الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الخروج من أتون الخردل

محمود الوندي
(Mahmmud Khorshid)

2011 / 3 / 18
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم



عاد الرجل المسن الى قريته بعد انتفاضة اذار 1991 وتحرير جزء من اقليم كوردستان العراق . كانت رغبته في إعادة مقومات الحياة في القرية مرة اخرى ، وبانتظار غد اجمل ، فكان يردد مع نفسه دائما ، علينا ان نؤمن بان بعد كل بغروب حتما ورائه شروق زاهر ، إلا ان مأساتنا كارثة لا يمكن المرء نسيانها ، تأمل بنظرة حزينة الى واقع الدمار الذي خلقه العدو الشرس بعد هدم قريته اكثر من مرة من قبل الحكومات المتعاقبة على حكم العراق ، بواسطة اجهزتها العسكرية والامنية ، والتي بنيت من قبل أهلها مرة اخرى ..

أشعل الرجل المسن سيجارته العاشرة بعد ان جلس على التل مقابل دراه في القرية ، مسردا ذكرياته ومأسي اهله واقربائه ، وذلك اليوم المشؤوم التي اصبحت قريته متحفا حقيقيا أشبه بمتاحف الشمع المصطنعة ، وهو يفكر كيف يجتاز هذه المحنة والايام الصعبة القادمة والمؤلمة من حياته ، وينظر نظرة خافية الى حفرة دفن فيها أهله واقربائه واصدقاء عمره ..

يعيش الرجل المسن مع ذكرياته عندما تختلس النظر بين آونة وآخرى الى قريته المهدمة ، والى عين الماء الوحيد الذي تجاوز تلك المحنة ويخرج منه الماء العذب متحديا صعاب الزمن ، ولا زال هو بفكر ويتخيل عن أيامه المؤلمة والآلام والمعاناة أبناء قريته مع تلك السنة من شهر اذار مشؤوم ، وهو يتذكر تلك الايام كيف أهتزت الطبيعة الخلابة الى الدمار والخراب !!! وتلك الورود والزهور بألونها الزاهية وكبف تغيرت الى الالوان الكالحة ورائحتها الزكية الى الرائحة الكريهة التي عمت المنطقة بأكملها ، التي انبثقت من السلاح الكيمياوي الذي استخدم من قبل الاعداء الانسانية والحرية ومرضى النفوس ..

وعمق الرجل المسن في ذكرياته ، واخذ يتخيل في ماضيه وتذكر مدى تلك الجرائم التي أقترفت بحق الناس الابرياء العزل ، وكيفية سقوط الاطفال والنساء والشيوخ وحتى الشباب من كلا الجنسين امام عينه على الارض ولم ينهضوا مرة اخرى اي كانت نومتهم الابدية ، الى جانب الحيونات المختلفة ومنها البرية الذين نفقوا أزاء تشممهم تلك الرائحة ، بذريعة تواجد المخربيين في المنطقة ( والقصد هنا البسشمركة ) ، وان هذه الحجة وهي حجة واهية لا معنى لها اصلا في أي قاموس أخلاقي وإنساني ، وهكذا الرجل يتكلم مع نفسه ويسأل .. ولماذا قامت الحكومة بهذه الافعال الشنيعة بحق الانسان البريئ والمسالم ؟؟؟ !!! ولماذا هؤلاء يدمى قلوبهم لمشاهد المجتمع ما يعيش في حياته البسيطة والمطيعة لعيشيه ؟؟؟ !!! ما ذنينا وذنب عوائلنا لكي استخدموا أسلحتهم القذرة والمحملة بمادتي كيماوية وجرثومية والتي انبثقت منها تلك الرائحة الكريهة والقاتلة ؟؟؟ !!! حيث قتلت واصابت من شمتها من اهالي قريتها .. وغير من ذلك من السؤال والتساؤلات المقلقة التي تدور وتحوم في مخلتيه ، وكيف تشعر ما تبقى من ابناء قريته حول مستقبلهم ومستقبل قريتهم ... وهل هناك مستقبل أفضل ينتظرهم واما ؟؟؟ وهل نستطيع بناء قريتنا واسترجاع ما تبقى من اهلنا الى القرية ؟؟؟ وهل نستطيع ان ننسى ماضينا ويكون في طي النسيان ونبدأ من الجديد في بناء حياتنا ؟؟؟؟

وهكذا يتحدث الرجل المسن الى نفسه بصوت خافد ، وانه يحاول ابعاد المأساة والمعاناة الماضية من عقليته ، ووينسى اعتقاله وهجرته الى جنوب العراق وعاش معاناة السجن والغربة ، ويريد من تأكد لذاته ، بانه ما زال بحب قريته وأرضه وما تحوي من ذكرياته الجميلة والمرة بين طياتها من الماضي ، لانه لا يستطيع فراق القرية وابنائها ، ويرغب العودة اليها ، والعيش ما تبقى من عمره فيها ..

ورغم احلام الرجل المسن لا يموت ببناء قريته ، فإن " المأساة لم تننسى ولم تنتهي " وهو يذكر كيف بأنه من احد الناجين من القصف الكيمياوي وكيف نجى بأعجوبة من تلك الكارثة بعد ان كان يلقي حتفه ، وثم القي القبض عليه من قبل جلاوزة البعث وارقده في السجن برغم كبر سنه ، وهو يتكلم بحزن الشديد والدموع تنزل من عينيه ما فقده من الافراد أسرته ومئات الاشخاص من اقربائه وأصدقائه داخل قريته ، بعد ان تشمموا الرائحة الكريهة التي القيت عليهم بواسطة الطائرات الحكومية في اثناء تناول الفطور عند الصباح أي مع أشرقة الشمس ، بدون أي ذنب اقترفها أبناء القرية ، سوى انتمائهم القومي بحيث انهم من القومية الكوردية ، بل كانت الحجة لدى الحكومة واجهزتها الامنية بأن أهالي القرية جميعهم مع المخربيين وخارجين عن القانون ..

وضع الرجل المسن رأسه على سترته ومدد جسمه على الارضية الطينية ليأخذ قسطا من الراحة وعلى ذلك المرتفع امام بيته وهو في حسرة بنائه وبناء قريته ، ولكن اخذه النوم تحت أشعة الشمس المنبعثة قرصها السرمدي على جسده ، وفي اثناء نومه وهو يحلم في بناء قريته وثم اكمال بناء داره ، وانه يجالس بين أهله واقربائه واصدقائه الذين لم تكتب لهم الموت المحقق ، وإنما كتب لهم الحياة من الجديد ، ورجعت تلك الاشجار الباسقة وأخضرت الارض مرة اخرى والتي تنبع من بينها عيون الماء بعد ان تجففت ، واخذ يتمشى بين تلك المزارع وبين طرقات قريتها ويسحب يد حفيده وهو يتكلم معه بصوت الحنون ، واخذ يجالس سائر رجالها ، ويتمزح مع الشباب والشابات ويأملهم على المستقبل الزاهر وينشدهم على العمل والجهد لبناء ما دمر من قبل معدومي الضمير ، واسترجاع الذكريات الماضية ، وكما يحدثهم على الصبر والثبور ، ويخاطبهم انا أشعر بالزهو لأننا نملك هذه الطاقات البشرية ، ومن خلال تجواله في أحيائه ومر على الابنية الجديدة التي بنيت فيها من المدرسة والمستشفى والجامع ، وهو في حالة الفرح والابتهاج على استرجاع قريته الى احسن من الماضي ، عندما ابتعدت عنه الشمس واتجهت نحو الغروب واخذت روح الرجل المسن معها ، وترك جسده هامتا على الارض لكي ينام الى الابد ، ولم ينهض مرة اخرى ليكمل امنياته ورغباته واحلامه ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شاهد ما حدث لناطحات سحاب عندما ضربت عاصفة قوية ولاية تكساس


.. المسيرات الإسرائيلية تقصف فلسطينيين يحاولون العودة إلى منازل




.. ساري عرابي: الجيش الإسرائيلي فشل في تفكيك قدرات حماس


.. مصادر لـ-هيئة البث الإسرائيلية-: مفاوضات إطلاق سراح المحتجزي




.. حماس ترد على الرئيس عباس: جلب الدمار للفلسطينيين على مدى 30