الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من الهيمنة الرمزية إلى أصالة الإبداع .. قراءة في موسيقى المول ل محمود الورداني

محمد سمير عبد السلام

2011 / 4 / 11
الادب والفن


في نصه الروائي (موسيقى المول) – الصادر عن دار كتب عربية بالقاهرة سنة 2005 – يكشف محمود الورداني عن مجموعة معقدة من العلاقات الثقافية ، و الفنية ، و التأويلية بين الوعي الإبداعي للشخصية ، و تناقضات السوق ، و ما تحويه من عناصر هيمنة غير عقلانية ، و انفلات وحدات الواقع في السرد الروائي باتجاه التوتر المعرفي ، أو الثورة المجازية للوقائع الحلمية الوليدة ؛ و هي تكمن دائما في بنية الإشارات الواقعية نفسها ، و تفكك حضورها في سياق تحويل استعاري دائري لعناصر الهيمنة ، و إعادة إنتاجها في التداعيات الإبداعية للوعي الفردي الذي يستمد أصالته من أفكار النهضة الإنسانية ، و الطليعة عن الجمال ، و التجاوز المستمر لسطوة الأبنية الطبيعية ، و الطبقية ، و المعرفية التي تسبق تشكل الأنا ، و صيرورته الإبداعية ؛ و من ثم تزدوج الصور ، و الأخيلة التي تحتل الوعي ، و تفرض عليه عنفا رمزيا يجسد تطرف منطق السوق ، بالإنتاجية النصية المتجاوزة لأحادية الحقائق ، و قدرتها على تفكيك الإشارات الخيالية الصاخبة للسيطرة من خلال استبدال المكون الاستعاري المغرق في الجبرية ، و الوظيفية بالتداعيات الجمالية المجردة للعلامة ، و هي تبدأ و تنتهي في التعددية ، و الاحتمال ، و التحرر الإبداعي للفرد .
يجد البطل نفسه في مواجهة مع المول ، و سطوة إشاراته اللاعقلانية التي تحتلط فيها أبنية رأس المال بأخيلة الحب ، و الموت ، و التمثيلات المجازية للسلع التي تحاكي عناصر الحياة ، و تعاديها في الوقت نفسه ؛ إذ تتشكل من خلال أضواء ، و مواد صناعية ، و عروض فنية تجمع بين تأكيد القوة الغريزية للمول ، و الرغبة المتكررة للفراغ في امتصاص الوجود الفردي للبطل ، و تحويله إلى عنصر سالب مطلق في عمليات التبادل ، و منطقها الجمالي الشكلي .
يفرض المول وجوده – إذا – من خلال النماذج الغرائزية التي تسبقه ، و كأنه مجرد من الفاعلية المستقلة ، كما أنه يعيد تمثيل الحياة بعيدا عن أصالتها الكونية ، و من داخل التفاعل بين إنتاجية الوعي ، و أخيلة المول تتولد إشارات التمرد ، و إعادة اكتشاف الأخيلة التدميرية في سياق جمالي طليعي ، و معرفة احتمالية متجددة تستنزف منطق الشمولية في بنية المكان من خلال اتجاه الصيرورة السردية في النص – دائما – من الظهور الطاغي للصور إلى فراغ ممزوج بالظلمة في تأويلات الوعي ، ثم تكثيف التداعيات النصية المتجاوزة للنسق الأيديولوجي المحرك لذلك الفراغ الشكلي ، و استبداله بلغة تؤكد الأصالة الإبداعية ، و قدرتها عللى توليد الوهج الجمالي من علامات السلب ، أو الفراغ .
و تقوم رواية محمود الورداني على ثلاثة خطوط سردية رئيسية ؛ هي :
الأول : التمثيل المجازي لصور السوق ، و أخيلته القائمة على الممارسات الشكلية العنيفة للتشبيهات ، و مرجعياتها الغرائزية .
الثاني : الاتساع التدريجي للصوت الفردي للبطل من خلال تفكيك مسلمات السوق ، و دمج علاماتها في الصيرورة الإبداعية للسرد داخل الوعي ، و خارجه .
الثالث : الاختلاط بين الإشارات المباشرة لهيمنة أصحاب المصالح ، و التجار ، و ممارساتهم للقهر عبر وسيط (السجن) غير المرئي الذي يقع على هامش المول ، و ما يفجره واقع السجن من رؤى فكرية متباينة ، و أسئلة حول مدلول تلك الهيمنة الخفية ، و كذلك استعادة للأخيلة ، و الاستعارات المتحررة التي تثور على سطوة الفضاء الرمزي ، و تستعيد مرجعيتها الإنسانية المشوهة ، أو المفقودة .
و أرى أن النص في مجمله يجسد فكرة التقاطع بين مجالي النزعات الكلية التي ترد الصوت البشري إلى تناقضات القوى اللامعقولة ، و نطاق الوعي الفردي في اتصاله السري بأصالة النزعة الإبداعية في الكون ، و الواقع ، و المستوى العميق من أخيلة الشر التي تولدها الثوابت الشمولية نفسها .
و يمكننا رصد أربع تيمات رئيسية في النص ؛ هي :
أولا : بين الوجود الفردي ، و سطوة الغرائز.
ثانيا : تناقضات المكان .
ثالثا : توتر الحقيقة .
رابعا : الوظائف السردية باتجاه الوعي ، و إغواء الصور .
أولا : بين الوجود الفردي ، و سطوة الغرائز :
يرصد محمود الورداني الحالة الثقافية المولدة عن تطور السوق المعاصرة باتجاه فرض منطق التبادل المالي ، و هيمنته الرمزية الطاردة لمن يجد نفسه في موقع الهامش ، و بخاصة الباحثين عن استعادة الروح الإبداعية في الأخيلة الذاتية ، و حركية عناصر الكون ، و الاستقلال داخل السياق الاجتماعي .
و يكشف السارد عن التباين الجمالي الشديد في بنية المول بين خلفية الفراغ المظلم الخفية ، و الإبهار التصويري ، و الإغواء المستمر للعناصر الإنسانية بالتحول إلى مادة تبادلية مجردة من الفاعلية ، مثل السلع ، و القطين اللذين يخضعان لقهر الحالات الانفاعلية المفروضة عليهما من قبل الإضاءة ، و كذلك المانيكانات التي تقع ضمن استلاب كامل ، و أحادي في حب شكلي يعلن بصورة ضمنية عن فراغه الخاص ، و خلاعته المجردة من الإرادة الإنسانية ؛ فهو يسقط في دائرة مادية تحاكي الحياة ، دون أن تملكها ، أو تعيد إنتاجها خارج الوعي المبدع للمتلقي / البطل .
إن جماليات المول تحتاج دائما إلى الحياة في الآخر / المختلف ، رغم ممارساتها العنيفة ضده ؛ فهي دائما ما تحيل القارئ إلى خارجها ؛ كي تكتسب حضورها الناقص ؛ فتارة تحاكي تطرف غريزتي الإيروس ، و الموت ؛ كي تفرض منطق السيطرة قبل – الذاتية على الفرد ، و أخرى تعلن عن ظلمتها التي تبدأ ، و تنتهي في شيئية مصمتة ، و معلقة ، تنتظر وعيا مبدعا يعيد إنتاجها في أخيلة لها طبيعة تعبيرية ذاتية ، و هو ما يتناقض مع مبدأ الهيمنة الذي تفرضه تلك الجماليات منذ البداية .
في سياق بحثه عن مقر عمله الجديد يصادف البطل ذلك المول ، و ما يحويه من أضواء ، و صور مغوية ، ثم يتورط في نموذج التلقي السلبي الذي يفرضه المكان عبر انتشار الصور ، و العروض ذات الطابع العدائي للوعي ؛ فهي تشير دائما إلى فرض التبادلية ضمن بنيتها التصويرية الشكلية ، و في هذا السياق الثقافي تختلط النماذج الغريزية للمول بفاعلية الوعي ؛ و من ثم تظل فكرة السطوة المطلقة معلقة بين الاتجاهين .
يعاين السارد عرضا مسرحيا داخل المول تضرب فيه امرأة رجلا سلبيا بالسوط ، بعد إغوائها للمشاهدين ، ثم يعيد البطل إنتاجها في مساحة من السرد يختلط فيها الحلم بالواقع .
يقول :
" خلعت سترتها و قذفت بها نحونا . عادت لضرب الرجل على ظهره بسوطها ، و الرجل يئن بصوت مكتوم ، و خلعت بلوزتها فبدا جسمها مثل نار بيضاء اشتعلت فجأة ... اتجهت نحو الرجل المضرج في دمائه ، و راحت تفرقع بسوطها حوله ... هل أتبعها ؟ ، و هل هي التي لمحتها منذ ثوان قليلة ؟ " ص 14 ، و 15 .
ينقل المول منطقه المباشر في فرض الاتجاه الواحد من السوق العارية المجردة إلى فضاء رمزي آخر ، و هو المسرح ، كما يستبدل قوته الجبرية بالتمثيل الجمالي للغرائز ، دون أن يتوحد ببنيها التي تبزغ فيها الحياة ، و تختفي بشكل حقيقي أصيل ، و إبداعي .
إنه يستخدم قوة ما قبل الضمير ؛ ليثبت بنية السيطرة على المتلقي ، و لكن البطل يحول دوال المول إلى عناصر مناهضة للبعد الواحد في أصغر وحداتها ، و كأن المول يسقط في إغواء الاختلاف ، و التعددية كبديل سردي عن خطابه الأول .
و يمكننا رصد ثلاث مجموعات من الوحدات السردية المشكلة للمستويات العميقة من تيمة الصراع بين الوعي ، و النموذج التمثيلي للغرائز .
أولا : مجموعة الإيروس ( المرأة تخلع الملابس ، و تقذف بها نحو الجمهور / جسد المرأة يشبه نارا بيضاء / جسد المرأة يهتز ) .
ثانيا : مجموعة الموت (تضرب الرجل بسوطها / رعب الرجل ، و جنونه ، و سلبيته / تطرف النار المشتعلة) .
ثالثا: مجموعة تشكيل الوعي للمشهد (الوعي يدرك القسوة الخفية في جماليات جسد المرأة – البطل يفكك شخصية المرأة ، و يخلط بين صورتها ، و امرأة أخرى ، و أخيلته عن زوجته عزة ، و خبر حياة ابنته هند – التي توفت – في مكان مغاير) .
يبدأ السرد إذا بتكثيف الإشارات إلى لامعقولية التمثيلات الرمزية للمول ، و تعزيزها الشكلي للأنماط الغريزية ، ثم يتوسع في تفتيت الوعي لصور المول ، و أخيلته من خلال دمجها في نسيج نصي يتجاوز منطق الأحادية ، و يكشف عن الاختلاف المناهض لتلك المحاكاة المتعالية التي ترغب في تجريد الفرد من هويته الجمالية .
إن دمج النص بين شمولية المول ، و نطاق الغرائز يولد دلالات رئيسية تتعلق بطبيعة كل من الإبداع ، و السياق الاجتماعي العالمي الراهن في علاقته التداخلية بإيحاءات الأدب .
إن مسار الوحدات السردية في النص يعزز من الدمج بين الإيروس ، و الموت ، و يضيف إليه أحادية الضغط الجبري في مستوى ثقافي آخر ، و هو التبادلية الشكلية للسلع ، و كأن ذلك الاندماج في صورته الفرويدية يفكك أي تبعية ممكنة للبنى الاجتماعية المتعلقة بتلك الحالة من توجهات السوق ؛ فالدمج يؤسس لأصالة التعددية ، و التناقض الذاتي الإبداعي ، لا للنزعات الكلية الخفية التي تستند إليه .
يعزز فرويد من عملية الاتحاد المحتمل بين مجموعتي الإيروس ، و الموت ؛ فالأول يوحد الذرات المفتتة للمادة الحية ، و الآخر يعيدها للاعضوي ، و من ثم يكون ظهور الحياة سببا في استمرارها ، و السعي نحو الموت معا ، و يمثل لذلك بموت بعض الحيوانات الدنيا بعد الاتصال الجنسي (راجع / فرويد / الأنا و الهو / ترجمة د محمد عثمان نجاتي / دار الشروق بالقاهرة / ط 4 / سنة 1982 ص 67 و ص 77) .
تؤكد لغة فرويد التأويلية – إذا – تعددية البزوغ ، و التحلل بطريقة تناهض السطحية الأحادية للضغط الموجه على الفرد ، و أرى أن النص يتماس في مستوياته الثقافية العميقة مع نقد ماركيوز للسيطرة التكنولوجية المعاصرة ، و كذلك لغة بودريار التأويلية حول حركية التشبيهات في الثقافة المعاصرة ، و توترها بين التبعية ، و الأصالة الإبداعية ، فضلا عن الممارسات الواضحة التي تتقاطع مع تصور فرويد ، و تعزز من الاختلاف داخل بنية المول في العمل الروائي .
و يكشف السارد عن توتر نماذج المحاكاة في المول بين البحث عن الأصالة ، و مطاردتها بقوة ، و التمثيل المتكرر للفراغ من داخل الدائرية المجردة للأثر الجمالي ، و المعزولة عن حركية عناصر الحياة .
يعاين البطل عرضا من النماذج التمثيلية لمجموعة من الصيادين ، يوجهون بنادقهم نحو الجمهور ، و عليها بطاقة صغيرة تحمل الثمن ، ثم يحاكون عملية الصيد بدقة ، و تعلو أصوات حيوانات غير مرئية ؛ مثل الأسود ، و النمور ، و الدببة ، و القرود .
و يجسد المقطع السابق التطرف ، أو الزيادة في البحث عن أصالة الحياة من خلال التشبيه ، و التمثيل الرمزي للموت الكامن في جوهر عملية الصيد ، و اختلاطها بحتمية قوانين المول ، و أحاديتها في مواجهة المتلقي .
و يعزز التداعي النصي من وسيطين خياليين يقعان بين تشبيهات المول ، و أحلام اليقظة لدى البطل ؛ هما :
الأول : البطاقة التي تدعم وجود وسيط قهري غير مباشر دائما ، و لكنه يحاول اختراق وعي ، و لا وعي المتلقي ، و يعيد تكوين هويته انطلاقا من جبرية الغرائز .
الثاني : الصوت المصنوع للحيوانات ، و يدل على الحياة المعلقة في العالم الافتراضي ، و سخريتها المتكررة من الحياة التي تبحث عنها في تلك التجسدات الناقصة .
و قد تمارس الأشياء ، و العلامات المجازية إغواء للوعي ؛ ليتوحد بآلياتها التصويرية الشكلية ، و لكنه يناهضها بالكشف الخفي عن دلالاتها التعبيرية التي تنبع من أصالة الخيال ، لا من الصور المجردة المبهرة .
يعاين البطل في أحد محلات بيع الملابس الداخلية سوتيانات معلقة على أغصان الأشجار ، أو تقبض عليها ثعالب ، أو ذئاب بأنيابها ، ثم يرصد الإغواء الكامن في بعض مانيكانات العرض ، و حركتهن الصناعية .
إن منطق الإثارة يظل محتجبا في النص رغم تبجحه في العرض ؛ إذ يختلط بالفراغ ، و تمثيلات العدوان ، و الموت الكامنة في أنياب الحيوانات ، كما يسقط إغواء المانيكان في القيود التي فرضها السياق الثقافي للمول على علاماته ؛ فهو مغاير في تكوينة لمانيكان روب جرييه مثلا ؛ إذ يتمتع الأخير بإمكانيات تعبيرية خارجة عن البنى القبلية المطلقة .


ثانيا : تناقضات المكان :
يعاين السارد مجموعة من التناقضات منذ لقائه الأول بالمول ، و إشاراته اللامعقولة ، و تكمن تلك التناقضات في قوة السياق العلاماتي للمول ، و قدرته على فرض منطقه ، رغم أنه يحيل البطل دائما إلى الظلمة ، أو الفراغ ، و من ثم التأويلات المختلفة ، و المتناقضة لهذا التكوين غير المرئي ، و المؤثر في الوقت نفسه .
و من أهم الإشارات الحاملة لدلالة التناقض في النص ذلك السجن الذي يقحم نفسه على البطل ، و مجموعة متنوعة من الشخصيات التي تمثل اتجاهات متباينة في المجتمع ؛ مثل كريم ، و الشيخ مصطفى ، و زوجته ، و اللواء رياض المنعزل ، و الخواجة نيلز ، و لا يعلم أي منهم سبب وجوده في السجن الذي يبدو أنه يقع على هامش المول .
يجمع السجن – إذا – في تكوينه بين البعد الرمزي الافتراضي ، و السطوة المادية ، مثلما اختلطت الغرائز في بنية المول بتطور جمالي بعينه في حالة السوق المعاصرة .
يقول السارد :
" أي سجن هذا ؟ و هل هذا هو نظام السجون ؟ إنني لم أر شرطيا واحدا منذ حللت . إذن هل من الممكن أن يكون سبب دخولي السجن هو عدم دفعي للحساب ؟ غير أن الرجل ذا اليونيفورم سألني في الليلة الماضية : أين تغيبت ، و مع من هربت ؟ " ص 98 .
لقد نبع السجن من السؤال ، رغم حضوره الطاغي ؛ و من ثم فإن اختفاءه يخلف هوامش تأويلية عديدة تسهم في إنتاجها النماذج الشخصية التي اختارها السارد ، و جدل الوعي المبدع مع حالة الأسر الافتراضي .
ثالثا : توتر الحقيقة :
تتحول دوال الذاكرة ، و التاريخ الشخصي للبطل إلى وظائف لها فاعلية إبداعية جديدة في تداعيات النص ؛ فزوجته عزة تختلط بامرأة المول ، و صور الحلم ، و تتعدد مستويات ابنته / هند الدلالية من الوجود إلى الاختفاء ، ثم النشوء الآخر ، أو الولادة المجازية الجديدة ، و الدائرية للذات المتحررة ؛ و من ثم يختلط الواقع بالصيرورة السردية ، و أصالة الوعي المبدع ، و أخيلته في مواجهة خطاب المول الذي تتوتر فيه الحقائق من داخل شموليته ، دون أن تكون التعددية أصيلة في بنيته .
* هند /
تشكك عزة في موت هند ، و تتهم البطل بتسليمها للخاطفين ؛ فهي لم تشاهد دفنها ، بينما يستشرف البطل عودتها ، و يعزز النص من انشطار صورتها بين الفقدان ، و الحياة المجازية المتجددة ، دون حسم واضح ، و كأنه يحيلنا دائما إلى الوفرة ، و الاختلاف المناهض لأبنية السيطرة .
* جثة رجل مجهول /
في سياق انجذاب البطل لإغواء المول ، و المرأة الملتبسة ، يواجه جثة رجل مقتول في حوض الاستحمام ، و يظل الرجل معلقا بين الحلم ، و الواقع من جهة ، و التمثيل المستمر للامعقول ، و تهديد الهوية من جهة أخرى ؛ فهو جزء من بنية المول الغريزية ، و يحتمل التعددية المفتوحة للدلالة كإمكانية كامنة ، و مناهضة لبنية القتل .
رابعا : الوظائف السردية باتجاه الوعي ، و إغواء الصور :
ينتقل السرد في نص محمود الورداني من لحظة الحضور التي تهيمن عليها علامات المول ، و مكوناته ، و الوظيفة التي يجب أن يتسلمها البطل ، ثم السجن ، إلى الطبقات العميقة من الوعي ، و إغواء دواله الملتبسة ، و المؤولة للشروط الوجودية ، و الثقافية للشخصية في سياق من المراحل الحضارية المختلطة ، و المتجددة في تداعيات النص .
تلح على السارد صورة امرأة بسيطة تغويه باتباعها حاملا قفصا ، و أثناء سيره خلفها يصادف ظلمة ، و بابا ضيقا ؛ فينحشر القفص ، و تختفي المرأة ، و يعجز البطل عن الصراخ .
إن الوعي يضخم صورة القفص في الحلم ؛ ليحتوي صورة الأنا ، و يمتص حضورها في سجن مجازي مضاد لإيحاءات الإيروس ، و كأن دوال الحلم تعيد تشكيل التعارض بين جبرية الغرائز ، و منطقها المستحدث في الثقافة المعاصرة ، و الصوت المتمرد الخفي الكامن في الصرخة الاستعارية المحتملة ، كما يجسد تجاور المراحل الحضارية المتباينة في دمج صور الرغبة البدائية ، و المؤتمر الثقافي ، و القفص ، و سجون المول الرمزية ، و غيرها .
و تلح على السارد مجموعة من الصور الحلمية الأخرى التي تتناص مع ألف ليلة و ليلة ، و تشير إلى توتر الذات بين الصيرورة الإبداعية ، و الحتميات القهرية في السياق الاجتماعي .
يعاين البطل مجموعة من العبيد يستوطنون جزيرة ، ثم فرسا أسطوريا طائرا ، ثم يقابل عشرة شباب عور يطردونه من مجلسهم ، فيخرج حزينا ، و يصل إلى بغداد ثم يصير صعلوكا.
يحيلنا السارد – إذا – إلى صيرورة إبداعية أصلية ، و بعيدة عن المركز في مواجهة الحزن الخفي الغريب عن التداعيات الحرة للسرد ؛ إذ يأتي كوظيفة منقطعة عن منطق التحولات الحرة للصورة في المشهد .

رؤية العالم في (موسيقى المول) :
تختلط الإشارات الحلمية ، و النصية – بشكل واضح في موسيقى المول – بالإحالات الطبقية التي تجسد وضعية البطل في المجتمع ، و تأثيرها على الوعي المبدع ؛ و من ثم قدرته على تعديل تلك الإشارات التي يندمج فيها السرد بالبنى الاجتماعية ، و الثقافية .
إن وظيفة البطل في إحدى الإدارات التعليمية ، و وعيه الثقافي ، و قراءاته المتكررة لكتب التراث ، و الفكر ، و تحليلاته للصحف تشير إلى تمثيله الفائق للإنتلجنتسيا ، أو مجموعة المثقفين ذوي الوعي النقدي في توترهم بين البحث عن الهوية الإبداعية ، و خضوعهم الجبري للموقع الأدنى من الطبقة الوسطى ، و مواجهتهم الفكرية ، و التأويلية / النصية لعلامات الشمولية التي تطورت إليها السوق المعاصرة .
في سياق بحثه عن معنى للسجن الوهمي الذي وضع فيه قسرا ، يشير البطل إلى استفحال نفوذ بعض رجال الأعمال ، و تهربهم من الضرائب ، و كذلك نشاط بعض رجال العصابات المتخصصين في نهب الآثار ، و يسقط بعض الإحالات التاريخية على الحاضر من خلال تتبعه لشخصية الخواجة نيلز .
يهيمن خطاب تفضيل المصالح المالية – تحديدا- على تفسير البطل للسياق الاجتماعي ، و لغته النقدية المناهضة لهذا الفراغ التدميري الذي يشبه السجن الرمزي في النص .
و يتماس تفسير البطل مع رصد فريدريك جيمسون للمنطق الثقافي للرأسمالية المتأخرة ؛ إذ يرى أنها تستعيض عن إقفال اللحظة الإنتاجية بالفوائد المتاحة في الصفقات المالية نفسها ، و حرية طفو المال على السطح (راجع / فريدريك جيمسون / التحول الثقافي / ترجمة محمد الجندي / إصدارات أكاديمية الفنون بالقاهرة سنة 2000 ص 129).
و أرى أن النص يعيد تمثيل هذه العلاقات الثقافية الجديدة من خلال لغة تعديلية مناهضة للسطحية الكلية من جهة ، و التأثر بتلك العلاقات من خلال مجموعة من العلامات المنفصلة التي تفرض نفسها على الوعي ؛ مثل المول ، و السجن ، و الملاهي ، و جثة الرجل ، و المرأة الملتبسة ، و غيرها من جهة أخرى .
و يتفوق الجانب النصي العديلي للواقع في الذروة التي تجمع بين الحلم ، و الواقع ، و فيها نعاين عودة هند في صخب ، و اشتعال ، و حلم بولادة متجددة للهوية الفردية ، أو الإبداع خارج منطق السجن الوهمي .
محمد سمير عبد السلام – مصر












التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع