للذات. أما الجسد فعبء ثقيل تنوء به الروح فترزح كسيرة ، أسيرة بين متاريسه العالية المرفوعة والمتأهبة في حرب ضروس متواصلة، حفاظا على "شرف العائلة". الجسد قلاع محصنّة تأسر أيضا الكلام والضحكات، النظر وحتى الأحلام.
كيف يتلخص شرف عائلة وشرف أمة بأكملها في جسد فتاة صغيرة؟ وأي عبىء ثقيل، مثير للهلع والقلق على طفلة صغيرة هذا؟

اللغة هي أحد اهم أركان وركائز الثقافة، بل هي مرآة الثقافة نفسها، كما انها أساس انطلاق الوعي وتشكل الادراك. وحين تتقدم الشعوب مع الركب الحضاري تعمد الى تطوير لغاتها وتنقيحها من شوائبها. فاللغة بشقيها اللفظي والحركي –لغة الجسد- تبني مداركنا في الصغر وتؤطر أدوارنا في الحياة وتقدم لنا صورا مقولبة وجاهزة، عن ذواتنا قبل كل شيء، وعن كل ما يدور في العالم من حولنا. ان اعادة صياغة الثقافة الاجتماعية يرتبط الى حد بعيد باعادة النظر في اللغة وتشكيلها وايقاعها. ومن هنا تكمن اهمية الشعراء والكتّاب المبدعين، الذين يستخرجون مفردات جديدة ويعيدون تشكيل تلك القديمة وفقا لسياق اجتماعي يتطور. في حين ان اولئك الذين يعمدون الى اجترار لغة تعكس ثقافة مبنية على التمييز والاقصاء والتغريب، يقدمون وصفا للواقع دون أدنى منحى ايجابي للتغيير، هم جزء لا يتجزأ من ثقافة مريضة تراوح مكانها، ولا يعقل ان يصّنفوا كمبدعين ومبدعات بأي حال من الأحوال.
ان الأهمية القصوى لشاعر مثل محمود درويش أو مفكر مثل ادوارد سعيد هو السعي الجاد الى اعادة نحت اللغة، لا بشكلها الجمالي فقط بل بادراك واعي مبني على رؤية تقدمية. هي مثل فتح نوافذ ذهنية لرؤية العالم والاشياء والعلاقات من زوايا أخرى أكثر اتساعا.

لن نجروء أبدا على الزهو بثقافتنا وتراثنا ان لم نعمد بشكل واع وجاد، ضمن منهج تراكمي مدروس بعناية، للتخلص من ارث التمييز والأبوية والقبلية. علينا ان نعيد تشكيل اللغة وتخليصها من عباراتها ومصطلحاتها وامثلتها وأغنياتها ونكاتها المشوهة التي تصنف البشر وفق تراتبية مشينة، مبنية على التمييز الجنسي والعرقي والعمري والديني..الخ.
لا يمكن لأمة ان ترتقي، وتتخلص من نير الاستعمار –على تنوع أشكاله- اذا ما بقي تصنيفها للنساء دوني. ولا ديمقراطية سياسية حقيقية وفاعلة دون ديمقراطية اجتماعية ثقافية غير مجزوئة. أي معنى للمشاركة السياسية الواسعة والحرة اذا ما كانت مرتكزاتها القيّمية والمبدئية مبنية على عقلية العشيرة والدم والأبوية وسيطرة الذكورة؟ أي مشاركة وأي ديمقراطية تلك المسيّجة والمؤطرة والمحدودة سلفا؟

بأي ثقافة نحتفي حقا، اذا ما كانت عبارات كثيرة، كتلك التي اوردناها سابقا، تردد بكثرة على اعتبارها حقائق ومسلمات في حياتنا؟
وقد يقول البعض أن بضعة نساء منا يبالغن كثيرا بالصراخ والتظلم فيما يتعلق بالثقافة الاجتماعية الذكورية والتمييز ضد الاناث والاقصاء، وما الى ذلك، وأن جزءا كبيرا منها اوهاما في رؤوسنا "محدودة الأفق" وتستند الى دعايات غربية مغرضة، هدفها تقويض ثقافتنا الاجتماعية العربية وأخلاقنا الفضلى والتغني بثقافة الغرب المعتدي الذي ينكل بنا وبديننا وتراثنا العظيم!
لأولئك، وهم كثر جدا، نقول: وماذا عن قوانيننا وسياساتنا التي تميّز، بلا أي التباس أو سوء تفسير، ضدنا وتصنفنا مواطنات من الدرجات الدنيا؟ مواطنات من الدرجة الثالثة عشر! تماما كترتيبنا على سلم الوصاية على أبنائنا وبناتنا!

أين عليّ ان أذهب بكرامتي على شبابيك وزارة الداخلية حين لا امتلك أدنى سلطة لتحرير جواز سفر لأبني أو ابنتي؟
وماذا أقول لموظف البنك الذي يردد بلا كلل وببرود على مسمعي أن لا حق لي بفتح حساب بنكي لأطفالي؟ وبأي كرامة أحتمل رفض استقبالي في أحد فنادق بلدي اذا لم يحرسني محرم؟ وعشرات الأمثلة سواها والتي لا يتسع المجال لتعدادها هنا!
وقبل هذا وذاك، أنّى لي أن أسير بكرامة واحترام في شوارع بلدي وفي وضح النهار؟ مئات من الشبان والرجال يتناثرون على الارصفة، في كل مكان، يخرجون رؤوسهم من السيارات، ويقذفونني بما لا يحتمل من كلام. لغة جارحة، امتلاء بفوقية مجنونة.
لغة وكلام لا يتناثر ليسقط في الهواء، حتى نجتازه، ونتابع سيرنا ، و أن لا نقف بالحاح عند التفاصيل، حتى لا نصبح نساء مزعجات، يبالغن ويمتعضن بلا داع. كلام رصاص، دمدم يتفجر داخلنا ويشق روحنا. كلام يفزعنا، يحّجمنا، يقصينا ويغرّبنا.
غربة تسكننا مع وعينا الأول على باب الحياة، حيث خط غير مرئي، من كلام، يؤطر وجودنا ودورنا. الانكماش يصبح هدفنا ودليل برائتنا.

لا ثقافة نفخر بها، تنكمش في ظلها النساء. ولا وطن حقيقي دون مواطنة غير منقوصة. ولا ما يطيب من كلام/من عيش دون مساواة كاملة بين النساء والرجال. وغير ذلك: محض اغتراب ونقصان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فراس ورند.. اختبار المعلومات عن علاقتهما، فمن يكسب؟ ????


.. 22 شهيدا في قصف حي سكني بمخيط مستشفى كمال عدوان بمخيم جباليا




.. كلية الآداب بجامعة كولومبيا تصوت على سحب الثقة من نعمت شفيق


.. قميص زوكربيرغ يدعو لتدمير قرطاج ويغضب التونسيين




.. -حنعمرها ولو بعد سنين-.. رسالة صمود من شاب فلسطيني بين ركام