الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مصر الجديدة

شريف مليكة

2011 / 3 / 14
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


من تبعات الثورة المصرية العظيمة، التي أشعلها شباب مصر ثم استنار بشعلتها الشعب المصري كله، تلك الفرحة الغامرة التي عمت أنحاء البلاد أولاً، فتأثر معظمنا بها، وكتبنا مهللين بقيامها أولا، ثم محذرين من محاولة انتزاع ملكيتها من أحضان الشعب لصالح مجموعات ابتغت توجيهها لناحية أو لأخرى، ثم منظرين لاكتمالها ولسقوط النظام، وحتى للتنظير لمستقبل مصر الجديدة.

ولكن ـ وكما هي عادة المصريين حينما يفرحون ـ تمتمنا "خير اللهم اجعله خير!". فهذه الفرحة الغامرة ربما كانت لنجاح ربما كان أقوى مما كنا نتخيله، وحلم لم نكن نجرؤ أن نحلمه، بل ودفعت العديد منا أن يحاول أن يتخيل مؤامرة ما تحاك لتنتزعها منا، أو تدخل من جهات أجنبية يدفع لتحقيق مثل تلك المكاسب لمصلحة شخصية، لمحاولة تفسير ذلك الحلم الجبار الذي بات يتحقق أمام أعيننا في كل يوم، وتلك النجاحات المتتابعة للثورة المصرية. فمن كان يصدق أن يقوم الشباب الذي تشوبه ـ كما كان يشاع ـ التفاهة والبطالة والسطحية والتدين المظهري الأجوف والانحراف الجنسي، فمن كان يأمل في أن يهب تلك الهبة التي أيقظت الشعب كله معها، فنزلت الملايين للشوارع ورجت هتافاتهم ـ ثم دماءهم ـ أوصال النظام الراسحة أقدامه لعقود طوال، فتهاوى خلال ثمانية عشر يوما. تلك الجماهير الغفيرة ونصفها من الأميين، الذين يعيشون تحت مستوى الفقر، التي لم تحركها الزلازل أو القهر والظلم وانعدام العدالة، أو حوادث القطارات وغرق العبارة وغرق الشباب في عرض البحر، تتحرك اليوم بالذات لأن ثورة قامت في تونس، أو لأن مجموعة من الشباب دعت لوقفة احتجاجية في يوم عيد الشرطة. حلم.

لابد إنها مؤامرة. ربك يستر ولا تكون حركة إسلامية أصولية من الداخل أو حتى من الخارج تحرك الشعوب عن طريق أعوانها المندسين في كل الأنحاء. أو أن تكون يدا غربية قد دفعت بذلك التسلسل من الأحداث لأن بكتمل بمثل هذا التسارع، وكأننا نتابع فيلما لجيمس بوند، ذلك العميل السري الذي لا يقهر، وهو ينفذ عملية مبهرة يغير خلالها مصير دولة أو دول عديدة، بقدراته الفائقة وبتخطيط محكم لا يقدر أن يقف في طريقه كل نفوذ أو حتى مؤامرات استغرق "الأشرار" في صنعها والإعداد لها عشرات السنوات.

ولكن الأحداث تتتابع، ويتبين لدينا رويدا عظمة الشعب المصري الذي نبعت الثورة المصرية من أحشائه كالإعصار، الذي أتاح لها أن تمحو في طريقها كل من تسول له نفسه أن يقف في طريقها. ولكن العقبات المتتالية كانت وماتزال تواجه مصر الجديدة، تبطئ بقصد، أو بعفوية، من تقدمها حتى ولو كانت قوتها بقوة الإعصار. جاء غياب الأمن كأول تهديد يعوق مسار الثورة، ولكن هب شباب مصر يدافعون عن ثورتهم بتكوين لجان شعبية تحاول حماية البلد والحفاظ على الأمن. ثم تبعه المظاهرات الفئوية التي كادت أن توقف عجلة الإنتاج بنحو كان كفيلا باغتيال نجاح الثورة في القضاء على الفساد والمفسدين الذين كانوا أساس غياب العدل في توزيع الأجور، ولكن رويدا عاد الناس لأعمالهم. ثم اغتابتنا موافقة بوروندي على إتفاقية حوض النين فأطل شبح التجويع والتصحير، ثم اندفع المسؤولون يتصدون للخطر. ثم ثورة ليبيا وعودة الآلاف من العمال النازحين لمصر، ليقفوا بجانب الملايين ممن يعانون من البطالة أصلا فتتفاقم الأزمة. وأخيرا اشتعلت نار الفتنة بسبب حرق وهدم كنيسة صور بإطفيح، ثم قتل الأقباط الثائرين وترويعهم. إندفع مئات الآلاف للشوارع والميادين ثائرين ومحتجين، فتعاطف الجميع مع مطالبهم العادلة، وأدركوا مدى وعورة الطريق.

معوقات تتوالى ولكن الطوفان الثوري ما يزال يشق طريقه ويعدل من مساره بحسب حجم تلك المعوقات ونجاحها في الوقوف في طريق الثورة. ونقول من جديد "اللهم اجعله خير". في رأيي أن الطريق أمام مصر الجديدة ما يزال طويلا، لأن جبال الفساد والإفساد علت جدا بسبب تراكمات ممتدة لعشرات السنين. ولكن قوة دفع ذلك الطوفان النابع من الرغبة الدفينة في العبور من شكل الدولة الفاشلة المثقلة بديكتاتوريات متعاقبة، والمكبلة بأيديولوجيات فاشلة تاريخيا، وإرث من فكر ديني أصولي ربما يكون قد وفد إلينا من الخارج، إلى تحقيق دولة مدنية ديموقراطية، تستطيع أن تقف جنبا إلى جنب مع دول نهضت قبلنا، وكانت قبلا تزحف خلفنا وتفصلنا عنهم مئات من سنوات الحضارة والتحضر. إذن فمصر الجديدة تسعى لتحقيق الديموقراطية الحقيقية حتى ينجح الطوفان الثوري هذا في الوصول الى مبتغاه، لنستطيع أن نجزم بنجاح الثورة في تحقيق مآربها.

ولا يفوتنا أن نعلق ـ في مجال الحديث عن الديموقراطية المرجوة ـ توضيحا لبعض المفاهيم المغلوطة عنها والتي شاعت بين الكثيرين، حتى أن النظام السابق كان يباهي بتحقيق "قدرا من الديموقراطية لا بأس به". وهنا أريد أن أحاور تلك الفكرة بقولي إن الديموقراطية مجموعة قيم ومنظومات متراكمة وليست نوعا واحدا من البناء والعمل السياسي. فالديموقراطية وإن كانت تعبر عن أن ينجح في النهاية الغالبية المنتخبة في الوصول للحكم، هي أيضا المنظومة التي تدفع بالإتيان لهذه النتيجة. فهي تحمي الحريات والمساواة بين الأغلبية والأقلية في الحقوق والواجبات. فلا تكون ديموقراطية ـ مثلا ـ في أن يحدث استفتاء فيما لو يصح أن تعمل المرأة بالقضاء في مصر ـ كما حدث مؤخرا ـ فتكون نتيجة الاستفتاء الذي جرى بين مجموعة أغلبهم من الرجال، قاطعة بعدم جواز ذلك، ثم ندعي بأن ذلك الاستفتاء كان من ثمار الديموقراطية. كما لا يجوز ـ بنفس المنطق ـ أن ندّعي بأن حرية التعبير أو حرية الصحافة كافية لتحقيق الديموقراطية، لو انتزعنا منها قدرة تلك الحرية على إحداث التغيير اللازم عند كشف فساد أو إنحراف أو تزوير، فالديموقراطية لا تنتهي بعملية الانتخاب، ولكن من سماتها المحاسبة والتغيير.

هناك ديموقراطية الانتخاب والتمثيل السياسي إذن، ولكن في غياب التمسك بالقانون والدستور، تصبح المنظومة منقوصة. وفي غياب المساواة بين الناس والعدالة، وخصوصا حيال الأقليات، سواء كانت عنصرية أو نوعية أو دينية، تصبح الديموقراطية وبالا على المجتمع، لأن صوت الأكثرية يغلب دائما على صوت الأقلية، فتنتفي المساواة بين الجميع. وبالرغم من امتداد الفكرة الديموقراطية لقرابة ألفين وخمسمائة عام ـ أي قبل ظهور الديانتين المسيحية والإسلامية ـ شهد العصر الحديث وما يزال يشهد على منظومات ناجحة وأخرى فاشلة إدعت إمتثالها بالفكرة الديموقراطية، ولكن العجلة الديموقراطية تسير دوما للأمام وما تزال الدول تتسابق على اللحاق بتلك المنظومة الديموقراطية الناجحة، لاسيما بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى، والفاشية الألمانية والإيطالية والإسبانية بعد الحرب العالمية الثانية، ثم سقوط الكتلة الشرقية والاتحاد السوفييتي منذ ثمانينيات القرن العشرين.

ولكن لا يزال الخوف يشوب فرحتنا بنجاح الثورة المصرية، وماتزال تساؤلات المفكرين تتوالى في أحاديثهم وكتاباتهم، تعبر عن توجسهم من أن تتيح الحرية والانتخابات المقبلة على أن تتبوأ كراسي حكم الدولة المصرية الجديدة، الجماعات الأوسع انتشارا والأكثر جاهزية والأكثر تنظيما، مثل جماعة الإخوان المسلمين. وأنا هنا أحاول أن أشير إلى أن قوة القانون والدستور وتطبيق الديموقراطية الحقيقية المتكاملة التي تكفل المساواة إلى جانب تمثيل الأكثرية هي الضمان الوحيد. فالديموقراطية هي التي جاءت برئيس أسود إلى مقعد رئاسة أقوى دولة في العالم، بالرغم من أن نسبة السود في الولايات المتحدة لاتتعدى 20% من عدد السكان، وهي التي جعلت معظم برلمانات الحكومات الغربية تشمل عربا ومسلمين مهاجرين لتلك البلدان، وليسوا حتى من سكانها الأصليين.

إذن فلا يجب أن يكون هناك مجالا للحديث عن إن الأقليات ينبغي لها أن تنصاع لحكم الأكثرية في مصر الجديدة، أو أن تتوارى من جديد في الظل خوفا من أن تسحقها الغالبية سحقا، لأن الشعب أراد تغيير النظام، والشعب اختار الدولة المدنية الديموقراطية، وعلى الجميع أن ينصهر في بوتقة تلك الفكرة التي نادى بها وابتدعها أرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد، والتي جمعت اليوم بين طياتها كل الدول المتقدمة، وغالبية الشعوب الساعية نحو اللحاق بركب الإنسانية والعدالة والمساواة والتقدم. وهي في الواقع نفس المنظومة التي تبناها المجلس العسكري، والتي أعلن الشعب بل وحتى الإخوان المسلمين الإنصياع لها. فلماذا نخاف إذن على مصر الجديدة؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القوات الروسية تصل إلى القاعدة العسكرية في النيجر قبل انسحاب


.. رئيس الوزراء البريطاني السابق يقع في فخ قانون أقر في عهده




.. -إنسان الغاب- يستخدم نبتة طبية كضمادة لجروحه


.. وفاة نجل البرهان متأثراً بإصابته في حادث مروري بتركيا




.. أردوغان يعلن إغلاق باب التجارة مع إسرائيل وتل أبيب تبحث فرض