الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


روسيا و اطياف ماض جميل

حيدر السعدي

2011 / 3 / 9
العولمة وتطورات العالم المعاصر


روسيا و اطياف ماض جميل
روسيا الجميلة القاسية , و انا اسير في احد شوارعها و انظر الى مقياس الحرارة عند موقف الباص الذي يعرض "سالب 27 مئوية" اشعر بأنني شديد البعد عن ارض النخيل و شمس حزيران و طرق بغداد الملتهبة تحت الاقدام الحافية لاطفال يلهثون خلف "دنبر الغاز" معينين سائق الدنبر بالصياح بدلا عنه "غاز غاز" , اسير و الشارع خالي الا من عجوز هنا مع كلبها و حبيبين هناك لا يملكان الا بعضهما البعض و اكوام من الثلوج الناصعة البياض و كأنها تواسي عيني علهما تنسيان حمرة الدم العراقي الذي غطى كل شبر بين الرافدين.
قدماي تقودانني بخطى حذرة على الرصيف المتجلد الى ساحة "لينين" في مركز المدينة النائمة على كتف الفولغا حيث يقف هناك تمثال لرجل يرتدي معطفا و له لحية صغيرة مدببة و عيناه تنظران الى الشمال و خلف التمثال لوحة جدارية ضخمة لوجه جندي بارز الوجنات و يبرز رأس بندقية من خلف كتفه , امام الساحة بناء يبدو و كأنه بني في تاريخ اقدم مما كتب على واجهته و عند الباب الرئيسي كتب على لوح برونزي مثبت على الحائط "نادي الضباط" اترك الساحة و اتجه نازلا باتجاه النهر حيث تنتصب بقايا بناء من الطابوق الاحمر لما كان يوما ما مطحنة للحبوب و هو البناء الوحيد الذي بقي على حاله منذ الحرب العالمية الثانية (يسميها الروس الحرب العظمى) ليذكر ببشاعة الحرب و مقدار الدمار الذي لحق بالمدينة و امام الانقاض تصطف قطع عسكرية من التي شاركت في تلك الحرب لتعطي صورة اكثر وضوحا عما جرى على الضفة الغربية للفولغا.
اتابع سيري بمحاذات النهر في الشارع الهادئ المسمى باسم بطل الاتحاد السوفيتي "جويكوف فاسيلي ايفانوفج" و على حائط المبنى السكني الاول في الشارع توجد لوحة برونزية قد تأكسد لونها مما زادها جمالية و قد كتب اسم اديب سوفيتي من ابناء المدينة الذي قد عاش في هذا المبنى و هذا حال كل مباني الشارع فعلى اغلبها توجد لوحات برونزية مشابهة تخلد اسماء اناس عاشوا في تلك المباني و ابدعوا بين جدرانها اعمالا فنية و لوحات تكاد تنطق بخواطر راسميها , احلى ما في هذه الابنية انها ليست مجرد باطون و اسمنت و نوافذ بل يكاد المرء يشعر بشعاع يخرج منها ليترك في نفسه اثرا , و كأن هالة تلفها و ترسم حولها بالوان باهتة صورا لاسلوب حياة ساد لقرن من الزمن , لايام عصر لم يعد يتذكره احد.
اغادر الشارع لادخل اخر و اركب حافلة كهربائية تعمل منذ خمسين عاما عندما صممها مهندسوها كانوا يحلمون بشوارع المدينة و هي خالية من الدخان و روائح الوقود الا انها تسير ببطئ بسبب اختناق الشارع بسيارات تنفث سحبا من الغازات , تسير وسطها كأنها غريبة عن المدينة و كأن الحافلة تسمعك انينا و هي تحن الى ايام كان جميع من في المدينة يركبونها و لم تقتصر على المهمشين و العجائز كما هو الحال الان , تسير الحافلة و انا اراقب الصور التي تتغير تباعا عبر زجاج النافذة , ملعب مهجور ينتصب بجانبه مبنى جديد كبير الحجم مكتوب عليه "مركز تجاري" و كالحلم مرت امامي صورة المبنى الاستهلاكي الضخم و هو يسرق الاطفال من الملعب و من مرافقه الرياضية ليثبت ان الوقت قد ولى لبناء الانسان الرياضي الحامل للذهب في كل دورة اولومبياد ليبدأ عصر الانسان الاستهلاكي البدين و التائه بين اكوام من السلع لا يكاد يحدد ما يريد منها حتى تنهمر اكوام اخرى من كل حدب و صوب ليضيع وسط هذه المتاهة.
و تتسارع المشاهد بعد الخروج من مركز المدينة...معامل مهجورة , مداخن مصانع باتت ملاذا للغربان و هي تنعق حول اطلال المباني , سكك حديد و قد نما العشب حتى كاد يغطيها , يكاد المرء يشعر و كأن غبارا ذريا او اشعاعا مميتا انتشر في المكان... في الحقيقة لا غبار ذري و لا اشعاع و انما السبب هو الشركات متعددة الجنسيات و المستثمرون الغربيون و ثقافة الاستهلاك المستوردة من الغرب و رأسماليو العصر الجديد , حيث سادت ثقافة الربح المادي السريع و محت كل القيم الجميلة و كل الروابط الانسانية التي كانت تربط بين ابناء المجتمع لتحيلهم الى كائنات مستهلكة و مستوردة لكل شيء عاجزة عن الابداع و التقدم لتزداد الفجوة يوما بعد يوم بين الماضي الجميل و بين الحاضر القاسي بطوابيره من الفقراء و العجائز المحرومين و المغيبين و متعاطي المخدرات و الرقيق الابيض .... و تدور الحافلة عند اخر محطة لتعود بي الى حيث اسكن و بعد ان اخذ البرد مني كل مأخذ اعود ادراجي الى البيت و انظر مرة اخرى الى مقياس الحرارة لأجده قد انخفض الى "سالب 29 ".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. زيلينسكي: -معارك عنيفة- على -طول خط الجبهة- | #مراسلو_سكاي


.. استشهاد الصحفي بهاء عكاشة بقصف إسرائيلي استهدف منزله بمخيم ج




.. شهداء ومصابون جراء غارات إسرائيلية استهدفت مربعا سكنيا بمخيم


.. نشطاء يرفعون علم عملاق لفلسطين على أحد بنايات مدينة ليون الف




.. الاحتجاجات الطلابية على حرب غزة تحقق مطالبها في أكثر من جامع