الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قطة شيرازية

فاتن الجابري

2011 / 3 / 31
الادب والفن




قطة شيرازية

فاتن الجابري



مهداة الى الاديبة لانا راتب المجالي





المطر الربيعي ينهمر بشدة، شوارع المدينة غرقت بالسيول المذياع يبث تحذيراته إلى السائقين من خطورة الطريق وتوخي خطر الازدحام المروري بعد أن تشوشت الرؤية بسبب زخات المطر الكثيفة كنت أقود سيارتي متجها إلى عملي كما في كل صباح ..

السيارات منطلقة بسرعة جنونية مخلفة ورائها رشاشات المياه كشلالات، الناس يتراكضون وقد غسلتهم مياه المطر ولم تحمهم مظلاتهم الملونة التي يحملونها، أتابع الطريق الذي غرقت جوانبه محاولا الوصول إلى عملي دون تأخير ملامح مديرة مأوى المسنين الغاضبة أراها أمامي عاقدة حاجبيها المزججين بعصبية، تستقبلني عند الباب، تلاحقني بالتهديد المبطن بالفصل كلما تلكأت في تلبية رغباتها الصبيانية أو تأخرت عن موعد العمل الصباحي ..

ـ محمود أنت لا تدرك خطورة تأخيرك، عليك مسؤولية كبيرة واجبك رعاية هؤلاء المسنين هم أمانة في أعناقنا .

مجبرا وكارها لعمل الخدمة الاجتماعية بأجر يورو واحد للساعة الواحدة و تحت أمرة السيدة شنايدر العجوز المتزمتة التي ترهقني بالأوامر طوال اليوم مستثمرة قوة عضلاتي وفتوة شبابي في حمل وخدمة المسنين ونقلهم من وإلى غرفهم أوالحديقة للتنزه طوال النهار تراقبني في كل شاردة وواردة تطاردني بنظراتها الشبقة وقد دعتني إلى منزلها، أكثر من مرة أتهرب من تلميحاتها الجريئة السافرة تكبل سكناتي وحركاتي ويجن جنونها حين تراني منسجما أو مبتسما مع إحدى الزميلات حتى وقعت في حبائلها، جرجرتني إلى عالمها المقرف عنوة.

قطرات المطر تصفع الزجاج الأمامي بقوة وتخترق فتحات تهوية سقف السيارة ذات الزجاج المتصدع، تبلل يدي الممسكتين بالمقود ماسحتا السيارة تتراقصان من أمامي دون توقف أغلق صوت المذياع واستمع إلى أغنياتي الصباحية .. ينهمر صوت فيروز رقراقاً كخرير المياه في الجداول ،أسرح مع عذوبة الأغنيات، ثم فجأة تتوقف الماسحتان أحاول أعادة تشغيلهما دون جدوى تزداد تدفقات المياه من أمامي تحجب رؤية الطريق بوضوح ووقت بدء الدوام قد أزف وشتان مابين صورتها بعد دقائق حين تكيل كلمات التوبيخ اللاذعة، وصورتها ليلة البارحة وهي تجثو تحت أقدامي متضرعة باكية لاني هددتها بترك العمل هروبا من قيدها الذي كبلتني فيه ..تخنق أنفاسي ..ترتمي بين أحضاني بجسدها المترهل ..ووجهها السيرامكي الملامح والخطوط تضغط على أصابعي بيديها المعروقتين ..كأنها تمسك أقداري بلا رحمة .


أدلف إلى طريق فرعي بين الأزقة لاختصار الطريق تندفع من أمامي كتلة صغيرة، جسم يتحرك يبدو لي من بين ضبابية زجاج السيارة، أدرك أني اصطدمت بذلك الجسم الذي قفز من أمام السيارة فجأة ولم أتحقق من ماهيته،هل كان سنجاباً أو أرنباً، أحمد الله على أنه لم يكن انساناً أنطلق، ولا أدري أي كائن القيت الآن صريعاً على أسفلت الشارع، أحسست بالضيق رغم وصولي إلى العمل في الوقت المحدد ..

وخزات الضمير رافقتني طوال اليوم ومرارة في فمي تفقدني الإحساس بالسكينة والراحة، وأنا أفكر بذلك الجسم الذي تركته هامدا على الرصيف بعد عدة أيام وصلتني رسالة استدعاء من المحكمة للمثول أمامها بتهمة دهس على الطريق العام.

في قاعة المحكمة كانت السيدة صحبة محاميها تجهش بالبكاء وقد تورمت عينيها وأحمر أنفها وهي تغص بكلماتها وتطلب من القاضي إنزال اشد العقوبات بحق من حرمها رفيقة حياتها الوحيدة منذ سنيين، كاتي الجميلة، قطتها الشيرازية الراقية ذات الفراء الكثيف المنسدل على جسمها بلونها الأبيض وعينيها البرتقاليتين المستديرتين وانفها الصغير.

انبرى محامي السيدة قائلا أطلب يا سيادة القاضي تعويضا ماديا لموكلتي للضرر النفسي العميق الذي خلفه فقدان قطتها الجميلة ورفيقتها المدللة كاتي التي كانت تمارس نزهتها الصباحية في أزقة الحي قبل أن تدهسها عجلات سيارة المتهم الذي يفتقد إلى الرحمة حين تركها ملقاة على الرصيف تصارع الموت ولم يحاول طلب الإسعاف لنجدتها.

أقف مذهولا كيف أصبحت جانيا ومطلوبا للعدالة دون تخطيط سيثبتون جنايتي الحمقاء في ملفي الأمني . وربما أحرم من حقي في الحصول على الجنسية الألمانية، هتف دفاعي بقوة الواثق التي بثت الأمل في نفسي!

ـ هل بالإمكان تعريف المحكمة بفصيلة القطة قال موجها سؤاله إلى صاحبة القطة النافقة

ساد المحكمة صمت ووجوم والأنظار تتجه إلى السيدة كلاين التي اكفهرت سحنتها وهي تتبادل نظرات القلق مع دفاعها أجابت باقتضاب شديد:

ـ قطتي من فصيلة هجينة!

لكن دفاعي كان واثقاً من حججه حين بسط أمام المحكمة أوراقاً صادرة من جهات بيطرية مدون فيها أن القطة من النوع الشيرازي ذات المنشأ الأوربي وينحدر من الأنجورا أي إنها سلالة حديثة وصفاتها تنطبق على القطة المدهوسة من كثافة شعرها لونها الأبيض ولون عينيها البرتقاليتين.

كنت أتابع مندهشا من تلك المرافعة ولم أصدق بعد أني متهم بسبب دهس قطة وعلى بعد أمتار ترمقني صاحبتها بحنق وحقد شديدين وهي تتابع مرافعة محاميها الذي حاول دحض أشارات دفاعي إلى سلالة القطة النافقة

القاضي طلب توضيحا أكثر من دفاعي عن أهمية الربط بين سلالة القطة وحادثة الدهس:

ـ سيدي القاضي إن صفات هذه الفصيلة رأس كبير وسيقان قصيرة مكسوة بالشعر ومعظمها لا يسمع فكيف تسمح السيدة لقطة لا تسمع بالتنزه الصباحي، وحيدة بهذا الجو الممطر؟
وإن موكلي أطلق لها العنان طويلا في زامور السيارة المرتفع الصوت لكنها رمت، رغم ذلك، بجسدها أمام السيارة!

تتصاعد مجريات الجلسة كأني أشاهد فيلما سينمائياً، أقوم أنا بأحد أدواره الرئيسية، يعيدني صوت القاضي إلى قاعة المحكمة برده:
لكن شهادات الشهود تؤكد أن المتهم كان يقود سيارته بسرعة بالغة وسط الأزقة الضيقة.

يجيب محام
ـ نعم سيدي لأنه كان يؤدي خدمة اجتماعية سامية وهل أسمى من رعاية المسنين خدمة؟ ثم أنه كان يخشى التأخر عن خدمتهم في ذلك الصباح.

لم يقتنع القاضي بتبريرات الدفاع وكان قرار المحكمة مفاجأة للطرفين حين أعلن القاضي إلزامي بدفع غرامة مالية للسيدة صاحبة القطة المدللة النافقة، وإلزام السيدة بدفع غرامة مالية لصالح جمعيات الرفق بالحيوان جراء إهمالها وعدم المحافظة على حياة القطة.


من مجموعة أنثى الدفلى








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تحية للأخت الفاضلة فاتن الجابري
كامل الشطري ( 2011 / 3 / 31 - 15:23 )
بيت رعاية مسنين عامل متطوع يعمل فيه يسرع بسيارته للوصول اليه بالوقت المحدد وفي اجواء ممطره تحجب الرؤية يدهس قطة هجينة تكبر المشكلة وتتفاعل تداعياتها وتتحول الى محكمة
مشهد درامي واقعي قد نصادفه في حياتنا اليومية وهو مستمد من واقع البيئة الاوربية والكاتبة استطاعت بخيالها الخصب وحسها الانساني ان تمسك بحلقات القصة والربط الانساني والابداعي بين رعاية المسنين ومعاناة اللاجئ والذي يعمل مقابل اجر يومي يورو واحد في الساعة مجبرآ على عمله من اجل الحصول على الجنسية مع الاخذ بنظر الاعتبارلموقف الانساني بعدالة قرار المحكمة المنصف بغض النظر عن المبررات من قبل سائق السياره وأيضآ من مالكة القطة السيدة كلاين المهمله لقطتها واعتقد بهذا الربط الجميل قد اكتملت الصورة ادبيآ وانسانيآ وكان قرار المحكمة صائبآ من باب الرفق بالحيوان كموقف انساني
مع خالص تحياتي للكاتبة
د. كامل الشطري


2 - السيد كامل الشطري تحياتي
فاتن الجابري ( 2011 / 3 / 31 - 15:44 )
شكرا جزيلا على القراءة والتعليق نعم انه واقع حقيقي ولمحة خاطفة للحياة في الغربة وحجم المعاناة
ارجو ان تكون انت والعائلة بالف خير تحيتي وتقديري


3 - قصة مشوقة
حوا بطواش ( 2011 / 3 / 31 - 21:19 )
استمتعت جدا بقراءة قصتك ومن الواضح انها قصة يمكن ان تحدث في الغرب فقط، وارى ان القصة تصور حالة طريفة من الرفق بالحيوان حيث احيانا يكون اقوى من الرفق بالانسان في بعض الاماكن وفي بعض الحالات... كما ان القصة تصور معاناة المهاجر في دول الغرب بشكل جميل.
تحياتي لك سيدة فاتن
دمت بخير


4 - شكرا حوا سكاس
فاتن الجابري ( 2011 / 3 / 31 - 22:02 )
الاخت حوا سكاس
شكرا لمرورك العطر اسعدني
تحياتي وتقديري

اخر الافلام

.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه


.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة




.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح