الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة (زهرة الوفاء)

شاكر الخياط
كاتب ناقد وشاعر

(Shakir Al Khaiatt)

2011 / 3 / 14
الادب والفن


منذ ان فارقته قبل سنتين من الرحيل عن معتقل (مستنقع المرارة) كما يسمونه ، كانت اخباره تصلني بين الحين والاخر عن طريق الحراسات التي كانت تعرفني وتعرفه..ومن لا يعرف ( احمد) ذلك الفنان المرهف..كان ذلك اليوم فرحة بالنسبة لنا..يودعون زنزانة (بازوي) حيث الخلاص من الحفرة التي لاحياة فيها..ليس المهم الى اين الرحيل .. المهم الخلاص من هذا البئر الاظلم الذي اعد خصيصا للمعاقبين من هذا المعتقل..معتقل، استعيذ بالله منه.. مكروه، والحديث عنه مؤلم..
استفقنا صباحا..آثار اخواننا الراحلين مما أخذ منهم ليلا ملقاة على الارض امام باب الزنزانة التي كانت تضم اكثر من مائة وثمانين نزيلا.. لا يجدون اصبع ارض يكفي لمنامهم..ظلت الزنزانة خالية وبابها مفتوح، بانتظار من سيشغلها لاحقا..
دارت الايام دورتها..وماكنت لا اتمناه لأخوتي في( بازوي) تلك الزنزانة الرهيبة، ها انا اليوم احد ضيوفها،....
دخلنا ليلا، المكان لم نعرفه من قبل..تلمسنا الجدران..الغريب، ذلك الظلام الدامس ، والليل الحالك السواد، استطعنا ان نجد ترتيبا مؤقتا بعض الشيء الى ان يبزغ الفجر، انقضت تلك الليلة بين وقوف وجلوس.. حتى ازاحت الشمس ظلمة الليل الموحش، بعد ان استلمنا تجهيزاتنا التي اخذت منا ليلا اثناء التفتيش، رتبنا امرنا حسب طوبوغرافية المكان، وهذا امر معتاد..اغلقت الباب الخارجية ..بدانا التجوال في ساحة صغيرة موازية للزنزانة وتشترك معها في باب واحدة، مفتوحة الى السماء، بدات كما المعتاد بتفحص دقيق لزوايا المكان، للثقوب الموجودة في الجدران، الكتابات، الاشارات، العلامات، كل ما من شأنه ان يوصلنا بمن كانوا هنا قبل مدة من الزمن..كان الله في عونهم، مثلما اتمنى ان يكون بعوننا لعبور محنة جديدة..عرفت عن كثب ما كان يعانيه (احمد) وصحبه..قرأت اسمه على حجر ..نقشه بمسمار وبشكل فني جميل يظهر براعته ودقته في الرسم والخط والتعبير الفني البليغ.. وقفت امام الخط.. حولته الى صورة واضحة عن احمد.. كأني به وهو يعيش اياما لا ادري كيف سيجتازها..لقد انتقل من بين صفوفنا الى معتقل (سجن قصر فيروزة)، وجرح العملية التي اجريت له لم يجف بعد..لم يلتئم.. رغم كل محاولاتنا بالطلب من ادارة المعتقل للعدول عن نقله وتركه لحين التآم الجرح، لكنهم كانوا مصرّين وبشدة على ان ينتقل وبهذه الصورة التي يقف امامها من يمتلك ادنى شعور ولو قريب من الانسانية خجلا لوقاحة ما يرى..كم كانت تلك الكلمات مريرة ومعبرة عندما كان يرددها ( احمد) بين فترة واخرى..
- الذي اتمناه ان لا اموت هنا..بين هذه الوحوش.. امنية .. وليست على الله ببعيد.
كان لي خليلا اخلو اليه ، بكل ما تحمله مشاعري الفنية من حب يميزني عن محبيه.. يستأنس بالحديث معي.. كنت احترم مشاعره وطموحاته..كان يطلعني على ما يدور في مخيلته من مشاريع مستقبلية في حقل الفن، بعد العودة الى ارض الوطن، تلك التي اصبحت حلما ابعد ما يكون عن الحقيقة..كأنها ضرب من ضروب الخيال..
يجلس امام مجموعة من النمل، تذهب وتجيء.. كان ينتبه الى الكون وهو في ذلك السكون المقيت، يسترعيه طائر محلق في السماء، ينظر ويتفحص الامور بشكل غريب، فنان احب الرسم، وعشق اللغات، اجبر الايرانيين على اقتناء لوحاته.. علقوها في بيوتهم..كانوا يتهافتون عليه رغم الممنوع الذي يكللنا في كل شيء.
على اجنحة الصمت..ليلة من ليالي الشتاء القارس..مثلجة..اسناني تضرب احداها الاخرى..لا اقوى على الحديث لشدة البرودة..آمر المعتقل كان ابلغنا ..خلال نصف ساعة..نترك مادرجه لنا في ورقة.. نخرج باسرع مايمكن..
- الى اين..؟
كان الجواب صفعة لم اتوقعها.. رايت بعدها ان الدنيا ضيّقت على صدري الخناق..
ابلغت الجميع .. كنا نريد الخلاص من هذا المكان.. لايمكن ان يكون المكان الجديد اتعس من هذا.. فكم رأينا من الاماكن التعيسة..
الحافلات تقف ليس بعيدا .. اجري التعداد..اسم يتلوه اخر..استقل الجميع الحافلات..جلسنا قرابة الساعة..وجوه جديدة لم نرها من قبل..مللنا الانتظار..لم يكن السائق يعرف من نحن.. وما هي قضيتنا..نطق..دون شعور..
- الى طهران..( سجن قصر فيروزة)
لم يكن يدري انها تجلب الويل له لو عرفوا انه اخبرنا..
بعد ان أُعصبت عيوننا، وقيدت ايدينا من خلاف، الواحد جنب الاخر..انطلقت الحافلات.
في الطريق من الحدود الافغانية، الروسية، الايرانية الى طهران..كانت الصور تتوالى متقافزة امام مايحجب عيني عن الرؤية.. ست عشرة ساعة متواصلة دون توقف..ليتها كانت الى العراق..
اه يابلدي الحبيب..كم بعيد عن العين انت..كم قريب من الروح انت..آه لو القاك فاحكي لك العذاب..آه لو القاك..اشكو لك العذاب..آه.. ايها العراق..اتذكرني مثلما اذكرك الان..ليته كان المآب..ليته كان حلما مر من بين الجراح طارقا ازمنة الجفاف، واودية اليباب..كان حلما عابرا لحظة شوق..ثم غاب..آه يابلدي الحبيب..)
وصلنا طهران بعد ظهر يوم أهدأ مايكون..في الساحة الخارجية لسجن( قصر فيروزة) هنا جرّدنا من كل شيء، حتى ورقة التوت..!! وقفنا عراة كأننا في يوم الحشر،ينظر احدنا سوأة اخيه، هذا كان نظام السجن اللعين،الهراوات تحيطنا من كل جانب..وسط هذا الجو دخلنا المعتقل..قاطعان، لكل منهما ممر طويل على جانبه الايمن خمس غرف..أبواب حديد وقضبان، وحراسات تتمشى في الرواق الممتد من بداية السجن حتى آخره..
اقتربت الجنود منا..عيونها ما تلبث ان تتركنا لتستلمنا عيون اخرى للحراسات الخارجية التي جاءت تشهد حفل الاستقبال الكريم للوافدين الجدد!!
في الصباح الباكر، عرفت من الحراسات ان احمدا موجود هنا في القاطع المقابل..لكنهم اخبروني ان حالته الصحية متردية، وسيئة للغاية.. زاد شوقي اليه..ماهي الا ايام حتى جمعنا سوية على اساس اننا واحد وقضية واحدة..هكذا جاءت التعليمات من المافوق..
فُتحت الابواب بيننا.. خرجت ابحث عنه كالمجنون..قاطع نظري كثرة من لاقيت..اتبادل معهم السلام والتحية.. سائلا عن احمد..وجدته..التقيته..ليتني لم التقه.. هيكل عظمي يتمشى على الارض..تكاد الارض لا تحس بثقل قدميه عليها.. رغم ذلك كان يبتسم كما عوّدني على الدوام..ذهلت وتفاجأت لمنظره..لقد اغلقوا فتحة الخروج عنده..فعوضوه بكيس مربوط الى جنبه لقضاء حاجته....كان شاحبا..اصفر الوجه..مخضوضر العينين..تكاد تحسب عظامه واحدا واحدا..ملامح الحيوية تكاد تشق جلده لتستقر على محياه..لم اره سوى هكذا..
حدثني كثيرا..كثيرا..كنت استمع اليه بكل ما أوتيت من قوة على الاصغاء..مر بي بكل محطة مر بها..كنت معه روحا ووجدانا..بعد ان حاولت جاهدا ان اخفي ماكان من دمع يتزاحم من اجل مغادرة اجفاني..
ودعته وانا احاول ان استقريء مستقبل هذا الوفي الأبي..
ذات يوم مشمس كان ممدا عند احدى جدران الساحة استدعاني ليبادرني القول وهو يرمقني بتمعن غريب..
- اشعر انني سأموت يا أخيّ..وقد جلبت معي في الخفاء بذورا عجيبة..وعجيب امرها..
- كيف..؟ قص عليّ ماعندك..
- كنت ذات يوم في زنزانة (بازوي).. في ( ميزداوند).. اراقب عصفورا كان يحط ويطير فوق سياج المعتقل..سقطت منه حبة.. ظل يحوم ويحوم من اجل التقاطها..لم يستطع..اخذتُها..حفرت باصبعي هذا في زاوية من زوايا الساحة الداخلية للزنزانة..وضعتُ الحبّة..جلبت لها ماءا..اينعت بعد فترة وَنَمَت عن غصن ظل يمتد ويمتد حتى ارتفع..كان يحمل ازهارا بلون البنفسج..ذات رائحة تهب مع النسيم لتزيل نتن المعتقل..سعدنا جميعا بها وكانت محط ارتياحنا ورعايتنا..جمعت تلك البذور..في السنة التالية غرست البذور في كل ناحية من نواحي التقاء الجدار العالي بالارض، كان الجمع يتخذ منها مدعاة للمداعبة والاستئناس..وما هي الا ايام حتى اصبح الجدار باركانه الاربع مغطى بالزهور من كل جانب..كنا نحسب كم وصل عدد الورود..لقد اصبحت كثيفة..كانت تحمي مالدينا من اوراق ممنوعة عن عيون الحرس..كانت وفية لنا ايام التفتيش..شعر بها الخبثاء، فجاؤها حصادا واجتثوها من اصلها.. وهاهي مجموعة منها..خذها..وازرعها في جوانب جدار ساحة السجن..ارعها واسقها، وحذار ان تتركها دون ماء..فهو متوفر هنا..لا اريد ان اراها تموت وانا على قيد الحياة..غدا سأأتي معك..اعلّمك كيف تقوم بالعمل..انت اهل له.
في اليوم التالي..وضعنا في كل زاوية مجموعة من البذور..انها بذور(احمد).. مزرعته..حديقته المحببة..
نمت الاغصان حاملة معها ازهارا كالاجراس..جميلة..كثيرة..كنت اسقيها يوميا.
صحة احمد تتردى يوما بعد يوم..لم يطق بعد وضعه..نقل الى المستشفى..انقطعت اخباره عنا سوى تطمينات بين الحين والاخر من قبل الجنود او آمر المعسكر.
كنت كلما سرت، توقفت امام الورد، فارى (احمد)..وكلما كان الورد بخير..فـ (احمد) بخير..كانت هناك وردة يحبها كثيرا فهي قريبة من غرفة منامه.
نسيت ان اسقيها ذات مرة ودون قصد..كان هو ينقل اليها الماء بيده..وبعد غيابه انشغلت..فلم أأتها..
ما الذي دفعني اليوم ان اتوجه اليها صباحا دون الأخريات..؟
وقفت امامها..لقد ذبلت وماتت..مددت يدي اليها اتحسسها، وقبل ان المسها..استوقفني نحيب السجناء عند الباب.. مات (احمد)!!
كانت الزهرة اكثر وفاءا مني..لقد ماتت هي بعد ان مات راعيها..
بكيت (احمد) حيث كان البكاء،
ووددت لو كان لي معه في الطريق لقاء.

* * * * *








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج الأمريكي كوبولا على البساط الأحمر في مهرجان كان


.. ا?صابة الفنان جلال الذكي في حادث سير




.. العربية ويكند |انطلاق النسخة الأولى من مهرجان نيويورك لأفلام


.. مهرجان كان السينمائي - عن الفيلم -ألماس خام- للمخرجة الفرنسي




.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية