الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المغرب على طريق الملكية البرلمانية

حسان الجمالي

2011 / 3 / 23
مواضيع وابحاث سياسية


جمعتني في الخمسينات عدة سنوات دراسية مع صديق مغربي اسمه بدر الدين البناني (هو اليوم أستاذ جامعي أميركي في مجال الآداب والترجمة) . كان أبوه رجل دين وأحد أساتذة التربية الدينية في مدرستنا وأكثرهم شعبية لأن دروسه الدينية كانت تقتصر على سرد ممتع لقصص الأنبياء وأساطير الأولين بلهجته المغربية المميزة.
بعد أيام على استقلال المغرب وعودة محمد الخامس من المنفى، أعلمني بدر الدين أن أباه اتخذ قرارا بالعودة إلى بلاده التي تركها لأنه كان مهددا بالاعتقال من قبل سلطة الانتداب الفرنسية.

منذ ذلك اليوم وحتى الآن لم يفارقني ذلك البلد وبقيت أتتبع أخباره وأشاركه أفراحه وأحزانه وهمومه، لا مشاركة المراقب ولكن مشاركة الفرح والقلق معا. كيف أنسى ذلك اليوم الذي كلف فيه محمد الخامس عبد الله إبراهيم الاشتراكي بتشكيل الوزارة. كان ذلك حدثا هاما بل فريدا من نوعه في الوطن العربي حينذاك: أول رئيس وزراء اشتراكي في بلد عربي على رأسه ملك لقبه أمير المؤمنين!

يوما ما جاء المهدي بن بركة إلى طرابلس والقي محاضرة عن المغرب وعن ملكه محمد الخامس وعن ولي عهده. أدركت من كلام بن بركة أن صداما حادا لا تحمد عقباه سيحدث بين بن بركة وولي العهد يوم يتبوأ هذا الأخير سدة الحكم.
سنة 1992، و في يوم شتاء كندي بارد، جاءني عرض للعمل لثلاث سنوات في المغرب، قبلته دون أدنى تردد، وكأنني كنت على موعد طال انتظاري له.
كان ذلك في السنوات الأخيرة من حكم الملك الحسن الثاني. ولكن على عكس بقية الأنظمة العربية ذات الحكم المطلق كانت توجد في المغرب أحزاب معارضة ونقابات عمال مستقلة وصحف غير رسمية تنتقد سياسة الحكومة دون أن تتعرض بصورة مباشرة أو غير مباشرة للملك أو أحد أعضاء عائلته. وكان أكثر السياسيين شهرة في ذلك الوقت وزير الداخلية البصري المشهور بقبضته الحديدية. بينما كان الفساد المنتشر في دوائر ومؤسسات الدولة مالئ الدنيا وشاغل الناس. أما ولي العهد حينذاك، الذي أصبح فيما بعد الملك محمد السادس، فقد كان يظهر من حين لآخر ليترأس بعض المناسبات الرياضية أو لينوب عن أبيه في مناسبات أخرى. ولم يكن بإمكان أحد أن يتنبأ بما كان يدور في رأسه في اليوم الذي سيصبح فيه ملكا للمغرب وأميرا المؤمنين.
تركت المغرب عند انتهاء العقد ولكن مع شريكة حياة وطفل من مواليد الدار البيضاء.
ِشاءت الصدف أنني كنت زائرا في المغرب حين توفي حسن الثاني وبدأ عهد جديد مع محمد السادس الذي كان حتى تلك اللحظة في الظل لا يعرف أحد عنه ولا عن خططه ومشاريعه شيئا يذكر.
ولم يطل الانتظار وبدأ الملك بإصلاحات هامة جعلت من البلد وخلال فترة قصيرة في مقدمة البلدان العربية فيما يخص حرية الصحافة، وظهر على الساحة جيل جديد من الصحفيين ترأسوا جرائد ومجلات بالعربية والفرنسية مارسوا عملهم بحرية تعبير واستقلالية لم تعرفها الصحافة في أي بلد عربي آخر بما فيه لبنان، رغم ما تعرضوا له أحيانا من مضايقات ومحاكمات وغرامات مالية. ولم تقتصر حرية التعبير هذه على الصحافة وإنما شملت السينما والمسرح والأدب.
وتعتبر مجلة Telquel الناطقة بالفرنسية من أهم تلك المجلات التي تعرضت لتابوات السياسة والدين والجنس، وحتى المسكوت عنه مثل المثلية الجنسية والخادمات الصغيرات، بحرية فاجأت حتى أكثر العقول ليبرالية وانفتاحا. ولكن يبدو أن مساحة الحرية أوسع في اللغة الفرنسية (لغة الخاصة) منها بالعربية(لغة العامة) وظهر هذا بوضوح حين صدرت عن مؤسسة Telquel مجلة شبيهة بالعربية باسم نيشان والتي تعرضت بعض أعدادها للمصادرة ثم اختفت بسبب قطع الإعلانات عنها نتيجة ضغوط من الجهات العليا.
جاء تعديل قانون الأحوال الشخصية (المدونة) شهادة للملك على أن له رؤية عصرية إذ اعترف القانون بالدور الذي لعبته المرأة المغربية منذ الاستقلال وأزال عقبات كثيرة على طريق اندماج المرأة، الذي أصبح ضرورة وشرطا للتقدم، في عملية التنمية (وهذا لم تتجرأ على القيام به أنظمة تدعي الثورية والعلمانية) .
كذلك عرف الاقتصاد المغربي انتعاشا على جميع المستويات وتحول البلد إلى ورشه ضخمة لمشاريع هامه ليس أقلها مرفأ طنجة الجديد. كما تبوأ المغرب مركزا دوليا مرموقا على الصعيد الدولي في مجال الزراعة والمهن التقليدية وتصميم الأزياء.
وهنا يجدر بالذكر دور العمل الطوعي حيث تعمل حوالي 30000 منظمة في تحسين أوضاع النساء والأطفال وسكان مدن الصفيح وفي حماية البيئة.
ولكن للعملة وجها آخرا، ذلك أن الفقر، بل البؤس، ما زال منتشرا (المغرب ما زال في مؤخرة الدول العربية من حيث : التعليم، مؤشرات التنمية الاجتماعية ومحاربة الأمية) وكذلك الفساد المالي والإداري الذي أوسع الهوة بين الفقراء والأغنياء، ووضح تحت خط الفقر كثيرين من الذين كانوا ينتمون إلى الطبقة المتوسطة.
كذلك أدى انخفاض مستوى التعليم الرسمي على جميع المستويات في ازدياد التفاوت الطبقي ومن تفاقم مشكلة البطالة لدى حاملي الشهادات الجامعية التي لم يعد لها قيمة تذكر لدى القطاع الخاص. وصاحب ذلك ازدهار التعليم الخاص الذي أصبح ملجأ لمن يملك الإمكانات المادية لتأمين تعليم جيد لأبناء العائلات الميسورة.
لا بد إذا، اليوم، من إعطاء الأولية لمكافحة الفقر والفساد والبطالة، خاصة لدى الذين قضوا فترة طويلة على مقاعد الدراسة، ولا بد من أجل ذلك من أن يكون التعليم المهني والجامعي في خدمة التنمية. ومن الخطأ الاعتقاد أن حل هذه الأمور المزمنة يمكن أن يتم عن طريق إجراءات إدارية أو إصلاحات جزئية أو بتدخل مباشر من الملك. إن مشروعا بهذه الأهمية يتطلب مشاركة المجتمع المدني بكاملة ويتطلب جهودا وتضحيات و توزيع عادل للثورة الوطنية ورؤية لمغرب المستقبل. وهذا لا يمكن انجازه ولو جزئيا دون إصلاح النظام السياسي. إلى ولنسم الأمور بأسمائها: لا بد من أجل تحقيق هذه الأهداف من انتقال المغرب إلى نظام ديمقراطي يضمن المراقبة الشعبية على حكومة مسئولة أمام الشعب. أي باختصار يجب العمل على بلورة نظام ديمقراطي فعلي يسمح بتمثيل حقيقي لقوى المجتمع المدني بتياراته السياسية ومصالحه المتضاربة، يشعر فيه المواطن أن له صوتا ومشاركة ومسؤولية في صناعة القرار والعمل على نجاحه.
وكون أسس النظام الديمقراطي واحدة لا يمنع أن كون تطبيقاتها متعددة، من ملكية وجمهورية وإماراتية ولكل منها خصائصها ودستورها ونظامها الانتخابي. والمغرب مؤهل اليوم أن يبني ولو تدريجيا (تحديد مرحلة انتقالية) نظاما ديمقراطيا أساسه ملكية برلمانية يقوم على الأسس التالية:
- من مصلحة المغرب واستقراره أن يحافظ الملك على كامل الصلاحية في مجال الدفاع والسياسة الخارجية والأمن الداخلي، بينما تعطى الحكومة الممثلة للأكثرية البرلمانية كل الصلاحيات في مجالات التعليم والصحة والاقتصاد والصناعة والزراعة والشؤون الاجتماعية.
- يحافظ الملك على لقب أمير المؤمنين، ذلك أنه في الظروف الحالية التي يعيشها المسلمون ومع عدم وجود مرجعية دينية مركزية، ومع فوضى الفتاوى وتسييس الدين، من مصلحة المغرب أن تكون المرجعية الدينية الدستورية محصورة بملكية عرفت باعتدالها وانفتاحها وحمايتها للحريات الخاصة. والتي سيكون أيضا بإمكانها أيضا فصل الدين، عمليا، عن السياسة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصير مفاوضات القاهرة بين حسابات نتنياهو والسنوار | #غرفة_الأ


.. التواجد الإيراني في إفريقيا.. توسع وتأثير متزايد وسط استمرار




.. هاليفي: سنستبدل القوات ونسمح لجنود الاحتياط بالاستراحة ليعود


.. قراءة عسكرية.. عمليات نوعية تستهدف تمركزات ومواقع إسرائيلية




.. خارج الصندوق | اتفاق أمني مرتقب بين الرياض وواشنطن.. وهل تقب