الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في أيّ سوق نصرف وعيد إياد علاوي ودموع برهم صالح؟

صبحي حديدي

2004 / 10 / 16
مواضيع وابحاث سياسية


في بغداد تنتفخ أوداج رئيس الوزراء العراقي المؤقت إياد علاوي، فيتوعّد مدينة الفلوجة ويهدّد هكذا: إمّا ‏تسليم أبو ‏مصعب الزرقاوي، وإمّا...!‏‎ ‎
في طوكيو، على النقيض الدراميّ والبعيد الجغرافي، يعتلي نائبه برهم صالح منبر مؤتمر المانحين لكي ‏يستدرّ الدموع: ‏دَرْهِموا العراق، وإلا...!‏‎ ‎
ومع ذلك فإنّ هذَين الأقصيَين ليسا الأبلغ في اختصار مأساة العراق تحت الاحتلال، ولا نقول العراقيين لأنّ ‏ما يعانيه ‏الآدميّ يومياً ليس بحاجة إلى بلاغة قصوى. خذوا، على سبيل استبدال وعيد العلاوي ودموع ‏صالح، حذلقة المحامي ‏جيمس بيكر، وزير الخارجية الأمريكي الأسبق وممثّل البيت الأبيض لشؤون جدولة ‏الديون العراقية، وهو يرقص على ‏حبلَين: أداء "المهمة النبيلة"، حسب وصف بوش، في إيجاد حلول لجدولة ‏أو محو ديون في ذمّة العراق تقارب 200 ‏مليار دولار من جهة؛ وممارسة مهمّة أخرى (يصعب وصفها بـ "‏النبيلة"!) نقيضة تماماً، هي تحصيل ديون الحكومة ‏الكويتية وتأمين مصالح مجموعة كارلايل (حصّة بيكر ‏في أسهمها تبلغ 180 مليون دولار) من جهة ثانية! ناومي ‏كلاين، في تحقيقها الممتاز الذي نشرته مجلة ‏"ذي ناشين"‏ الأمريكية، أماطت اللثام عن تفاصيل مثيرة ودامغة حول ‏هذا ‏التضارب في المصالح، التضارب الصارخ الفاقع ولكن ليس العجيب أو الغريب في سياقات العراق ‏الراهن.‏‎ ‎
فضيلة هذا البديل عن الويل والثبور عند العلاوي والشفقة والإحسان عند صالح، أنّ مهمّة بيكر ذات الشقّين ‏المتباعدَين ‏المتلاقيين تعيد تعليمنا وتنشيط ذاكرتنا حول أخلاقية أمريكية فريدة في جانب أوّل، كما تعيدنا في ‏جانب آخر إلى ‏شخصية لم تكن البتة غريبة عن العراق، إذْ العكس هو الصحيح: هذا رجل يقف في المرتبة ‏الثانية، بعد جورج بوش ‏الأب، بين كبار رجالات أمريكا الذين هندسوا ونفّذوا مختلف عمليات حرب الخليج ‏الثانية، من معارك الدبلوماسية إلى ‏‏"درع الصحراء" و"عاصفة الصحراء" والهدنة، فضلاً عن معظم ما كان ‏حينذاك يتّصل بشؤون وشجون العراق والكويت ‏والسعودية ومعظم الخليج والشرق الأوسط ومؤتمر مدريد، ‏وصولاً إلى قرار الناخب الأمريكي إحالة بوش الأب إلى ‏التقاعد القسري رغم أكاليل الغار التي كانت تثقل ‏رأسه.‏
فضيلة ثانية أننا نقف على، ولكن دون أن نكتشف المزيد من، تفاصيل انغماس وزراء الخارجية الأمريكية ‏السابقين في ‏‏"البزنس" و"المهامّ النبيلة" في آن معاً، الطور الذي يحدث عادة أن تسبقه أو تعقبه فترات تنظير ‏وتفلسف وتأمّل وتأليف ‏‏(للإشارة فقط: وزيرة الخارجية السابقة مادلين أولبرايت على صلة بالشطر الثاني من ‏مهمة بيكر، أي استرداد الديون ‏الكويتية!). وضمن مقاييس متعددة، بينها دون ريب تلك المنبثقة من حكمة ‏قديمة حول قيام صانعي التاريخ بتسجيل ‏بعض ذلك التاريخ كما قرأوه قبل أن يزمعوا صناعته، يعدّ مجلد ‏المذكرات الضخم "سياسة الدبلوماسية" الوثيقة الأغنى ‏التي تملكها الإنسانية حول الأطوار التي سبقت وأعقبت ‏الولادة الأولي لطبعة النظام الدولي الجديد كما اقترحها جورج ‏بوش الأب مطلع التسعينيات. والدلالة الأهم لا ‏تكمن في أنّ صاحبنا جيمس بيكر الثالث، مؤلف هذا السفر الملحمي ‏المسهب والسميك (687 صفحة)، قد ‏أُجبر على الهبوط من هــــرم الدبلوماسية العليا ومغادرة سدّة اتخاذ القرار، ‏حتى قبل أن يغادر سيّده ورئيسه ‏وصديقه بوش المكتب البيضاوي في البيت الأبيض.‏‎ ‎
وهي كذلك لا تكمن في حقيقة استقباله في وسائل الإعلام الأمريكية على نحو فاتر أقرب إلى التجاهل وتقليب ‏الشفاه ‏شفقة وشماتة (لأن المجلّد الحافل حظي بتكريم من نوع آخر، في صحافة أخرى عربية تتوجه إلى ‏جمهور من نوع ‏خاصّ، كان يتوهّم الانتساب إلى ذلك النظام الدولي الجديد، وهو بالتإلى متعطش للوقوف ‏على رأي الكبار في كبريات ‏أحداث الزمان). أما حقائق الكتاب أو أكاذيبه فإنها تظلّ موضع أخذ وردّ ‏طبيعيين في حالات كهذه، خصوصاً وأنّ ‏الزمن المعاصر لم يعد يحتمل إطالة عمر الأكذوبة أو تقصير عمر ‏الحقيقة.‏
الدلالة الأهمّ في الكتاب تدور حول سلسلة الأولويات التي تبيّن أنها كانت تسود أدمغة رجال مثل بوش وبيكر ‏‏وسكوكروفت (مستشار الأمن القومي الأمريكي آنذاك)، وكيف تبدو اليوم مشحونة بإشكاليات معقدة لم تكن ‏واضحة طيلة ‏عهد الإدارة تلك. ثمة جدول الأعمال الأمريكي الداخلي المتعلق بالاقتصاد والأعمال والمجتمع، ‏وثمة نقاط الاحتقان ‏الدائمة حول مواصلة العمّ سام لنزعته العتيقة في المرابطة وراء محيطه والإنعزال عن ‏انسانية منخرطة في هدم جدار ‏برلين وإعادة اكتشاف السوق والليبرالية، وثمة تكوين وإعادة تكوين لخرائط ‏التوازنات الجديدة الجيو ـ استراتيجية ‏والجيو ـ إقتصادية بين أمريكا واليابان وأوروبا الغربية الشرق ‏الباسفيكي. والذين راجعوا كتاب بيكر كانوا يحملقون ‏بدهشة كلما اكتشف الواحد منهم جديداً في هذه ‏الأولويات لا يتماشي مع تخطيطه (هو أولاً، ثمّ من يمثّل من عمالقة في ‏الخفاء)، وكانت الدهشة تنقلب سريعاً ‏إلى سخط وامتعاض ورغبة مسعورة في تمزيق أوصال السِفْر وصاحب السفر‎. ‎
وبين هؤلاء كان لنا نحن العرب حظّ إدلاء البروفيسور فؤاد عجمي بدلوه، رغم أن مراجعته المطوّلة للكتاب ‏في ‏أسبوعية "نيو ربابليك" آنذاك لم تقدّم سوى إشارة واحدة على المحتد العربي للبروفيسور: أنه ‏استخدم المثل العربي "إياك ‏أعني فاسمعي يا جارة"، أو "أحكي مع كنّتي لكي يسمع جاري" لكي نقتبسه بدقة ‏أكثر. ما خلا هذه الشطحة بدا ‏البروفيسور كمَنْ يتميّز غيظاً لأنّ جيمس بيكر وضع السلام العربي ـ ‏الإسرائيلي على رأس أولويات جهازه ‏الدبلوماسي، وأهمل متابعة "عاصفة الصحراء" حتى إسقاط صدام ‏حسين، وتجاهل مأساة الأكراد و انتفاضة الشيعة في ‏جنوب العراق، وغضّ الطرف عن حرائق البلقان...!‏‎ ‎
والبروفيسور كان شديد الغضب في الواقع، إلى درجة كانت تدفع المرء إلى التعاطف مع هذا البائس بيكر، ‏الذي واصل ‏جهله الفاضح بـ "التواريخ الدفينة لقبائلية أوروبا" ولكنه اجتهد كثيراً (أي أكثر من اللزوم، حسب ‏محاججة عجمي) لتعلّم ‏المزيد عن منطقة رجيمة تدعى الشرق الأوسط؛ والذي أعلن مع سيّده الرئيس أن ‏أمريكا "دفنت عقدة فييتنام في رمال ‏الخليج"، ولكنه أعاد إحياءها في البلقان. فوق ذلك، وجّه البروفيسور ‏العديد من أصابع الاتهام إلى كامل الآلة السياسية ـ ‏الاستراتيجية التي تولّت تحريك عجلات إدارة بوش، ‏بدءاً من بيكر وسكوكروفت وانتهاء بكولن باول ودنيس روس‎. ‎
هذا، لشديد أسف عجمي، هو "الفريق الرثّ" الذي حاول إسقاط ثلاث حكومات (ليبيا، العراق، حكومة إسحق ‏شامير) فلم ‏ينجح سوى في مكان واحد: إسرائيل! وهذا هو الفريق الذي تخلّى عن الأكراد في جبالهم، وحجب ‏الدعم عن التيارات ‏الديمقراطية والليبرالية الروسية المناهضة لغورباتشوف، وأغمض العين عن عذابات ‏شعوب البلقان، واكتفى بتوظيف ‏كامل طاقات الآلة الدبلوماسية لصناعة السلام في أزقة غزّة ونابلس ‏والخليل... يا للعار!‏‎ ‎
وقبل مجلّد بيكر، كان للإنسانية حظّ قراءة مجلّد ضخم آخر لوزير خارجية أمريكي آخر، أكثر شهرة وأرفع ‏صلة ‏بالشرق الأوسط وبالهندسة الدبلوماسية، هو هنري كيسنجر. وفي 912 صفحة، تحت العنوان البارد ‏الغامض ‏‏"دبلوماسية"، أعاد كيسنجر إنتاج نفسه ونفض عن أفكاره غبار السنوات القليلة التي مرّت عليه وهو ‏يرتدي مسوح ‏الناسك المتعفف عن الخوض في كبائر البشر (وهي الصغائر في نظره!)، والذي يرى ما هو ‏أبعد بكثير من سقوط ‏الجدران والأنظمة والحروب الباردة والتوازنات المعلنة والمصاغة بركاكة. باختصار، ‏ذاك الذي يري ويعفّ عند المغنم ‏كما يقول عنترة العبسي، أو يكشر عن ابتسامة مشفقة ساخرة وعلى لسانه ‏عبارة من شكسبير هذه المرّة: زمن حافل ‏بالصخب والعنف، لايدلّ على شيء!‏‎ ‎
وباستثناء موقفه التشريحي المأثور من الاحتلال العراقي للكويت، ودعوة جورج بوش الأب إلى تنفيذ ‏ضربات جراحية ‏تصيب العمق الحضاري والإجتماعي والإقتصادي للعراق (للبلد والشعب، قبل النظام وآلته ‏العسكرية والسياسية)؛ ‏وتوبيخه لفريق رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق رابين لأنّ ماتعاقدوا عليه ‏مع ياسر عرفات في أوسلو ثمّ في ‏البيت الأبيض هو أوآلية متحركة ستفضي عاجلاً أم آجلاً إلى دولة ‏فلسطينية (هي التي يرفضها كيفما جاءت، وأينما ‏قامت، ويستوي لديه أن تتخلق من محض أوالية أو تنقلب ‏إلى بلدية)؛ وسخريته من بعض الفتية الهواة في البيت ‏الأبيض، ممن يخلطون البزنس بالأخلاق، والتجارة ‏بحقوق الإنسان (مثال الصين)، ولا يميزون في حروب التبادل بين ‏العصبوية الأورو ـ أمريكية وشرعة ‏التقاسم الكوني لسوق شاسعة بقدر ماهي ضيّقة (مواثيق الـ "غات" وأخواتها)... ‏باستثناء ذلك كلّه فإن ‏بروفيسور التاريخ انصرف عن تأمّل التاريخ وحتى عن المشاركة في صناعته، وانخرط في ‏استثمار التاريخ ‏أو توظيف وتسخير مَنْ يعتبرون أنفسهم وكلاء التاريخ!‏‎ ‎
المؤسسة العملاقة التي ستحمل اسم "كيسنجر و شركاه" سوف تقدّم الاستشارات السياسية والنصح الاستراتيجي إلى قادة ‏‏ العالم وأعضاء مجالس ادارات المؤسسات العملاقة، من عيار" ‏أرامكو" و"فيرست سيتي بانك" " موبيل" و"كاتربيلار" ‏و"كوكاكولا" و"فيـات" و"فولفـو"، مقابـل أتعـاب تتراوح بين ‏‏150.000 و 400.000 دولار للمؤســسـة ــ ‏والجلسة ــ الواحدة. أما "خزّان التفكير" الذي اعتمد عليه ‏كيسنجر، فقد ضمّ صفوة جديرة يإسالة لعاب الكهول، مثل ‏الشبان، في مجالس إدارة مختلف الشركات: برنت ‏سكوكروفت، لورانس إيغلبرغر، مارتن إنديك، جين كيركباتريك، ‏و... جيمس بيكر!‏
خذوا (وتأملوا راهنية وديمومة وصلاحية!) الوصفة التي اقترحها كيسنجر من أجل علاج هذا الكون العليل: ‏أوّلاً، العالم ‏الراهن يقتضي، أكثر من أي وقت مضي، امتلاك المعنى الأشدّ وضوحا وبروداً ونفياً للعواطف ‏بصدد مضمون وجدوى ‏مفهوم المصلحة الوطنية (والكونية، لأنّ المصلحة الوطنية الأمريكية هي مصلحة ‏البشرية، شاءت تلك البشرية أم أبت). ‏وثانياً، ينبغي وضع أكبر قدر من علامات الاستفهام والريبة، أبد الدهر ‏ودونما تردد أو تلكؤ، على أيّ ترتيبات متصلة ‏بالأمن الجماعي، سيما تلك التي ترتكز جوهرياً على ذلك ‏الإجماع الصوفي الغامض حول أخلاقية انتفاء القوّة (وبالتإلى ‏أخلاقية اللجوء إليها) في مختلف ميادين ‏العلاقات الدولية.‏
وثالثاً، لا مناص من ترجيح (ثمّ صياغة وتطوير) التحالفات الصريحة القائمة على المصلحة المشتركة، ‏وغضّ النظر ‏عن التحالفات المقابلة التي تحوّل مقولات "السلام" و"الحرية" إلى شعارات وشعائر زلقة ومطاطة ‏وجوفاء. أعراف القرية ‏الإنسانية الكونية ليست قابلة للصرف في سوق مزدحمة شرسة لا ترحم. أعيدوها إلى ‏افلاطون والأفلاطونيين، وفي ‏الاعادة إفادة وتجنيب لشر القتال! ورابعاً، وتأسيساً على ذلك، لا بدّ من إقرار ‏واعتماد الحقيقة القاسية التالية: التنازع، ‏وليس السلام، هو الأقنوم الطبيعي الذي ينظم العلاقات بين الشعوب ‏والقوى والأفراد. وأخيراً: "لا يوجد أصدقاء دائمون ‏ولا أعداء دائمون، بل توجد مصالح دائمة فقط". كان ‏اللورد بالمرستون (وزير خارجية بريطانيا خلال ثلاثينات القرن ‏الماضي) على حقّ حين اجترح هذه العبارة ‏الذهبية. إنه على حقّ اليوم أيضاً، أكثر من أي وقت مضى...‏‎ ‎
وهكذا، وبعد هذا الاستئناس بما قاله اثنان من أعمدة السياسة الخارجية الأمريكية حول السياسة، وما فعلاه ‏قبلئذ أو بعدئذ ‏في تحويل الدبلوماسية إلى "بزنس"، في أيّ سوق ــ مزدحمة شرسة لا ترحم، كما يصف ‏كيسنجر ــ نصرف وعيد ‏إياد علاوي ودموع برهم صالح؟‎ ‎
‏‎ ‎








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رهان ماكرون بحل البرلمان وانتخاب غيره أصبح على المحك بعد نتا


.. نتنياهو: سنواصل الحرب على غزة حتى هزيمة حماس بشكل كامل وإطلا




.. تساؤلات بشأن استمرار بايدن بالسباق الرئاسي بعد أداءه الضعيف


.. نتائج أولية.. الغزواني يفوز بفترة جديدة بانتخابات موريتانيا|




.. وزير الدفاع الإسرائيلي: سنواصل الحرب حتى تعجز حماس عن إعادة