الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأسطورة في الشعر

طاهر فرج الله

2011 / 3 / 31
الادب والفن


قيل عن الشعر أن (( أعذب الشعر أكذبه)) ومعنى القول هذا أن الشاعر كلما تبحر في سُحب الخيال الكاذب, أبدع في قصائدهِ تاركاً قراءهِ يهيمون في عالم السراب لينالوا ما يروي ظمأهم الوجداني الذي لا يرتوي, لينتقلون فيما بعد بشغف من بيت إلى بيت ومن قصيدة لأخرى لينهال عليهم الخيال في واقع لاذع.
ويبدو أن أثنين من الشعراء أنتبها إلى هذه المقولة, فجسد كُل مِنهما مغزاها في عالم الخيال الكاذب لينسجا قصيدتين تحاكيان رمز الخير والعطاء ( الله تعالى ) وإمبراطور الشر والظلام (الشيطان الرجيم ) فسرحا في خيال الكذب بعيدا ضمن أبعاد قصيدتيهما اللتين التي لا تخليان من البعد الأسطوري, فراح الاثنان يكذبان حتى كذبا بقصيدتيهما الوقائع التاريخية ليوصل كل مِنهما فكرة سامية نبيلة, تتميز بأبعاد فكرية وفلسفية, تحاكي الإنسان خفايا تفكيره وتأملاتهِ, ألا وهما الشاعر اللبناني ( بشارة ألخوري) المعروف بالقروي, والشاعر العراقي المغفور لهً ( محمد حسين فرج الله ).
فالأول أراد بقصيدتهِ ( حضن الآم ) أن يُكرم هذا المخلوق المعطاء بطبعهِ والتي جعل الرب طاعتها وطاعة الأب على مستوى واحد في آياته الكريمة , لذا نرى الشاعر قد أسكن بطل قصيدتهِ في جنات عدن على الرغم من معاصيه وذلك لطاعتهِ واحترامه لوالديهِ وبشكل خاص أمه إذ قال في بيتي قصيدتهِ:
أضـــــــــاع العمــــــــــــر في طلب المعاصـــــــي
يحـــــــــــــلل ما كتــــــاب الله حـــــــــــــرم
ولكـــــــن بـــــــــــره الوالـــــــــــــــدين غطى
مســـــــــاوئهُ فخلــــــــــــــــص مـن جهــــنم
ولكي يجسد الشاعر نبل الإنسان تجاه والدتهِ وشدة حبهِ لها أحال بخيالهِ العميق والواسع الفردوس مأتما لكثرة شكوى أو بكاء بطل قصيدتهِ وذلك لعدم وجود والدتهِ بجنبه فصور النبي إبراهيم ( ع) وهو يغدقه عطفاً وحنانا فقال:
ووســــــــــــــده يديـــهِ وركبتــــــــــــــــيهِ
ومال عـــــــــليهِ بالتقــــــــبيل والظلــــــــــــم

ولكنهُ أستمر بنحيبهِ وشدة بكائهِ وما أن ينقطع عنهُ حتى يعود إليه:

إلى أن ضــج أهل الخلـــــــــد غيظــــــــــــــاً
وصـــــاح الله من غضب إلـــــــــــى كــــــــــــــم
أطيق تذمـــــــــــراً من عبد ســــــــــــــــوء
يجـــــــرع كوثراً فيقــــــــــــــــــول علقـــــــم
أرى الشعـــــــــراء جــــــــازوا الحــــــد أني
أكـــــــــــــاد لخلــــــــــقي الشعراء انــــــــــدم

فما كان لشاعرنا إلا أن يطلب الغفران والرحمة من رب الأكوان راجياً نيل مرادهِ شارحاً لوا عج أحاسيسهِ ومشاعرهِ التي تجدوا فيظاً وشوقاً إلى أمهِ :
فصـاح العــــــــــفو يا مولاي مـــن لي
سواك ؟ ومـــــن سوى الرحـــــمن يرحــــم
أتيــــتكَ راجــــــياً نقلي لحــــــضنٍ
أحب ألــــــــــــــــي من هذا وأكــــــــــرم
لحضنٍ طالمــــــا قد نمــــــــــتُ فيهِ
قرير العــــــــين بين الضـــــــم والشــــــم

وعلى ما يبدوا أن الشاعر القروي يمتلك ثقافة عالية مستفيضة وبشكل خاص في علوم ألاهوت والأديان فاستفاد منها فائدةً كبيرة حيثُ أنهُ وظف حالتاً نادرة لأتحدث إلا في أسطورةٍ ضمن أدبيات الديانات الوثنية أو كمعجزةٍ ضمن واحدةٍ من الديانات السماوية إلا وهي حالات الولادة الغريبة والنادرة حيثُ إن معتقدات الديانة المجوسية هي أن أصل البشرية يعود إلى ولادة أبيهم أدم وحواء أمهم من بيضةٍ ولدتها بقرة في حين كانت ولادة ( كرشنا) في الديانة الهندوسية من أمهِ وذلك بأحاء من الإله الذي خصب بيضتها ولكن القروي تكريماً لأمهِ واحتراما منهُ لها أثر إلا أن يستخدم المعجزة المنصوصِ عليها في أحدى الديانات السماوية إلا وهي ولادة النبي عيسى من أمهِ مريم بعد أن ظهر أمامها بشراً سويا إذ ما أن أكثر الشاعرُ تعبيرات الرجاء والتمني من الله على أن يشاهد أمهُ وتصويرهُ أن جنة الخلد على جمالها وروعة العيشِ فيها لا تعدو بالمكان الأفضل ما دامت تفتقرُ إلى وجودٍ أمهِ حينها قال الربُ محدثاً نفسهَ عن لسان الشاعر القروي متسائلاً :
أينــــعمُ خاطيءًُ في الأرضِ قبـلي
بما أنا لســــت ُ في الفردوسِ أنــــعم
لأكشــــفن هـــذا السر يومــــاً
ولو كلـــــفتُ أن أشــــقى وأُعـــــدم
وكانت ليلـةُ فـــــــــــإذا صبيُ
صغيرُ نائــــمُ في حضـــــن مــــريم

على أن الشاعر العراقي ( محمد حسين فرج الله ) نحى بخيالهِ منحاً أخرَ بعد أن فارق أحباءهُ ومقربيهِ الحياة ومنهم أمهُ ووالدهُ فبدلاً من أن يطلب َ لهم المغفرة ويسكنهم فسيح جناتهِ من الله تعالى آثر بخيالهِ ضمن قصيدتهِ الموسومة ( إبليس يسجد لآدم ) أن يطلق العنان لهُ ليعقد مع الشيطان اتفاقا يجعلهُ يركع ويسجد لهُ آملاً بعملهِ هذا أن تكون لهُ حظوةُ أمام الله تعالى عسى أن يستجيب لدعائهِ في أسكان من يحب في جنات عدنِ , بعد أن علم ألا غفراناً من الله على من أقترف من عبادهِ ذنوباً شاقق الله ورسولهُ فيها.
إذ قال اللهُ تعالى في سورة براءة ((استغفر لهم أو لا تستغفر لهم, إن تستغفر لهم سبعين مرةً فلن يغفر الله لهم )) .
لذا صور الشاعرُ قصيدتهُ تلكْ ضمن ديوانهِ ( عبتُ وأنين) في صورةٍ من صور الكذب الشعري الجميل الذي يعتمدُ على سراب الواقع وخيال العقل فتراءى لهُ أنهُ التقى بالشيطان مرةُ وهو يسيرُ في طريقهِ وقد أبدى جفاءً منهُ فوصف الشاعرُ هذهِ الصدفةِ فقال :
رأيـــــــــــــتُ إبليس وقــــــــد
أبدى صــــــــــددوداً وأكـــــفهر
قلــــــــــــتُ لهُ مـــــــاذا دهاك
دونـــــــما ذنـــــــــبٍ بــــــدر

ألا أن الشاعر بدأ يصفُ غيضَ إبليس للبشرِ وكرههِ لهم فقال:
قـــــــــــال تَنــــــَحَ و ابتــعـــد
ألســـــــت مـــــــن بني البشــــــــر؟
ينثـــــــــالُ لعنــــــكم عــــــلى
راسي كشــــــــــــــــــؤبوبِ مطـــر

على أن الشاعر الذي حلق بخيالهِ الصعب هذا كان على يقينٍ من أن الشيطان لن يستجيب لهُ إلا بتكرار محاولاتهِ الخيالية فهو على علمٍ بالعداء المُستحكم بينهُ وبين أسلافهِ من بني البشر من جهة وبين الشيطان من جهةِ أخرى فلم يبخل في المكرِ و الدهاء ليضع حداُ لغوايتهِ ببني البشر الذينَ ضاقوا ذرعاً منهُ في حياتهم تارةً وبعد مماتهم تارةً أُخرى لذا كرر محاولاتهُ عسى أن يُحقق هدفهم المنشود لإسكانِ من يحب في جنات النعيم والخلد فقال الشاعر عن لسان الإنسان :
قلـــــــــــتُ بلى لكــــــــنني
ممــــــــن بكـــــــــم قــــــد انبهر
يا بطـــــــــلاً عن صــــــــدقِ
أيمــــــــانٍ تصـــــــــدى للجبــــر
ولــــــــــــم يفرط أبــــــــداً
برأيـــــــــــهِ لا و أنحـــــــــــــدر

وما أن سمع إبليس مكر الإنسان بنبرةِ تتميز بالمدحِ والثناء حتى أقترب منه قليلاً وأخذ يشكو لهُ بعضاً ما يجوش في خاطرهِ فقال الشاعر واصفاً حالتهُ :
فهــــــــش إبليـــس لقـــولي
ثـــــــــــم أصـــــــغى وأعــــــــتذر
قد كُنــــــــــــتُ عبداً صالحاً
ممـــــــــــــن أنــــــــــــاب و ادكر
وبعد حينٍ قــال قــــــــــــمْ
و أُســـــــــجد لمخـــــــــــــلوقٍ أغر
من مـــــــــــــــــارجٍ خُلقتُ
والصلصـــــــــــــــــالُ طينُ وكــــدر
وما أن أبدا الشيطان رغبةً بالتكلم والحديث مع الإنسان في تلك الأبيات حتى آثر الشاعرُ أن يظهر جانباً من صفات البشر وهي التسرع في أظهارِ ما يريد وإشهار ما يبتغي وهي صفةُ إنسانية لطالما عانى منها في حياتهِ اليومية ونوهت عنها الديانات السماوية حيثُ طلبَ من الشيطانِ أن يسجدَ للبشر مُدعياً ألا ضرر في ذلك إلا إن الشيطانَ نفر من كلامهِ موضحاً ذلك بأسبابِ عبر عنها الشاعرُ بالقول:

فقال كلا أن ذا الطقسُ على الربِ أقتصر
قــــد أمر اللهُ بألا أشركنَ بهِ الصـــــور

ومن خلال النقاش المُحكم الذي دار في مخيلةِ الشاعر بين الإنسان والشيطان بدأ الاثنانُ في حربٍ كلاميةٍ ضروس ليقول الإنسان لهُ :

مالي أراك مثل بركانٌ يفور أنفجر
كأننا نخوضُ حربا وقدها قد أستعر

عندها أشتد غضب الإنسان على الشيطان ليقول لهُ آمراً:
إبليس أُسجد لــــــــــــــي سأكفـــــــــــــيكَ العذاب والقبر
إلا أن الشيطان أشتاط غضباً هو الأخر فأخذ يمخرُ ناراً ودخاناً ليقول:
ماذا تُــــــــــــــــريدُ أنني لا أقـــــــــــــــتفي بــــكَ الأثر
والشــــــــركُ كــــان شأنكم فقـــــــد عبــــــــــدتم البقــــر

وما أن سمع الإنسان هذا الاتهام ينزل عليهِ حتى شَعَرَ بانتفاضة تسري في كل أوصالهِ مُعلناً برآتهُ فيها فأخبرهُ عن مدى الآفاق الفكرية التي تتمتع بها البشرية الآن موضحاً إنجازاتها العلمية آذ أنها تمكنت من أن تحط على سطح القمر وتسبح في الفضاء وعندما أثبت لهُ ذلك أدرك إبليس أنهُ مُخطئ بحق البشرية فالإنسان الذي فعل ما فعل بما يملك من عقلٍ نيرٍ وذكاءٍ لامعٍ فلا أملكُ إلا أن أسجدَ لهُ وفي ذلك الوقت أنال الرحمةَ من التواب الرحيم ليصف الشاعرُ الوصف الإبداعي والفني لهذهِ الحالة التي تأمل أن تكون في بداية عهد الخليقة لينأى الإنسان من عناء الدنيا ومتاعبها فقال :
وقال أنما تقولهُ في ضميري اختمر
هاتِ الخلاص من عذابي بعد أن زاغَ البصر .
وبهذا تمكن هذا الشاعرُ أن يتحفنى بقصيدتهِ التي نسجت من عالم الخيال الكاذب جداً ليحقق المغزى الذي يرومُ اليهِ البشر وهو تخليصهُ من غواية الشيطان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة الخميس


.. مغني الراب الأمريكي ماكليمور يساند غزة بأغنية -قاعة هند-




.. مونيا بن فغول: لماذا تراجعت الممثلة الجزائرية عن دفاعها عن ت


.. عاجل.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة غداً




.. سكرين شوت | إنتاج العربية| الذكاء الاصطناعي يهدد التراث المو