الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من السلب إلى اكتشاف الحياة .. قراءة في نص متشردا في باريس و لندن ل جورج أورويل

محمد سمير عبد السلام

2011 / 3 / 13
الادب والفن


في نصه الروائي (متشردا في باريس و لندن) –Down and Out in Paris and London - ترجمة الشاعر سعدي يوسف – الصادر عن دار المدى بسوريا 1997 – يناقش جورج أورويل الدلالات الإنسانية ، و الجمالية ، و الثقافية الملازمة لتجربة التشرد في المجتمعات المدنية الراقية من خلال تداعيات النماذج الشخصية الفريدة للمتشردين ، و القوى المتضادة التي تتنازعها ؛ مثل الحتميات الشمولية المحددة للوضع الاجتماعي ، و البحث المستمر عن وجود إنساني فردي من داخل فضاءات تشبه الجحيم ، دون أن يلجأ أورويل لاستبطان المتشرد من الداخل ، أو يحيل القارئ إلى حالات الكآبة ، أو الحزن ، أو الصمت ؛ فقد حرص على الاحتفاء بالحياة الإنسانية بحد ذاتها في المتشرد ، و في أساليبه الحياتية ، و قدرته على الأداء الديناميكي في التعامل مع مشكلات الجوع ، و العمل ، و أماكن السكن ، و النظافة ، و نقص الملابس ، أو تشوهها ، و غير ذلك .
لقد ارتكز جورج أورويل على الجمع بين وهج الاكتشاف الإبداعي المتجدد لعوالم المتشرد ، و السلبية الآلية الدائرية التي وضع فيها بصورة قهرية ؛ نتيجة لفقدان العمل ، أو انعدام المواءمة بين اتجاهه الذاتي ، و السياق الواقعي ، و غيرها ؛ و من ثم فالنموذج الذي يقدمه أورويل للقارئ لا يحول تجربة التشرد إلى عنف مضاد للمجتمع ، و لكنه الشخص المتحضر الذي يكتشف نفسه دون أن يخرج من السلبية القهرية من جهة ، و لا يستسلم لمشاعر الكآبة ، و إغواء الموت ، و الانهزامية من جهة أخرى ؛ و من ثم فقد غلبت على السارد وظيفة اكتشاف العوالم الفريدة للشخوص ، كما سمحت بمناقشاته العقلانية لماهية المتشرد ، و مطالبه الإنسانية المحدودة في الثقافة المعاصرة .
و أرى أن النزعة الإبداعية الإنسانية العامة هي ما يميز فكر أورويل في هذا العمل ؛ إذ يقدم اقتراحاته الفلسفية من داخل النموذج الشخصي لتلك التجارب التي تقع على هامش الحضارات القوية ، و لا يفرض حلولا من الخارج ، أو من خطابات سياسية بعينها ، و كأنه يقف عند مستوى نقد أسبقية الوضع الاجتماعي على الفرد ، و كذلك هيمنته الكلية على سلوكه ، و حريته .
و قد بنى أورويل نصه الروائي على ثلاثة محاور رئيسية ؛ هي :
الأول : اكتشاف حالات التشرد ، و جمالياتها من خلال تجربة البطل في باريس ، و تتمركز حول خبرات البحث عن العمل ، و الجوع ، و رهن الملابس ، و غسل الصحون ، و غيرها .
الثاني : تجربة التشرد في لندن ، و يعاين فيها البطل تواتر أزمة المبيت ، و تفاصيل الازدحام ، و القهر ، و إلحاح الأزمات الحتمية في النوم ، و النظافة ، و الطعام ، و غيرها .
الثالث : الأنساق التأويلية ، و الفكرية التي يثيرها السارد حول شخصية المتشرد ، و حقه في الحد الأدني للحياة من خلال كسر حاجز العزلة الذي يقصيه عن الفئات الأخرى من المجتمع .
و يمكننا رصد أربع تيمات فنية في النص ؛ هي :
أولا : بين السلبية الدائرية ، و ديناميكية الأداء .
ثانيا : دلالات ثقافية لتجربة المتشرد .
ثالثا : انتشار الشخصيات الفريدة .
رابعا : دلالات استعارية للفضاء .
أولا : بين السلبية الدائرية ، و ديناميكية الأداء :
ينتقل البطل في نص أورويل – بصورة دائرية – بين البحث عن عمل ، و الجوع ، و الآثار المضادة للإنسانية في أماكن المبيت الفقيرة ، و ميكانيكية الأعمال الهامشية ؛ مثل غسل الصحون ، أو التشرد مع قبول الإحسان المشروط ، و غيرها من المراحل التي تؤدي إحداها إلى الأخرى على هامش حضارة إنسانية قوية ، و لكنها تكشف عن ارتجاعات تنبع من بنيتها التي لم ترمم الثغرات بين المراكز ، و الهوامش انطلاقا من أصالة الروح الفردية الخفية ، و الكامنة في شخصية المتشرد كما يصفها النص ، و يحرص على إقصائها عن نموذج المجرم الذي يقاوم التهميش بإيجابية مضادة للمنطق الحضاري للإنسان ؛ إذ يتسم المتشرد هنا بقبول السلبية الدائرية ، و يعيد اكتشافها من خلال استجاباته العقلانية الآلية التي تلتحم بالخواص الفريدة ، و الإبداعية لذلك العالم ، دون أي إشارات لمشاعر الحزن ، أو الارتكاز على النزعات العبثية ، إنه اكتشاف مستمر لأصالة الفرد الذي يعيد تكوين سلبيته من داخلها .
في سياق تجدد بحث البطل عن عمل يذهب إلى صديقه الروسي / بوريس ، فيجده في حالة جوع شديد ، و يقدم له رغيفا ، يجهز عليه الأخير بقوة ، و يطلب منه الحذاء كي يقتل بقات على مقربة منه ، و يخبره بأنه يمكن الحصول على عمل في مطعم روسي سيفتح خلال أيام .
إننا أمام مجموعة من الوحدات السردية التي تؤكد نشاطا فارغا من الناتج ، أو القيمة ؛ لأنه يبدأ ، و ينتهي في سلبية دائرية .
و تبدو الوحدات السردية في اتجاه السلب في أحداث (بحث البطل عن عمل مع هيمنة الفقدان ، و جوع بوريس ، و اقتراب البق منه ) .
أما مجموعة الأداء الميكانيكي فتبدو في (التهام بوريس للرغيف ، و قتل البق بوصفه نوعا من الإساءة المولدة من السياق السلبي ، و تجدد الأمل في البحث عن عمل ) .
ثمة اتصال داخلي في النص بين النزعة العملية في شخصية البطل ، و بحثه المستمر عن الجانب الذاتي في الآخر ؛ مثل بوريس ، و غيره ، و تتواتر الخبرات الإبداعية حول التجربة الذاتية للمتشرد انطلاقا من إيجابيته الفارغة التي لا تخلو أبدا من الأمل المتجدد في الإمساك بلحظة الحضور بقوة أعلى من جهة ، و الاكتشاف المستمر لحكمة الوجود المؤقت ، و احتمالية تجدده غير المؤكدة من جهة أخرى ، إنه يقظ و إيجابي باتجاه العدم ، و يعاينه دون خوف .
و قد تجلت ديناميكية الأداء كرؤية مؤولة للوجود الذاتي من خلال أحلام اليقظة التي تعيد تشكيل التجربة وفق لغة تجريبية فريدة تكشف عن الطبقات العميقة للتداخل بين لحظتي الحضور الصاخب للحياة ، و الإقصاء الآلي المنظم لاستقلالية الصوت الإنساني من خلال تجريد الحتميات و عزلها عن الضمير الجمعي .
و قد بدت أحلام اليقظة واضحة في ثلاث مستويات من النص ؛ هي المستوى الاستعاري ، و مستوى الحكي ، و المستوى الثقافي للصورة .
يقوم المستوى الأول من الأحلام على المماثلة الاستعارية لتجربة الجوع ؛ و فيها ينقل السارد التجربة إلى صورة بديلة تجمع بين الفراغ ، و الوهج ، و التحول أو الطيران بحيث يفكك – بصورة غير مباشرة – المركزية الحتمية للجوع ؛ فالبطل يؤول نفسه ، و حالته العضوية انطلاقا من نشاط الوعي الإبداعي ، و استعاراته ؛ فهو يشبه الرخويات ، أو تم استبدال دمه بماء دافئ ، أو يشبه طائر الكوكو في كثرة البصاق الأبيض ، و غيرها .
و ربما اختار المحار ؛ لفقدان الصلابة ، و الكوكو لهجرانه المستمر لبيضه ، و لكنه ينقل خبرة التشرد أيضا لوهج الحياة مرة أخرى في تلك الصور ، و يوحي بأنه يعاين نوعا من أخيلة الخفة من داخل الخمود ، و كأنه يوشك أن يخرج من الآلية من داخل مفرداتها .
و قد يؤدي مستوى الحكي إلى تجاوز خبرات التشرد من داخل دائريتها ، و كأن السرد يقاوم أي استمرارية ممكنة للمعاناة ، أو الإشباع ؛ فقد تجرد من الجذر الواقعي ، و صار بحد ذاته مصدرا تخيليا متجددا للذة المحتملة ؛ فقد قص شارلي / أحد أصدقاء البطل في باريس أنه تغلب على الجوع بحيلة ذكية ؛ إذ دفع بفتاته / إيفون إلى إحدى المستشفيات ، و ادعت أنها حامل كي تحصل على غذاء مجاني ، و قد دامت الحيلة حتى وجد مخرجا للأزمة .
لقد حضرت القصة هنا عقب انتهاء المعاناة ؛ فأصبحت ملهمة للأمل في تحقيق لحظات أخرى من ذلك الوجود المؤقت القوي الذي يقبض عليه المتشردون في لذة تتخاوز القلق بمدلوله التقليدي .
و قد تتحول المفردات الثقافية للتجربة إلى صور تأويلية يعبر من خلالها الوعي عن استجاباته الخاصة ، دون أن يخرج من سطوتها السلبية ؛ فقد وصف السارد صخب التراكم البشري المضاد للهوية الفردية من خلال عملية الاستحمام في أحد النزل الرخيصة بلندن ؛ إذ يستحم عدد كبير من الرجال في الماء القذر نفسه مع إصرار البواب على ذلك ، و كأننا نعاين لحظة ثقافية تصويرية للعزل الاجتماعي لشخصية المتشرد من جهة ، و كذلك تواتر الصخب ، و التراكم في تجربته ؛ فهو يعاين الأشياء دائما في حالة تطرف ؛ فالروائح قوية ، و الأصوات عالية ، و مختلطة ، و الحشرات تهجم عليه بكميات كبيرة ، و القذارة تلازمه في اللحظة التي يحاول فيها التطهر ، و يعاين خوفا صاخبا في عيون الآخرين ، و لكن أورويل ينقل تلك الحالات في مواجهة ضمير إنساني صاف ساقته الحياة إلى التشرد ؛ مما يعزز من أصالة التعارض ، و الاختلاف في بنيته .
ثانيا : دلالات ثقافية لتجرية المتشرد :
تشكل الدلالات الثقافية في نص أورويل جزءا رئيسيا في نسيج النص ، و كذلك فهي محور تأويلي تنبع منه شخصية المتشرد ، و تنتج نموذجا إبداعيا ذا تأويلات ثقافية جديدة تمثل الانشقاق بين الروح الإنسانية المميزة للإنسان المتحضر ، و ما يفرضه عليه المجتمع من قهر ، و عزل ، و آلية عبثية ، و قد حرص أورويل على سرد مقاطع تحليلية طويلة لتلك الشخصية ، و تفاصيل حياتها ، و وضعيتها الطبقية في المجتمع الحديث ؛ كي يكشف عن نزوعها للكرامة ، مع قدرتها على تحويل الآلية إلى رؤى فلسفية ، أو فنية ، أو طاقة إيجابية .
يعاتب بوريس البطل عندما يحاول أن يخبر إدارة الفندق الذي يعمل به بأنه قد يترك العمل بعد شهر ، و يذكره بأن شخصية غاسل الصحون لا تملك ترف الإحساس بالشرف .
لقد تولد خطاب بوريس من الوضع الاجتماعي الهامشي الدائري لغاسل الصحون ؛ فحاجاته الضرورية لا تتفق مع القيم الإنسانية في ذلك السياق الثقافي ، بينما يجسد خطاب البطل الأصالة المميزة لغاسل الصحون قبل أن يتلوث بالنسق المفروض عليه سلفا ، و تتواتر تلك اللحظات التي يشعر فيها البطل بالغربة ، و الاختلاف من منظور الآخر مع احتفاظه بالروح الإنسانية ؛ فقد تغيرت نظرة الناس إليه عقب رهن ملابسه ، و استبدالها بأخرى قديمة ، و مشوهة ، بينما ظل ضميره الحضاري صافيا أثناء الحكي ، و كأن الصراع بين القيم الثقافية في المجتمع قد تفجر – بدرجة أكبر – بداخله .
و يصف السارد تفاصيل عمل غاسل الصحون ؛ إذ تتميز بالتراكم ، و السرعة ، و إنجاز أعمال كثيرة بطريقة أفقية ، أي في وقت واحد ، و هو الوقت الذي يسبق تقديم الطعام ، و في هذه الأثناء يكثر اللوم ، و الشتائم بين العاملين في المطبخ كجزء من آليات العمل السريع ، كما يصف غربة الطاهي عن الوجبة التي يقدمها ، و انشغاله بجمال الشكل ، دون أن يهتم بالهدف الرئيسي ، و هو تقديمها للأكل ، و أن درجة تلوث الطعام بالعرق ، و غيره تزيد في الفنادق الفخمة .
إن آلية العمل في المطبخ هنا تتميز بالسرعة ، و التوسع الأفقي في لحظة الحضور ؛ و من ثم فهي تنقل الإنسان من النظر إلى عالمه الداخلي ، و هويته الذاتية ، إلى خارج محض ؛ و لهذا تكثر ألفاظ اللوم ، و السباب ؛ كي يقتل السلوك الأفقي أي لحظة تصرف الشخص عن اندماجه في الفعل المكرر ، و كأنه طاقة مجردة للأداء السلبي ، و هو العنص الثقافي الثاني للعمل في المطبخ ؛ فالوجبة تتميز بالجمال ، و تنشق – من منظور العامل – عن بنية الأكل ، و كأن السارد يشير إلى فراغ السلع - في سياق المركزية الرأسمالية - من المعنى في الفنادق الكبرى ؛ فالجمال الشكلي هنا لا يقترن بالتحويل الفني للواقع كما هو في رؤى ما بعد الحداثة ، و لكنه يشير إلى تواتر القهر الداخلي للمعنى الإنساني عند كل من العامل ، و المستهلك الذي يدخل بشكل غير مباشر سياق الآلية الأفقية الحاجبة للهوية في تناوله السريع لوجبة مشوهة .
و يشير أورويل في النص إلى غلبة المنطق الذكوري على شخصية المتشرد ؛ إذ تعلو نسب المتشردين من الرجال ، ثم يحاول إيجاد مخرج للمشكلة من داخل السياق الحضاري المنتج للتشرد ؛ مثل تحسين بعض الخدمات ، و إمكانية الاستعانة بهم في رصف الطرق ، و الزراعة كبديل عن تفريغ حياتهم من المعنى .
إن ملمح ذكوية التشرد يوحي بتخييل شكل معين من السياق الثقافي المولد عن منطق القوة الخفي في الحضارة الحديثة ، و إقصائه المضاعف للرجل غير المتوائم مع علاقات الصراع ، في السياقات السياسية ، و الاقتصادية ، و تعلو درجة التهميش هنا عن وضعية المرأة في المجتمع نفسه ؛ فهي في أسوأ الحالات تابع ثقافي ، أما الرجل الذي يقع خارج المسار الشمولي فيعاني من سلبية مطلقة ، و جبرية ، رغم صفائه الإنساني .
و من الشخصيات الفريدة المؤولة لوضعية المتشرد فنان الرصيف / بوزو الذي يرى أصالة القسوة على الأرض ؛ لأنها كوكب فقير ، و لكنها أفضل من المريخ الذي يشوى الإنسان فيه حيا .
و أرى أن سرد أورويل لآراء بوزو يوحي بدلالات ثقافية عميقة ، و متباينة عن أصل التشرد ؛ فنعاين في النص العبودية التي تخلفها الحضارة الحديثة ، و انهيار العنصر الإنساني في الشموليات المختلفة ، و نزوع المتشرد إلى نمط قهري مختلف من الحياة ، ثم تعيدنا كلمات بوزو إلى دلالات الخطيئة في سفر التكوين ، و ما قيه من حياة شاقة يواجهها الرجل في عمله على الأرض ، و كذلك حتمية الموت ، و قسوة الأرض ، و غيرها ، و كأن دلالة التشرد تكمن في الأرض نفسها ، و في العالم الكوني كذلك بدرجات أكبر ، و هو ما يمنح دلالات الأزمة أبعادا جديدة ، و رؤى تقوم على القبول ، و النزوع الإيجابي الذي يساعد المتشرد على إنجاز أكبر قدر من الأعمال الآلية ، دون أن يسقط في الحزن الداخلي .
ثالثا : انتشار الشخصيات الفريدة :
يقاوم أورويل في نصه ذلك الرعب المتولد عن اختلاف المتشرد عن طبقات المجتمع الأخرى ؛ إنه اختلاف جمالي ، و فريد يميز مسارا للحياة يقوم على التعايش مع البؤس ، و إدراك حكمته الخفية ، و تكشف تفاصيل تلك الحياة عن تجربة عميقة من الاندماج في الآلية ، و رفضها في آن ؛ فالانقسام بين التلوث الجبري ، و الأصالة الجمالية للتكوين الفردي هو ما يميزها ، و يمنحها حضورا فنيا متجددا في النص ، و البنى الاجتماعية .
و يصف أورويل مجموعة كبيرة من المتشردين في درب الديك الذهبي في باريس انطلاقا من التعارضات بين الجمال ، و البؤس ؛ فهنري يجمع بين الرومنتيكية ، و العمل بالمجاري ، و إيجابية الحب لفتاة تخونه ، و الانهيار الداخلي معا . أما آل روجيه الزوجان القزمان فيرتزقان من بيع بطاقات بريدية ، و يعانيان الجوع دائما ، و تنتشر الرائحة النتنة من غرفتهما ، و قد انصرفا عن الاستحمام أربع سنوات ، ثم يبدأ بمعاينة التجربة من الداخل ، فيقصي رعب الاختلاف ، و يتحدث عن لذة غياب المستقبل ، و من ثم القلق لدى المتشرد ، و كذلك اتساع لحظة الحضور بما فيها من استجابات تجمع بين الميكانيكية ، و الجمال الإبداعي .
إن أورويل يكشف عن التداعيات النصية ، و الاجتماعية للتشرد بحيث يبدو التلوث غريبا عن ذلك الحضور الإنساني الذي يلازمه بصورة دائرية عبثية ، و لكنها تعزز من وجود مسار مختلف بدلا من القضاء عن تلك الأصالة الإنسانية الخفية .


رابعا : دلالات استعارية للفضاء :
توحي معايشة السارد للمكان بأنه قد خرج من بنيته ، و التحم بجحيم استعاري يعبر عن النزعة الكلية الآلية في المجتمع من جهة ، و الطرق الإيجابية التي يكتشف فيها المتشرد وهج الحياة داخل ذلك الجحيم الاستعاري من جهة أخرى .
و يذكرنا توجه أورويل الجمالي – فيما يخص المكان – بحديث هربرت ماركيوز عن تطرف السيطرة في المجتمع المعاصر ، و إقصائها لفاعلها نفسه ؛ إذ يرى أن العالم يتجه إلى أن يصير مادة لإدارة كلية يخضع لها المديرون أيضا حين اندمجت بسياق العقل ، و هو ما يشكل نوعا من الدوامة الحتمية (راجع / هربرت ماركيوز / الإنسان ذو البعد الواحد / ترجمة جورج طرابيشي / دار الآداب ببيروت / ط 3 / سنة 1988 / ص 193).
إن المكان في النص يفرز نوعا من الهيمنة الشكلية المطلقة التي تشبه الموت ، دون أن تبلغه ، و لكنها انفلتت من الحدود الحضارية العقلانية ، أو دمجت العقلانية الحديثة بالعبث ، و لكن السارد يعيد اكتشافها من خلال غربتها عن ضمير المتكلم ، و كذلك ما فيها من موت تمثيلي لا يصل إلى الصمت المطلق .
يصف السارد المطبخ بالقبو ، ثم يتحدث في جزء آخر عن التابوت كمكان للمبيت ، يقول :
" في التابوت ، أنت تنام في صندوق خشبي ، يغطيك قماش مشمع . التابوت بارد ، و أسوأ ما فيه البق ، إذ لا منجاة لك منه مادمت مغلقا عليك في صندوق " .
لقد افتتح السارد وحداته بتكوين الجحيم المجازي ، و لكنه توسع في وحدات التكيف ، و الاكتشاف لجماليات الفضاء الخفية ، و لم تقع الوحدات في إغواء الموت المحتمل ؛ لأن أورويل يحرص على بقاء الهوية الذاتية بصورة دائرية مع جحيم التشرد دون انفصال لأحدهما عن الآخر .

محمد سمير عبد السلام – مصر








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - قراءة نقدية جيدة لرواية أكثر من رائعة
بشير بن شيخة ( 2011 / 3 / 15 - 01:21 )
شكرا للناقد الفذ على هذه القراءة في رواية جورج اورويل ، و من سيقرأ تلك الرواية سوف يتأثر بمشاهدها و حواراتها و تسكعاتها تغيرا لا يمحوه الزمن، من ذلك ان يتغير موقفك من المتشردين و المتسكعين تغيرا جذريا ،حتى كأنك تصبح تراهم ابطالا افذاذا يستحقون التقدير و الإحترام ، إن الذكاء السردي عند الرواءي يجعلك تلمس و تشهد ذوقيا كما في الشهود الصوفي ، ليس معانات المتشردين الجوعى ولا شكاويهم، بل إنك لتشهد تدفق الحياة المستورة و حيويتها الفوّرة في وهج كثيف وعجيب لم تشهده من قبل في سير و أدبيات الكثير ممن يعتبرهم المخيال الجماعي أبطالا و مهمين ، إن الدلا لات الإنسانية الرفيعة التي أشرت إليها قد تجمعت في هذه الرواية الى حد مذهل ، حتى لكأنما اصبحت سطور الرواية عبارة عن بالوعة او دوامة دلا لية عجيبة ، شكرا أخيرا للناقد على هذا التقديم و القراءة النقدية الموفقة، و أظن ان الرواية موجودة على هذا الرابطwww.4kitab.com

اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا