الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اغتيال بيت... اغتيال أسرة

دنيا الأمل إسماعيل

2004 / 10 / 21
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


حين وصلت إلى المكان، وكان أثراً بعد عين، كانت الأم غائبة إلى منزل أهلها لترضع الصغير، بعيداً عن أعين المارة، وكاميرات والصحافة. المكان، الذي كان منزلاً جميلاً، له حديقة عامرة بالأشجار الصغيرة والورود الآمنة، لم يتبق منه سوى فوضى مشروعة لقصف آثم، أتم عدوانه في غفلة من أحلام أصحاب المنزل بقضاء العمر بين جنباته.
الملابس التي استطاعت الأسرة والجيران والأقارب إنقاذها من الموت، كانت تتشابك مع الكتب وألعاب الأطفال، وأدوات الطبخ القليلة التي سلمت صدفة من عدوان الظالمين، وكانت الابنة الصغيرة، تبحث في الكومة أمامها عما يمكن أن ينفع فجيعتها.
تجاوزت الأحجار المتراكمة وأسلاك الكهرباء التي أسقطتها جرافات وظيفتها المحببة التخريب، كان هدفي الأول، ربة البيت الذي كان، ولكن لسوء حظي وحسن حظ الصغير عبد الرحمن أنها لم تكن موجودة، فالمكان يخلو من خصوصية تحتاجها الأم من أجل إرضاع وليدها الذي ولد بعد اجتياح مخيم جباليا بيوم واحد فقط،
اقتربت من الأب، محمد سعد الدين( أبو عادل)، كان متماسكاً إلى حد كبير، يلملم ما نجا صدفة من التدمير، يسأل عن الأولاد وعما وجوده من أشياء سالمة من أذى الاحتلال، كان يتحرك وكأنه كان متوقعاً ما حدث، قال لي: هؤلاء مجرمون، لا يعنيهم شيء، سوى التدمير والتخريب والقتل.. الحمد لله أن أسرتي بخير.
سألته عن قصة بيته، فأضاف: هذا البيت هو حصيلة عمري بعد عودتي من المملكة العربية السعودية حيث كنت أعمل لسنوات طويلة، اشتريت هذه القطعة من الأرض، بمساحة تتجاوز قليلاً الدونم، في منطقة جليبو، على حدود مخيم جباليا الشمالية، لكونها منطقة هادئة، وقريبة من سكن عائلتي الكبيرة، بنيتها وزرعت حديقتها على مهل، كانت مشروع العمر لي ولأولادي، وجعلت فيها حديقة زرعت فيها أشجار الزيتون وبعض الفاكهة، وثلاثة نخلات، حملت بشارتها لأول مرة هذا العام، منذ أن زرعتها منذ ستة أعوام وهو عمر سكناي في هذا المنزل، وكنا أنا وأسرتي قبل الاجتياح نتأمل هذه النخلات الثلاثة فرحين بما ستحمله من ثمر هذا العام، كانت سعادة الأولاد بها غامرة، فهذا أول نتاج مزروعاتنا بعد أن بنينا المنزل وأقمنا فيه.
حين بدأ الاجتياح، بقينا في المنزل، لا نخرج إلى الحديقة، فقد كانت الدبابات الإسرائيلية تحيط بالمنزل من الخلف على شكل نصف دائرة، فيما تقف ثلاثة جرافات بالقرب من إحدى الزوايا. كنت خائفاً على الأولاد بشدة، فالرصاص كان شديداً وصوت الطائرات يخرق الآذان، والقذائف لم تتوقف عن إرسال بضائعها إلى الناس ليل نهار، وكان خوفي يزداد مع كل آهة تطلقها زوجتي من آلام المخاض، إذ كيف سأخرج بها إلى المستشفى، وكيف سأترك الأولاد بمفردهم، في المنزل في هذه الأجواء المرعبة، كاد التفكير أن يقتلني، حتى بانت فترة هدوء نسبي، بإمكاني التحرك خلالها، ومن حسن الطالع، أنني أنشأت بابين للمنزل، أحدهما إلى الشارع العام والآخر على شارع ترابي، خرجت من ذلك الباب الذي يودي إلى الشارع العام، وبهدوء قاتل، كنت أشعر فيه بصعود صدري وهبوطه، تسللت أنا وزوجتي والأولاد وهم يرتعدون صمتاً، حتى وصلنا الباب ومن ثم إلى الشارع، حيث كانت سيارة إسعاف أقلتنا جميعاً إلى منزل أنسبائي، فقضينا الليل، وفي الصباح وزعت أبنائي على ثلاثة منازل لإخوتي، نظراً لضيق المكان، وبقيت أنا مع زوجتي عند أهلها، بعد أن جاءها المخاض في الساعات الأول من فجر اليوم التالي، ليرزقني الله بعبد الرحمن.
يستمر أبو عادل، الذي أصبح أباً للمرة التاسعة مع فجر اليوم الثاني للاجتياح، قائلاً: بقيت أنا وأسرتي موزعين على منازل أخوتي وأنسابي طيلة فترة الاجتياح، وكنت كل يوم أمر على البناء، أقضي حاجياتهم وأطمئن عليهم، وأمنحهم مصروفهم الشخصي، وأقضي بعض الوقت معهم وأطمئنهم على أخوتهم الباقين وعلى والدتهم وأخيهم الجديد الذي لم يتمكنوا من رؤيته إلاً بعد أيام، حين سنحت الظروف. في هذه الأثناء حاولت أكثر من مرة الذهاب إلى البيت والاطمئنان على سلامته، لكنني كنت أفشل كل مرة بسبب شدة العدوان، فأسلمت أمري إلى الله، وأنا أقول في نفسي، يفعل الله ما يريد والحمد والشكر له أنني وأسرتي بخير... لكن زوجتي كانت دائما تريد أن ترى الأبناء ودائما ما يأكلها القلق على منزل العمر، فقد تركنا كل شيء على حاله، لم نتمكن من حمل سوى أنفسنا على غير يقين بالسلامة.
مضت الأيام، ونحن كغيرنا من أبناء شعبنا مشردين لعشرات المرات، نتسقط أخبار الشهداء والشهيدات والجرحى/ الجريحات وندعو الله الصبر والعزيمة، حتى بدأ الجيش الإسرائيلي بالانسحاب من جباليا، لكنه قبل أن ينسحب صاعد من شدة عدوانه على المواطنين والبيوت والشوارع، وسمعت خبر اغتيال منزلي من إحدى الإذاعات المحلية، شهقت من الفجيعة، ضربت كفاً بآخر، ضج صوتي بالمرارة، وركنت إلى حزني، لعل الله يمنحني صبراً آخر...
عرفت زوجتي بالأمر، بكت بحرقة سنوات الغربة والشقاء والحرمان، بكت الأمن والاستقرار ومستقبل الأبناء، فبكيت معها عمراً لن يعود واحتسبت عند الله بيتي شهيداً كشهداء البيوت والبشر.
بعد يومين، كانو قد خرجوا محفوفين بلعناتنا وأحقادنا وأشجار انتقام تعملقت في القلوب، ذهبت إلى البيت أرثيه بعينيً، أجول في خرابه، وأشهد الله على المال الحلال الذي ذهب أدراج الرياح.. فوجدت الخراب عاماً، البيوت المجاورة ومقر الاستخبارات العسكرية المجاور، حتى مباني مدينة الشيخ زايد الخالية من حياة ساكنيها المستقبليين لم تسلم من أذى دبابات الاحتلال وجيشه.. حاولت أن أحدد مكان منزلي في هذا الخراب العام، لم أستطع في البداية، إذ وقفت في منزل آخر اعتقاداً مني أنه منزلي حتى تنبهت من الحاجيات التي أخرجها أصحابه، فلم تكن حاجياتي، فظللت أبحث في الأنقاض، حتى وجدت ما يدلني على هويتي وهوية منزلي، حوقلت وتحسبنت، وكبرت غصة في قلبي.
أنا الآن في العراء مع أسرتي بلا مكان يستر خصوصيتنا، بلا مكان لقضاء الحاجة، بلا مكان للطبخ، بلا مكان للنوم سوى خيمة صغيرة، صنعناها من تيسر من أدواتنا القليلة، كما ترين كل شيء مصاب... وزوجتي تضطر في ظل توافد الصحافيين إلى الذهاب إلى منزل أهلها لإرضاع الصغير، وهي بعد نفساء، وتحتاج إلى الراحة وتصر على البقاء في المنزل... أقصد في مكان المنزل... فدليني على عدل يقين أنا وأسرتي من مشاع الشارع وبرد الشتاء القادم








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صورة مفجعة لفلسطينية في غزة تفوز بجائزة -أفضل صورة صحافية عا


.. وسط تفاؤل مصري.. هل تبصر هدنة غزة النور؟




.. خطوط رفح -الحمراء- تضع بايدن والديمقراطيين على صفيح ساخن


.. تفاؤل في إسرائيل بـ-محادثات الفرصة الأخيرة- للوصول إلى هدنة




.. أكاديمي يمني يتحدث عن وجود السوريين في أوروبا.. إليك ما قاله