الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طيور الحقيقة - قصة قصيرة

نضال فاضل كاني

2011 / 4 / 4
الادب والفن


السلطان الهارب
كعادتي ذهبت الى فراشي بعد ثلاث ساعات ونصف – تقريبا - من منتصف
الليل . وما أن وضعت رأسي على الوسادة حتى أخذت الأفكار ، أو كما اسميها ( رؤى اليقظة ) تُحلّق في مخيلتي كما تحلق الطيور في سماء الربيع الرائعة ؛ فأوجست في نفسي خيفه ، فهذه الحالة قد خبِرتُها كما تخبر الأم خلجات أطفالها ، إذ ما أن تحضر فلا مفرّ لي منها ولا مستقر ، أينما أولي وجهي اجدها تجاهي .. تأخذني حينا ذات اليمين وتدفعني حينا نحو الشمال ، وكل مرة تذهب محاولاتي في دفعها أدراج الرياح ، بل أني كلما حاولت ابعادها وجدتها تزداد مني قربا وبي تمسكا . ولا زلت أذكر تلك الليالي التي عزمت على قطع دابرها ، فما كان إلا أجد نفسي معها في كل مرة ، كمركب صغيرة تتلاعب فيه اصابع الأمواج في ليلة تزفر رياحها العاتية ، قرع طبول رعدية ؛ تبلغ من هولها القلوب الحناجر ..
أول من يهرب من فراشي هو النوم ، ينسل بهدوء دون أن أشعر به ويختفي كأنه لم يكن ، حقا إنه لأمر يذهلني ، أوليس النوم هو السلطان على السلطان كما وصفه احد خلفاء بني العباس ؟! كيف يهرب بهذه الطريقة ؟ والى أين يذهب لا أعلم .. وأي سلطان لتلك الرؤى على هذا السلطان ..؟! ايضا لا أعلم .. تضمحل الثواني والدقائق والساعات ، ويصبح الوقت وكأنه نقطة ساكنة لا امتداد لها ، ولا يعود إلي أبدا حتى تغادري تلك الرؤى تماما .. يعود على استحياء ليحتضنني كما تحتضن الأم الجنين بين طيات احشاءها ..
لهذا .. تيقنت أنه ليس لي من سبيل اذا ما حضرتني تلك الرؤى الا التمعن في المراد ، والنهوض من ذلك الفراش وبسط الأوراق وسكب المداد ..
كانت هذه الليلة ، واحدة من تلك الليال .. حيث بدأت تلك الرؤى تترى ، وبدأت ملامحها في داخلي تتجلى ، فلم اتجاوز في تقلبي معها ، إلا الدقائق الثلاث والنصف الأولى . ثم ازحت دثارا خفيفا نستقبل به فصل الشتاء ، وجلست أمام حاسوبي لأدون هذا الإملاء ..

من نحن ؟ وما نحن ؟
- لقد قضيت شطرا من عمرك وانت تسأل عنا ، تريد أن تعرف .. من نحن ؟ وما نحن ؟ أليس كذلك ..
هكذا سألني من حضر بلسان الخبير المُخبِر ، لا المستخبر ..
كاد قلبي يقفز من صدري ، اذ لطالما كان هذا السؤال يلوعني .. حتى نسيته أو هكذا ظننت ..
- نعم بالفعل ، من أنتم ؟ وما تكونون ؟ من يرسلكم إلي ؟ وكيف تجيئون ؟ ولعل الأهم : لماذا أصلا تحضرون ؟ .
بهذه الطريقة أردت أن استغل الحال لأسمع أكبر قدر من المقال ، وليس هذا بدعا مني ، فلقد قيل : إن كليم الله تعالى ، حين سأله المولى جل وعلا عما في يمينه وهو تعالى أعلم . اطال الكليم الكلام ليطول أمد ذلك المقام ..
- فقالوا : أنظر الى نفسك .. أسمع لما تقول .. تفكر فيما تسأل عنه .. وكيف تسأل عنه .. أنت لا تريد أمرا واحدا بل أمور .. ولا تسأل عن شيء واحد بل أشياء ، ولا تقصد غاية واحدة بل غايات .. تريد أي شيء من كل شيء .. أليس كذلك ..؟!
- تأملت قليلا في قولهم وقلت : ربما .. ولكن ما علاقة هذا بذلك؟
- قالوا : بل أكيد ، وإلا لم يكن لنا وجود .
بسرعة خاطفة تردد صدى تلك الكلمات في داخلي ، واثناءها اخذت أتذكر اشياء تؤول مغزى قولهم هذا ..
لقد تذكرت نصا كنت قد قرأته عن نيوتن وتفاحته ، كان كاتب النص يتساءل : كم تفاحة سقطت أمام أعين الناس ..؟ الكثير .. فلماذا لم يكتشف أحد قوانين الجاذبية سوى شخص واحد هو نيوتن ؟ ويؤكد مرة أخرى على السؤال ويقول : لماذا هو بالذات دون غيره كان للتفاحة تأثير فيه بهذا الشكل دون سواه ؟ ثم يجيب الكاتب قائلا : ليس للأمر علاقة بالتفاح بل بالناظر لها، لقد كانت الاسئلة تشغل نيوتن بطريقة منظمة حينا وغير منظمة حينا آخر ، متجمعة حينا ومفرقة حينا آخر .. وكان ذهنه المشغول بالوصول الى معرفة قوانين الطبيعة ، قد استجمع في لحظة ما كل قواه من جميع الزوايا والنواحي ، ولم يكن سقوط التفاحة الى التوقيع النهائي لفصل الأسئلة ، ليبدأ معه فصل جديد وعهد جديد بالإجابات .. فهمت حينها ، ان الشأن ليس شأن التفاحة ، بل شأن الباحث عما لا يبحث عنه سواه ، ويبدو ان هذا هو شأني مع رؤاي .. أنا وبطريقة ما سبب حضورها ..
- رفعت رأسي بعد هذا التأمل ونظرت لها بعين من يريد الاطمئنان ، فهزت رأسها بالإيجاب قائلة : إن كان للحقيقة كبد ، فقد اصاب سهمك المرمى .
شعرت بالرضا ، واجتاحتني رعشة خفيفة من نشوة الحصول على مأمول طال أمد انتظاري له .. أخيرا عرفت شيئا عما يحصل لي .. على الأقل عرفت السبب ، وما دام باب الاجابة قد فتح ، فاني بلا شك سأنال كفايتي منه وزيادة ..
- صدقت .
من جديد .. اكدوا لي صحة ما يدور في خلدي .. ثم قالوا :
- تريد ان تعرف من نحن ؟ وما نحن ؟ ..
حسنا : نحن ( طيور الحقيقة ) .. فانهض لصلاةالصبح فقد فتحت أبوابها ..

طيور الحقيقة
الحقيقة : سماءٌ كلٌ يدعي الاستحواذ على لياليها ، وأنى لاحد ذلك إلا لباريها .
هدهد سليمان أتاه من سبأ بنبأ يقين ، كان طيرا لبشرى الحقيقة بالأمان والايمان ، وفي الطرف الآخر ، حملت طير الأبابيل ، نُذر السجيل ، اهلكت بها أصحاب الفيل ، فأين هذه من تلك ..؟ أم أنها الحقيقة ، بعض طيورها مانحة وأخرى جارحة ..
- إننا لكذلك بالفعل ، لنا مع كل رجال فعال ، ولنا في كل حال مقال .
هكذا حدثتني الطيور ، وهكذا تسري الأمور ..

الحاضر الغائب
التفت فوجدت رفيقي جالسا قريبا مني وهو يبتسم ، فقابلته بابتسامة اكبر
وقلت له : اراك قد عدت ، وعلى غير عادتك تبدو واثقا من نفسك ..
كان ذلك النوم ، قد بدأ يمس اجفاني ويلامس بلطف جنبات اركاني .
قال لي وهو لا يزال يبتسم : ولم لا أفعل ، فانا اشعر بك وقد استقر حالك ، وهدأت عواصف أفكارك ، وقد اوشكت طيورك ان تعود من حيث أتت ..
لم اتمالك نفسي ، انفجرت ضاحكا ، وانا أقول : وهل تعلم انت ايضا بأمر الطيور ؟ هل انا بينكم آخر من يعلم ؟
قال لي النوم : بالعكس تماما ، انت أول من يعلم ، ولو لم تعلم لما أعلم ، من علمك أنت علمت أنا ، ففي النهاية نحن منك وإليك .
توقفت عن الضحك ، وانتبهت لموزون كلامه ، واعجبني جميل بيانه ، فقلت له : لقد أوجزت وأحسنت .
قال النوم : والآن قل لي : هل تتبعني بسلام ، أم تريد ان نتصارع حول الطيور؟
من جديد ، ابتسمت وقلت : بل اتبعك ، اذ كما يقال : اذا حضر الماء بطل التيمم .
وقبل ان اطفئ حاسوبي واذهب الى فراشي مع بزوغ الفجر الصادق وبدء حركة الناس نحو معاشهم ، التفت الي آخر طائر قبل أن يغادر وقال : لقد أتت البداية.
ثم صفق بجناحيه وطار..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - شكر وتقدير
نضال فاضل كاني ( 2011 / 4 / 8 - 05:27 )
الاستاذ حسن شهاب: اين الثرى من الثريا شاكرا تفضلك بالتشبيه المشجع
العزيز توفيق السعد: اخفتني والله ، هل تتحدث عني ام عن غيري ، اعدت قراءة القصة وأنا أقول يا ويلي هل كل هذا في هذا .. ههههه .. دائما اعتز برأيك واتطلع لما بين سطورك التي فيها اتلمس ملامح تصحيح مساري، تقبل كل حبي واحترامي
الاخوان فاطمة العبدلي وسامر صلاح: شاكرا تفضلكم بالمرور والتعليق داعيا لكم بدوام التوفيق


2 - عندما ينزل المطر بمداد الحقيقة
نعم عبد الوهاب ( 2011 / 4 / 9 - 02:45 )
اخي الفاضل عندما ينزل المطر بمداد الحقيقة على القلب ستظهر له طيور الحقيقة اغبطك و ابارك لك فطيور الحقيقة لا تنزل الا للذين لهم قلوب واعية ولم اقول العقل لان العقل ليس الا الاداة التي تجم الوعي من القلب وتحوله الى كلمات ليست كباقي الكلمات انها تنزل كالمطر لمن له اذن واعية في قلبه وسلام


3 - شكر وتقدير
نضال فاضل كاني ( 2011 / 4 / 9 - 07:23 )
الاخت الفاضلة نعم عبد الوهاب
اشكرك على مداخلتك التي لم تخل اشارة لطيفة الى الفرق بين القلب والعقل وهي كلمات لا يقولها ايضا إلا من كان له وقلب وهو يعي ما يقول بوضوح
تقبلي تقدير للمشاركة آملا دوام الصلة


4 - بارك الله فيك
ستبرق محمد ( 2011 / 4 / 15 - 22:44 )
ان الوقوف .............عند تلك الاعمال الفنية والادبية التي ما هي الا ثروة وكنز ونعمة عظيمة هائلة من انعم الله تعالى التي لا يمنحها الا لمن شاء وتكرم ورحم وقرب واحب وحبب سبحانه وتعالى (و من يؤتى الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا ) والتفكر بامعان في عميق اغوار معانيها ودقائق الوصف المتميز لخلجات واحاسيس وسكنات كاتبنا الاكثر من مبدع كما تفضل الاخوان من قبلي والطريقة الفضلى التي اختص بها كاتبنا المتميز في ايجاز الخلاصة والحلول الناجعة التي ما هي الا دواءا لكل داء وسرا من اسرار النجاح والتقدم في كافة ميادين الحياة .......يجد اننا بين يدي احد هؤلاء الرجال الذي تحدث كاتبا عنهم ...الرجال العظام العمالقة الذين استحت الدنيا بكل رجالاتها ومفاخرها وعظمائها من تراب ثار تحت اقدام خيولهم التي لا تغضب الا غضبا لله تعالى ولحرمته وان صالت لا تنال الا النصر المؤيد وان رضيت كان رضى الله تعالى فهنيئا للدنيا واهلها برجالاتها


5 - حقيقة تخبر عن حقيقة
افراح يونس ( 2011 / 4 / 16 - 04:11 )
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
انها قصة ولكنها ليست كباقي القصص، فيها يظهر تضحية الكاتب بنومه وراحته من اجل مقابلة طبور الحقيقة ومعرفة ما جائت به من حقيقة هذه المرة وكل مرة انها تخبر عن روح باذلة متسامية واصلة لاتتوقف من البحث عن الحقيقة فهي حقيقة تخبر عن حقيقة بارك الله بك اخي الكاتب.


6 - رد الكاتب
نضال فاضل البغدادي ( 2012 / 3 / 14 - 16:08 )
اشكر كل من استبرق وافراح على المرور والتعليق

اخر الافلام

.. كواليس أخطر مشهد لـ #عمرو_يوسف في فيلم #شقو ????


.. فيلم زهايمر يعود لدور العرض بعد 14 سنة.. ما القصة؟




.. سكرين شوت | خلاف على استخدام الكمبيوتر في صناعة الموسيقى.. ت


.. سكرين شوت | نزاع الأغاني التراثية والـAI.. من المصنفات الفني




.. تعمير - هل يمكن تحويل المنزل العادي إلى منزل ذكي؟ .. المعمار