الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القنطرة

طالب عباس الظاهر

2011 / 4 / 6
الادب والفن


القنطرة
قصة قصيرة
طالب عباس الظاهر
انتصف الليل وساد سكون مطبق والطريق امامي مازال ضيقاً وطويلاً، واعمدة الكهرباء منتصبة على جانبيه وفي اعلاها المصابيح تشع نوراً خافتاً ، كأنها اضناها السهر واثقل اجفانها النعاس، تصطف متتالية على طول الطريق المظلل بأشجار الصفصاف العالية المعمرة ، فتتلاعب بأغصانها واوراقها بعض النسائم الليلية الرطبة وفي وسط الطريق اسير، اسمع وقع اقدامي على الاسفلت المتشقق ، تسير خلفي اينما اتجه وبصوت مجسم؛ فألتفت الى الخلف والى ما حولي وادور ادور حول نفسي مرة تلو اخرى ،ابحث عن صاحب هذه الاقدام الثقيلة، فأفقد توازني وأسقط معكراً الصمت الجاثم كالموت أو الموت الجاثم كالصمت..ثم ما البث ان اقف بقدمين متعبتين مستطلعاً ، غير اني لا ارى شيئاً سوى السكون في ظلام ليل موحش وخيالي المترنح بجانبي على الارض ؛ فأزداد وحشة من سطوة الهدوء التام في ذلك الليل البهيم وألمح الطريق فأراه ما زال طويلا لا ينتهي ؛ فتكاد تلتقي في نهايته الاشجار والمصابيح حيث ترقد هناك القنطرة العتيقة ببوابتها الحديدية الصدئة.
أهمس لنفسي :
ـ إسمع يا زبالة أفندي..هذه الليلة يجب ان تكون الحاسمة.. لا مجال للمماطلة اكثر اذ لم يبق امامك اي خيار آخر، وعذرك الذي تحججت به في الليلة الاولى غدا الآن باطلاً لأن طيورك لن تموت جوعاً وعطشا كما أنبت ضميرك مشفقا من تحمل وزر قتلها بتلك الصورة البشعة ! فقد تركت لها باب البرج مفتوحا هذه المرة ، وليس كما في الليلة الاولى حينما نسيتها مقفلة، وكذلك الحراس الليليون لم ترصدك عيونهم الماكرة كما في محاولة الليلة الثانية الفاشلة ايضا ، إذ لم تحس الا وايديهم الخشنة تقبض على ساعديك بقسوة ظناً منهم بأنك لص تتخفى ، ولم يطلقوك إلا بعد إستجواب طويل مزعج واخذ التعهد الخطي عليك.
اما الليلة فالامور كما يبدو تجري على أحسن ما يرام والرياح آتية بما تشتهي الســـ .....!
ارفع رأسي المثقل نحو اغصان اشجار الصفصاف الضخمة والمترامية الاطراف ؛ فألمح القـمر مشعاً كأنه يختبئ خلفها بحياء وتكاد تحجب قسماً منه بأثوابها ، اتقدم لأراه يخرج كاملا وهو مازال يطاردني بوجه مشرق جميل .. يبتسم بعذوبة كأم حنون فاض الشوق من قلبها.. اصرخ بألم:
ـ لماذا أنت الليلة جميل هكذا يا بدر؟!
ثم أدندن مع نفسي بحرقة : (يا گمر إشگد انت حلو الليلة.. يابدر ليش انت حلو الليلة..)
انه يحاول عبثاً بفيض اشعته الصافية التسلل الى زوايا روحي المعتمة.. لا فائدة ، فأهمس بصوت مسموع :
ـ إنسَ يا عزيزي فعلام اتفقنا؟
وهل تراه يجدي نفعاً في هذه اللحظات سوى النسيان.. فليحيَ النسيان وليمت سواه..! واتقدم منتشياً راقصاً على انغام موسيقى باطنية ومتمايلا كغصن رطيب مع نسمات السحر فأُتمتم :
ـ سيان أن نحيا أو نموت بالمفرد أو حتى بالجملة.
وترقص معي الاشجار والقناديل وتهتز الارصفة وتستطيل المسافات، فأهمس في سري من جديد :
ـ لأتمتع بها إنها ليلتي .. هذه ليلتي ..نعم؟
هبَّ نسيم منعش من صوب البساتين حاملا معه رائحة المواقد ، وطفقت اغني لحنا قديما ، ولمحت تناثر النجوم على اديم السماء ، كلآلئ عقد منفرط على بساطها المخملي .. كم جميل ان يستمر الليل والطريق الى ما لا نهاية ، مت ايها الالم وانتحري ايتها الاحزان ، أهمس مع نفسي :
ـ إنس يا عزيزي.. ياع ع......!
اجل يجب ان انسى وأحيا هذه اللحظات الرائعة؛ فأخلد معنىً ولو تافها ً .. وإلا فأيّ معنى لبقائي حياً هكذا واستمراري على متن هذه الحياة؟
هناك في تلك البقعة جئت الى هذا العالم وشهدت هذه الاشجار ذاتها صرختي الاولى وفي هذا النهر غسلوني وفيه رموا بسري ، فكانت خشية امي لا توصف من إِنزلاقي كسمكة من بين يدي الجدّة الى الماء تحت سيل من رصاص ردة تشرين.. البيضاء.. السوداء ذلك غير مهم الآن البتة..!
ـ هيا تكلمي أيتها الاشجار وانت ايها النهر، فإن كنت كاذباً فليرجمني الرب بغضب منه..
هاهي مرابع طفولتي ، وتلك بقايا آثار حروف ساذجة خطتها اناملي على جذوع الاشجار؛ فخلف هذا الصف من البيوتات ضاعت ألذ سنين العمر واطهرها.. أنين المصابيح وصوت الصراصر ذاته الذي كان يؤطر ليالينا المعتمة ، اصرخ بحرقة:
ـ أيها الماضي الطاهر اين انت من لؤم اليوم؟! اين بطولات كلبنا العملاق "كردوس" ووفاؤه حتى الموت؟ اين براءة طفولتنا.. بل اين طهر الحياة؟! أربعون عاما.. أحقا انها اربعون! فأي شيء فيها لا يشبه اللاشيء..! والمستقبل اين هو المستقبل؟
ياليتني لم اعش تلك السنين ولم آت الى هذه الحياة.
سأطرق الابواب والشبابيك والجدران، اصرخ بآذان الموت:
ـ هل وجدوا شيئا من بقايانا ، دمعة حزينة.. حلم مؤجل.. أمنية عزيزة.. كركرة بريئة، غافلة عما يضمره غيب هذا المستقبل اللعين..!
اسمع نداءات امي لوجبة غذاء فقيرة "لا اشتهي" كم نطقت بها.. كم نطقت بها... آه.. الآن اشتهي لكل تلك الوجبات التي لم اشتهها لإنغماسي في حمأة اللعب.. اين امي واخي وجدي وجدتي وعمي و..و..؟ اين ذهبوا وتركوني وحيدا في هذا العالم .. تعالوا خذوني اليكم ، فقد ضاقت بي ذرعاً هذي الحياة؟!
كان صوت خرير الماء حينئذ بدأ يعلو شيئاً فشيئاً ؛ كلما صعدت الطريق صوب قنطرة السدة الكونكريتية ، ببوابتها الحديدية الضخمة.. كأن المياه غضبى هنا أو في صراع مستميت فيما بينها او مع كائنات مجهولة ببطون بيضاء لامعة ، ورذاذ الماء يتطاير الى الاعلى ويرشق الوجوه.. بل ويطغى صخب تلاطم المياه أسفل البوابة على جميع الاصوات الاخرى حتى على صوت صفارات الحراس الليليون التي راحت تحتد وتتجاوب فيما بينها وتقترب بسرعة من المكان.. قلت في سري وأنا أصارع موجة بكاء عاتية:
ـ لأنفذ قراري الأخير بسرعة ودون تفكير؟
فارتحت كثيراً لهذا الخاطر خاصة وقد صار الظلام دامساً الآن بسبب غياب القـمر او لتكاثف الاغصان فاستمر في المسير حتى النهاية .
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لحظة إغماء بنت ونيس فى عزاء والدتها.. الفنانة ريم أحمد تسقط


.. بالدموع .. بنت ونيس الفنانة ريم أحمد تستقبل عزاء والدتها وأش




.. انهيار ريم أحمد بالدموع في عزاء والدتها بحضور عدد من الفنان


.. فيلم -شهر زي العسل- متهم بالإساءة للعادات والتقاليد في الكوي




.. فرحة للأطفال.. مبادرة شاب فلسطيني لعمل سينما في رفح