الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إشارة مرور .. قصة قصيرة

أشرف عبد الكريم عبد المنعم

2011 / 4 / 11
الادب والفن


إشارة ..مرور


لم يكن أمامي حل آخر ؛ فهراوة الجندي تحمل تراثاً طويلاً من الغباء وجسدي النحيل لا يحتمل دَفعة منها ، ناهيك عن غباء حاملها في ضرب الرؤوس ، فلم أجد سوى إشارة المرور التي تتوسط الميدان ، صعدتها – أنا الذي عيَّرني كثير من صحبي أيام إقامتي في القرية وقبل الانقطاع عنها للدراسة والاستعداد لاختبارات منتصف العام كان يعيرونني بالعجز أو بالخوف من تسلق نخلة، أية نخلة ولو كان ارتفاعها متراً ونصف ، لكنني تسلقت إشارة المرور الملساء المرتفعة في زمن أفوق به تسلق أسرع القرود لشجرة موز.

كنت أحسن حالاً من كل من شاركوني السير في المظاهرة والهتاف ضد الغلاء وضد الفساد وضد الرئيس فدخان القنابل عندما يصل إلى أنفي يكون قد خفت موازينه فأكون في عيشة راضية ، ورذاذ المياه التي تقذف بالرفاق ككرة الكرنيزة تصلني خفيفة فتكون برداً وصداعاً لرأسي الذي يرتجف من شدة البرد.
كغباء الهراوات كان غباء البرد في أواخر شهر يناير في شتاء ميدان إسماعيل ،ولكن كثرة الدخان واشتعال النيران في كثير من السيارات تحتي لا يشعر المتواجدين بما أحسه من شراسة البرد.

وقفت فوق الإشارة حيث آمن الأمكنة في أوزار الحرب التي قدناها ، أرفرف بعلم بلادي الذي أخفيته في عِبي وأمسكت به بأسناني وأنا أركض بحثاً عن ملجأ .. حتى تسلقت العمود ، ...بعد أن خفَّ دخان السيارات المحترقة كانت القنابل الدخانية قد توارت عن المكان ، لكنني أجد صعوبة في رؤية المشهد نتيجة حلول الظلام.

نام الكثير من الرفاق تحت جنازير دبابات وهبوها حينما وصلت إلى ساحة الميدان وروداً ورفعوا أيديهم يحثونني على متابعة الرفرفة حينما حل الصباح ، هم لم ينتبهوا إلى إعيائي ؛ فلم أجلس منذ الأمس ولم أنم ، فلو نمت مت وضاعت أحلامي و لوقع العلم أيضاً من يدي.

ظل الرفاق يهتفون ويصلون ويُضربون ويأكلون ويعيشون حياتهم وكأنهم ولدوا في هذا الميدان ، حتى أن بعضهم تزوج وربما لو طال بهم المقام لأنجبوا ، فعلوا كل شيء ، لكنهم لم ينتبهوا لي ، أنا المعلق فوق إشارة المرور والراية في يدي ولا تغمض عيني عنها ، ففي الإغماضة – كما تعرفون – موتي .

وضعوا شاشات في مكان عال كنت أميز بالكاد بعض الصور فيها خاصة صورة الرئيس الذي لا أحتاج لكثير تفحص كي أتأكد منها ، فأنا أراها – كما تعلمون – أيضاً أكثر من صورة أبي – يرحمه الله – وأحفظ تقاسيمها أكثر من سورة الإخلاص ، وكانوا كلما أنهى الرئيس حديثاً يرفعون أحذيتهم ويهتفون.

وفي يوم الجمعة نصبوا سماعات كبيرة صرت أسمع من خلالها ما يهتفون به و وبما يتغنون وما يدعون به في صلاتهم.

كان الجميع ينخرطون في الصلاة إلا حاملي الصلبان ( كانوا يستديرون حولهم ممسكين أيدي بعضهم البعض ) وبالطبع أنا المعلق فوق إشارة المرور والممسك بالعلم والذي لم أنم مخافة الموت ووقوع الراية.

راودتني فكرة قبل هذا اليوم ، كي أنهي ارتهاني للسماء ، حينما رأيت البغال والحمير والجمال تدخل ساحة الميدان فكرت أن أقفز فوق أحد الجمال ؛ فلا أرتطم بالأرض ، ولكن كثيراً من رفاقي تعلقوا بجملي الذي راودت نفسي على القفز فوقه وأطاحوا به أرضاً وسلَّموا صاحبه لبعض الجند ، وناديت على كثير من رفاقي تحتي ليجدوا لي حلاً ، لكنَّ أحداً منهم لم يكن ليسمعني .

بعد خطاب شخص نحيف لم يكن هو شخص الرئيس ، لكنني شممت من الصوت حزنه ،.. هللوا .. كلهم هللوا ، وبدؤوا في رفع حواجزهم وأخذ العروس عروسته ، والتقط كل منهم على إحدى الدبابات صورة للذكرى ، وغادروا المكان وبقيت أنا معلقاً ممسكاً بالراية واقفاً في حضن سطح إشارة المرور أخاف الإغماض مخافتي للموت أو وقوع الراية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سكرين شوت | الذكاء الاصطناعي يهدد التراث الموسيقي في مصر


.. الطفل اللى مواليد التسعينات عمرهم ما ينسوه كواليس تمثيل شخ




.. صابر الرباعي يكشف كواليس ألبومه الجديد ورؤيته لسوق الغناء ال


.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة الخميس




.. مغني الراب الأمريكي ماكليمور يساند غزة بأغنية -قاعة هند-