الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الـمُـعــــــــــــــادِلاتْ 5

هادي الخزاعي

2004 / 10 / 19
الادب والفن


( القسم الخامس )
كان أبو ظافر قد جرى طوال الطريق الى القاعدة، إما بمحاذاة المحفة أو تحتها، وجيشان الحزن والدمع متلازمان، فيمتزجان بلحظة يدرك ما في ثناياها من خطب، وأن الماساة المؤتلفة، قد دنت سيوفها، وهي آتية ليرتديها كرداء لبسه عشرات المرات،. أرتكن الى حجر رمادي مطحلب، بقّْعته الرطوبة المتباطئة، فشبت عليه فطريات خضراء هنا وهناك من تفاصيله الباردة.
كان ما العين ساكنا في ظل الشمس الناثرة ألقها فوق ما بقي من أوراق الأشجار التي تقاوم بآخر نتحها سلطة الخريف.
أنتابته أحاسيسه الغريبة مرة أخرى وهي تكظم الغضب، لتجبره على التفكير ، بان أياما حزينة آتية، ستكون معه طوال الوقت والطريق. دوامات هواجسه هي الأخرى تدور وتدور ولا تستقر أبدا، وهو يسعى للوصول الى أمر يعجزه عن تذكر ما يراه ، وهو لايرده. لم يصحو من تلك الكوابيس المُدركة لو لم يدركه خرير ماء العين السابح حول الحجر المُطحلب، وهو يرسم دوامات صغيرة لا تتلاشى.
وضعوا جميع الجرحى في غرفة الطبابة التي لم تكن في حقيقتها غير مكان أشبه بالكهف المكتض المشبع بالرطوبة وروائح المطهرات الطبية . كانت غرفة هجينة، لاهي بالطبابة ولا هي بالمضافة.
ضجت الطبابة بالأنصار، وهم مجنزرين بأسلحتهمواحزمتة عتادهم، ليطمئنوا على الجرحى من رفاقهم الذين كانوا قبيل الليلة الفائتة يملئون المكان بالفرح والدعابات والمجادلات ورنات الضحك الداعر أحيانا.
لم يكن في الغرفة ما يسمع رغم الزحمة، غير هسيس النار، ينطلق من المدفأة الصدئة، وهمهمة خافتة من التلهف، ترسمها الشفاه الرخوةن كيلا تزعج الجرحى الغاطين بنوم عميق، تسرب من حقن المخدر الى اوردتهم. فأبو نصار الذي أخترقت فخذه الى كرشة الساق ، رصاصة غير طائشة أستدلت مكانها رغم الظلمة، قد نام بسكون مهيب مجلل بشحوب صافأ يحل رويدا محل لون الزهر المحتضر لوجهه الهضيم. والىجانبه أبو جاسم، وقد تحطم مشط قدمه أثر صاصة عمياءن لم تكدح كثيرا في مهمتها. أما يونس فلم يكن داحل الغرفة، فجرحه سهل، فقد شجت واحدو من الأطلاقات فروة راسه، فعولج بأربع غرزات، قال، انها آلمته اكثر من الأطلاقة نفسها.
لم تنثلم الروح لديهم، حتى أبو كريم الذي جف وتهافت بأطمئنان ودعة كنسمة من هواء افسده العفن، لم يشذ عن هذا الأحتكام.. فذلك هو شرفهم لا قدرهم، كما كانوا يعلقون حين يتعرض نصير ما لأصابة أو مرض، بعد أن وطنوا أنفسهم على مبدأ ، ان ليس للأنسان من طريق ثالث، فاما أن يكون شريفا، واما العكس. اقد حرصوا أن يكون سلوكهم مع الآحرين، جسرا لهذا لأعتبارهم المختار ذاك...
- هاي شنو أبو كريم .. ليش تكلف نفسك؟!
- ولو آني ممتزوج، وما عندي ولد.. لكن شفان وشفبا وشيفين مثل ولدي.. هسه آني شجبتاهم؟!
- بس .. بس أبو كريم...
- لابس ولا هم يحزنون... أنته مو رفيقي؟؟
- بلم..
- يعني أكثر من أخوي.. يعني أطفالك، اطفال أخوي وأكثر.. أفتهمت؟!
- والله ما أدري شكول!!!
- متين.. انته سامع بسالفة ... " خل ياكلون بصاية خالهم.."؟؟
- لا بخودي...
- أحسن.
- راح تخبلني وياك!!!
- ولك هذه مو خبال.. هاي يسمونهه .. الروح الرفاقيه..
- بش أنته دتحرم نفسك من أشياء..
- دسكت.. ولك منيش حارم نفسي.. شو الشرب ممنوع.. والجكاير بطلته لأن مكتوب عله الباكيت.. " التدخين سبب رئيسي للسرطان.." والأكل واللبس عله الحزب.. وابوك الله يرحمه...
- بس..
- وبسباسه التطلع بصدرك.. ولك ذوله ولد أخوي...
- الحجي مالك هذه لخليني أحسك من لحمي ودمي...
- وآنه من أخذت البطاقه، علموني شلون أكون آخر مستفيد.. هسه أفتهملك يخوي؟!
- شريف.. والله شريف.
- وي عساهه أبختك يالرشحتني...
لم يكن من شيء غير نشيش القدر وهسيس النار المتقلبة، كأنه نبض المكان ونسخ الحياة فيها. وفي وسط هذا سكون هذا المشهد، أتكأ أبو ظافر على الجدار وعلى وجهه خيبة الطفل ودهشته، وهو يصغي لشيء ابعد من الجدار الصخري بكثير، شيء يطرق ذاته بعنف، فتتصادم الأفكار الشاردة، فتستقر يده على صدره حيث تتحرك عليه وئيدة، تبحث في الفراغ الميت عن صدى عجول ليس له هفيف، صدى يوحي بالغوامض والأحاجي، فلم يبدو له أبو كريم غير شكل مكور لا قرار له. وسرعان ما اكتست بشرته ألتماعة شاحبة، وهو ينظر اليه بعينين خاليتين من أي شيء ، إلا من قسوة وعذابات السنين. كانت نظرات ذاهلة غير واثقة، كأنها أصابع مرتعشة وهي تقبض على الروح الهائمة في مستنقع الصمت....
- أه يا أبوكريم... هل يعقل أن تسجى هكذا وحيدا، كأنطوائي ينام على أسراره!!!!
- تحجي وياي رفيق ؟
- لا دكتور أبو تضامن..
- لعد؟!
- أشعر ان نظراتنا أليه تشبه المشارط، تهوي عليه لتقتله، لا لتواسيه...
- لاأخفيك أن وضعه صعب.. صعب جدا.. وليس لنظراتنا من علاقة بما سيؤول اليه وضعه.. انظر اليه....
ظل جامدا ساكنا لا تتحرك فيه عضلة ، إلا أسنانه المصطكة صعودا ونزولا على شفته السفلى، حتى راح نور الفانوس يخبو ببطء دون أن ينطفيء، أو يتغيرالى الظلمة المطلقة، فترك الرواية وكأنه هو الذي تغير وتضاءل، رغم أمكانية القراءة أصداءبظل ذلك الضوء الشاحب، فأنعطف الى عالم مشحون باصداء التداعيات الحزينة، توقضها الأحزان كالغبار، لتستقر من جديد كالغشاوة على الأشياء والسطوح، فتناثرت الكلمات والجمل في مجرة تأملاته وهي تسجل طقسا تذكاريا يحاكي فيه كل الأحزان التي لم يتوقف احد عن استحضارها حين استحال امر فقدان ابو كريم الى ابديته، امر يقترب من خط نهايته .
أنطلقت الساعة تمر به وتمضي ، بعد أن أطلقت العصا التي يتوكأ عليها، رنة هشة ، سكنت الفضاء بلا صدى، وظل يضغط على طرفها حتى أستحالت الى قوس معتم بين كفه والأرض، حتى طقطقت واستوت الى قطعتين فوق الأرض ، فتدلت يداه السمراوان بين ركبتيه وهو يئن أنينا خافتا بلا توقف، تلوح من ثناياه بعضا من حوارات مشفرة مع نفسه مرات، ومرة مع من جاء ليتطامن........
- ابو ظافر.. ابو كريم عزيز على الجميع...
- ومن يقول غير ذلك ؟!
- لماذا البكاء أذاَ ؟!
- لا أدري.. فكلما أنظر اليه، أجده قد تضاءل اكثر مما كان عليه قبل ساعة...
- أن الطبيب يبذل جهدا كما ترى..
- أنه رغم ذلك.. يدور في حلقة مفرغة.!
- لأن ليس هنالك من امل كبير.. فقط المعجزة...
- لذالك تراني أبكي.
- سأتركك.. يجب ان ننتهي من الأعداد لأحتفالية الغد..
- ليكن أذاَ احتفالا يليق بالمناسبة...
- ويليق بشجاعة جرحانا.
ولبرهة جلس في فراغ مطلق، ليعاوده الأنين بكاءا، يكاد لا تتخلله فسحة للتنفس، بكاء يصعد نحو ذروة عجيبة لم تُعهد به، بكاء يشبه العويل النسواني اليائس، لا شيء فيه غير الصوتالمنسوج من الحزن والظلم والزمن.
أشتد وهج النهار، ولم تعد بقع الظلال الراكضة على السفوح والأرض المتماوجة المتعرجة ، تنبأ بطقس غير أعتيادي. لم تكن طلعات الطيران وقذائف المدفعية المختلفة العيارات المستمرة، بذي بال للمقاتلين الأنصار، فقد توقعوا أن تكون ردود أفعال السلطة ، أكثر مما هو عليه الآن، فالطلعات الثلاث للطيران، لم تكن بمستوى ما انجزوه ليلة البارحة من اقتحام بطولي، حتى جن الليل ، يشبه جدارا من الظلمة القاحلة، ليزيح اللثام عن وجه الموت القبيح المتثائب، وهو يتخطر في الغرفة بوقاحة الشيطان، ليعلن عن وجوده في كل أنة من انات ابو كريم المتزايدة حدة من الألم، ويئسا من البقاء. كانت خطوات الموت الثقيلة تتبدي من الذبول المريع الذي غشاه في ليلة وضحاها، فصار اشبه بصخرة صغيرة متآكلة في بركة ساكنة، تفيض بموجات انينه المتعاقب، ليتلاشى في أصداء خاوية، تتقفز بين الجدران والآذان،الى أن يخبو الأنين وصداه الذي لا يشبه الأصل، كانا كالظل والضوء متلازمان، يتقلبان على راحة الوجه القبيح.
كانت المدفأة التي اتخمت الغرفة بالدفء، وهمهمات النارالألقة، قد ايقضت تنين الصحوالمتجمد على وجهه المتداعي، فراح يحاكي ذلك الدفء وذلك الوجوم بكلمات وجمل يعتصرها فمه الذابل بصعوبة بالغة...
- تره الطلقة بعده ابطني.... مصاريني اتوج.... الطلقه ولك بعده ابطني ما طلعت.. بعده أبطني.. أبطني نارنارنار نار... اريد ماي.. ماي..
( يتبع القسم الأخير )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت


.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر




.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي


.. شاهد: دار شوبارد تنظم حفل عشاء لنجوم مهرجان كان السينمائي




.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-