الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تغييب الوعي وأسطرة المزيف في الاعلام العربي

عبدالباسط سيدا

2004 / 10 / 23
مواضيع وابحاث سياسية


ب-موضوع الوجود الاسرائيلي في كردستان العراق:
يبدو أن الدول المجاورة للعراق التي تعاني من العقدة الكردية، ونعني بها تركيا، ايران، سورية، قد هيأت من خلال أجهزتها الأمنية التي تنسق فيما بينها ليل نهار، وتتبادل الخبرات والخدمات والادوات والمعلومات، قائمة اتهامات مفبركة، تدخل في إطار حملتها المسعورة ضد ارادة الشعب العراقي عامة، والكردي في كردستان العراق خاصة، هذا الشعب الذي يريد أن يداوي جراحاته، ويتجاوز تبعات المحنة القاسية التي ألمت به عبر عقود مظلمة هي عمر النظام القمعي الذي كان يقوده صدام وأعوانه.

فقد كانت، وما تزال، الماكينة الاعلامية لهذه الدول، ومعها جملة من أشباه المثقفين الباحثين عن الشهرة والمال وراحة البال فضلا عن الرغبة في اشباع النزوات وتعويض النقص، تؤكد باستمرار ضرورة المحافظة على وحدة العراق وسلامة أراضيه. وكأن قرار التقسيم كان قد اتخذ بالنسبة إلى هذا الأخير، ولم يعد سوى التنفيذ. ولكن بعد أن تبين للجميع أن هذا الزعم لم يكن سوى دجلا وُظف لاثارة الشعوب بعضها على بعض، وذلك بعد أن أكد الكرد - انطلاقا من تحليلاتهم الخاصة – تمسكهم بوحدة الأراضي العراقية قبل غيرهم، اعتمدت الجوقة الاعلامية لدول الجوار المعنية موضوعا آخر بهدف تضليل شعوبها، وفرض حالة من الارهاب الفكري والسياسي في مواجهة اولئك المثقفين العرب والأتراك والايرانيين الذين تمكنوا من خرق قيود الايديولوجيات الرسمية المتبناة، وطالبوا - ومازالوا- يطالبون بضرورة العمل على ايجاد حل عادل للقضية الكردية في المنطقة. والورقة المستخدمة هذه المرة هي تلك الاسرائيلية. ولكن قبل أن نتناول هذا الموضوع نود التوقف قليلا عند موضوع التقسيم، هذا الموضوع الذي ما زال يعد تهمة من قبل الدول المشار إليها، تلك الدول التي تسعى بفعلها إلى خلق انطباع زائف لدى شعوبها فحواه أنها قد أجلت البت في قضايا الديمقرتطية وحقوق الانسان وكرامته، إلى جانب التنمية وغيرها، وذلك نظرا لانشغالها بأمور أخطر من بينها امكانية تقسيم العراق.

وبإعتبار إن تهمة التقسيم ترد باستمرار على رأس قائمة التهم التي توجه إلى الحركات الكردية في الدول التي تضم جزءا من الأرض الكردستانية، لذلك نرى أن الموضوع يقتضي معالجة متأنية بعض الشيء. من المعروف لدى الجميع أن الملامح الأساسية للحدود التي تفصل بين دول المنطقة قد ثبتت بموجب الاتفاقات الدولية الاستعمارية التي سبقت وأعقبت الحرب العالمية الأولى. وقد جاءت مرحلة ما بعدالحرب العالمية الثانية لتؤكد من جديد عملية الاستمرار في احترام الحدود الاعتباطية التي كانت قد وضعت بين الدول في منطقتنا وغيرها من مناطق العالم. وقد ظهرت نتيجة الاتفاقيات المعنية جملة من الدول من بينها الدول العربية. اما الدولة الكردية فلم تظهر إلى الوجود لا لتخلف الكرد أو عدم رغبتهم في ذلك، أو تقاعسهم. وإنما بفعل تناغم المصالح الاستعمارية مع مساعي اقليمية خاصة من جانب تركيا التي كانت ترى في ظهور الدولة الكردية النهاية لتاريخها الاستعماري الذي أرهق المنطقة عبر قرون طوال، وتسبب في تخلفها، هذا التخلف الذي ما زلنا جميعا نعاني من آثاره على مختلف المستويات.

وفي يومنا الراهن نرى أن الحدود الدولية في مناطق النزاع لم تعد تحظى بالقداسة غير المسوغة التي كانت قد أسبغت عليها، لانها كانت ومازالت في الكثير من المناطق ضد إرادة ومصالح الشعوب. ولعله من نافل القول الإشارة هنا إلى ما حصل في مناطق آسيا الوسطى والبلقان،وقبل ذلك في شبه القارة الهندية، ولاحقا في مناطق الشرق الأقصى، ولانعلم ما ستحمله لنا الأيام القادمة من متغيرات. إلا أنه مع كل هذا، يلاحظ أنه بمجرد ظهور أية بوادر في الأفق، توحي بامكانية تخفيف الضغط عن الكرد الذين يعانون اضطهادا مركبا يتمثل في حرمانهم من حقوقهم القومية الديمقراطية، وتعرضهم في الوقت ذاته لظلم ندر نظيره في الكون إن لم نقل انعدم. نقول بمجرد ظهور بوادر أولى تخص حقوق الكرد، تنطلق الهيجانات الشرسة من مكامنها، وترمى الأقنعة جانبا، فتغدو الوجوه هي نفسها، على الرغم من تباين الشعارات والأساليب.
فتركيا التي غزت منذ أكثر من ثلاثين عاما جزيرة قبرص الوادعة، وقسمتها، وأعلنت من جانب واحد قيام دولة لبضعة آلاف من سكان الجزيرة الأتراك، دولة لايعترف بها في هذا العالم سوى تركيا نفسها، ترفض حصول الكرد في كردستان العراق على الحد الأدنى من حقوقهم المشروعة، على الرغم من أن عددهم يمثل على الأقل ربع سكان العراق. كما أنها ترفض الاعتراف بالوجود الكردي أرضا وشعبا في إطار الدولة المعروفة راهنا باسم الجمهورية التركية مع أن نسبة الكرد هناك تصل إلى أكثر من ثلاثين بالمائة لمجموع سكان تركيا اليوم الذي يقارب 65 مليونا. والمفارقة الكبرى هنا هو أن تركيا نفسها تسعى بكل طاقاتها من أجل الانضمام إلى الاتحاد الاوربي الذي تعد مسألة الاعتراف بحقوق القوميات بالنسبة إليه من البدهيات المسلمات التي لايجوز صرف الوقت والجهد من أجل اثبات مشروعيتها.

أما فيما يتصل بالجانب العربي، فما نشهده من أقاويل، واجترار للمغالطات هنا وهناك أمر يثير الاستغراب والامتعاض. فضلا عن الأسى خاصة حينما تقرأ لبعضهم ممن كان يعتقد أنهم قد تجاوزوا عقد التعصب القومي، والتزموا القيم الحضارية التي تمكّن من استيعاب الجميع على الرغم من التنوع والاختلاف. فلبنان على سبيل المثال الذي لايتجاوز مساحته نصف وربما اقل من نصف مساحة محافظة الحسكة يعترف باستقلاله التام من قبل الشقيقة الكبرى سورية، على الرغم من كل القواسم المشتركة التي تربط بين الشعبين في البلدين، بينما يعد ظهور الدولة الكردية المستقبلية خطا أحمر بالنسبة لسورية، وذلك على حد تعبير الرئيس بشار الأسد نفسه وليس غيره. هذا على الرغم من علمه الأكيد وغيره من السياسيين والمثقفين العرب المعنيين بالموضوع أن الشعب الكردي له خصوصية تميّزه عن شعوب المنطقة. وهو شعب أصيل يعيش على ارضه التاريخية التي قسمت والحقت بناء على اتفاقيات استعمارية وليس غيرها بدول المنطقة، هذه الدول التي تتجاوز جميع خلافاتها وتتعاضد بكا امكانياتها في سبيل منع الكردي من بلوغ حقه المشروع السليب.
والأمر ذاته بالنسبة إلى الدول المجهرية في منطقة الخليج على حد تعبير المرحوم عبدالرحمن منيف، إذا أسعفتني الذاكرة. فجميعنا نعلم أن السلطة السورية قد شاركت عسكريا في حرب تحرير الكويت بقيادة أمريكية، هذا على الرغم من كل أوجه الشبه والقواسم المشتركة سواء في التاريخ واللغة والعادات....الخ بين الكويت والعراق، وبين الكويت وغيرها من دول الخليج. ما نعتقده في هذا السياق، هو أن الأمر لايحتاج إلى برهان معقد لنصل نتيجة فحواها أن قيادة حزب البعث في سورية، وهو الحزب الذي يقود الدولة والمجتمع بفرمان سلطاني، كانت تناقض نفسها بنفسها في موقفها ذاك. خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار واقعة كونه حزب انقلابي - بناء على تعريفه هو لنفسه- يدعو إلى الوحدة التي تأتي في مقدمة أهدافه الثلاثة الكبرى، ولكنه فعل ما فعل انطلاقا من المصالح والرغبة في الاستمرار.

ولكن حينما يأتي موضوع الكرد تأخذ الأمور منحى آخر، ويبدا الحديث عن المحرمات المحظورات، والمؤامرات والتحديات والهلوسات وغيرها. وتصبح كل الوسائل مباحة، وتغدو جميع العلاقات مشروعة، وذلك أسوة بصدام حسين نفسه الذي تنازل بموجب اتفاقية آذار 1975 عن حقوق عراقية لاغبار عليها لصالح نظام شاه ايران الحليف الاستراتيجي لأمريكا واسرائيل وغيرهما، وذلك مقابل مساعدته في التخلص من الخطر الكردي المزعوم. هذا مع العلم أن الشعب الكردي لم يكن يطالب سوى بالحد الأدنى من حقوقه القومية المشروعة. والأمر الأغرب من هذا وذاك هو ما يتشخص في مواقف مجموعة من المثقفين العرب ممن يدخلون أنفسهم في خانو المعارضين. فهؤلاء يسلّمون- بناء على دوافع شتى- بالمنظومة المفهومية التي تعتمدها العقيدة البعثية الرسمية في ميدان الغاء الآخر بالقوة وإجباره على الرضوخ لعملية الصهر. وهم بدلا من أن يراجعوا حساباتهم، ويستفيدوا من معطيات التاريخ والجغرافيا، انطلاقا من الإقرار بحق الشعوب، والسعي من أجل مد الجسور معها بناء على المصالح المشتركة، بعيدا عن الضغط والكراه، تراهم يغرفون من الاناء ذاته، ويلوذون بالحجج عينها على الرغم من التناقضات التي يوقعون أنفسهم بأنفسهم فيها. فأحدهم يطالب الكرد بالتمهل والانتظار إلى زمن القوة العربي الذي يبدو أنه - إذا سارت الامور على وتيرتها الراهنة- لن يأتي في الأفق المنظور. ليس هذا فحسب، بل ان صاحبنا يرى أن مطالبة الكرد بحقوقهم تؤدي إلى إطالة أمد قوانين الطوارىء والأحكام العرفية. وهكذا يغدو الكردي وفق هذا المنطق المعكوس مسؤولا عن الظلم الواقع على المجتمع انطلاقا من سعيه في سبيل وضع حد للظلم الذي يحيط به من كل الجهات. إن صاحبنا هذا وأمثاله من الذين تتفتق عبقرياتهم بين الحين والآخر، فتكشف لنا عن مفاهيم واطروحات فريدة من نوعها، يتخذونها عكّازة علّها تمكنهم من التهرب بعيدا عن الاستحقاقات. فبدلا من أن يطالب هؤلاء أبناء القومية الأكبر بالاقتداء بأبناء القومية الأصغر، والمطالبة بالحقوق. وبدلا من الدعوة إلى التواصل والتعامل بين النخب السياسية والثقافية والجماهير الشعبية لمختلف مكونات النسيج الوطني، بدلا عن كل هذا وذاك، يلجأ هؤلاء إلى قطع الأواصر، وإثارة الأوهام والارباكات.

الكردي مطالب دائما وفق منطق هؤلاء المعكوس كما أسلفنا بإثبات حسن النية. فهو المتهم الأبدي بالنزعة الانفصالية، وانسجاما مع مبدأ سد الذرائع، يسكت هؤلاء إزاء ما يتعرض له الكردي من اضطهاد شمولي يتناول الأرض والانسان. بل ان بعضهم يطمس التاريخ ويحور في الجغرافيا، وبعضهم ويشوه الشخصية التاريخية. كل ذلك كي لاتترك للكردي مساحة للتفكير في أمور تهدد المصالح العليا للوطن. واي وطن هذا إذا كانت مصالحه تبنى على شقاء أبنائه. وأية وحدة وطنية هذه إذا كانت قائمة على الإكراه والتهديد والوعيد. إن هؤلاء لايعترفون - عن معرفة في أغلب الأحوال – بكون العامل الأبرز في تعزيز الوحدة الوطنية يتمثل في خلق الحوافز لدى الجميع من أجل التمسك بها والدفاع عنها، أما أن تتحول هذه الوحدة إلى مجرد شعار يرمي إلى التعمية، تستخدمه مجموعة من الناس اختزلت مصالح الوطن في ذواتها لاسباغ طابع المشروعية على سلوكياتها عبر عملية ايهامية توحي بوجود مالاوجود له، فهذا مؤداه تحو ل هذه الوحدة نفسها عاجلا أم آجلا إلى موضوع للتساؤل، خاصة في عالم اليوم الذي لم تعد الامور فيه تمرر هكذا. كما أن الشعارات الفضفاضة قد فقدت مفعولها مهما كانت وهاجة براقة، وعلى وجه التحديد بالنسبة إلى الكرد الذين دفعوا ضريبة النقاء المبدئي بأشكاله المختلفة، الدينية منها والدنيوية. كان المطلوب دائما من الكرد تقديم التضحيات، في حين أن الآخرين كانوا يقطفون الثمار. لتكن الامور واضحة من البداية،الاحترام متبادل، والثقة ينبغي أن تكون متبادلة، والمصالح متبادلة. مطلوب من الكردي كما أسلفنا أن يؤكد صدق النوايا، أما الآخر الذي مارس التعسف، واستمتع بالخيرات، وتسبب في الكثير من المآسي ويتسبب، فهو يبقى خارج إطار العملية النقدية التي يبدو أنها تتمحور حول الكردي وحده. فالخطر في منظور هؤلاء كامن فيه، لابد من عزله، وتنسيق الجهود مع الأصدقاء والخصوم بغية اتقاء الشر الكردي القادم. وبين الحين والآخر لابد أن يجدد هذا الكردي التوبة، ويقدم الوعود ويحلف بأنه لن يستقوي بالخارج نفسه الذي يستقوي به مضطهدوه. وفي هذا السياق تأتي التهمة القديمة - الجديدة بالنسبة إلى الكردي، وهي تلك التي تقوم على زعم فحواه أن هذا الأخير يقيم علاقات سرية مع اسرائيل وأجهزتها الاستخباراتية. وبالتوافق مع هذه التهمة يروج بعض المسؤولين السوريين، ومجوعة من المثقفين الذين لايستطيعون الابتعاد كثيرا عن المؤسسة الرسمية ومغرياتها، إلى جانب العديد من وسائل الاعلام العربية الرسمية والخاصة، يروج كل هؤلاء لادعاء مفاده أن الموساد الاسرائيلي يعمل بنشاط في كردستان العراق. ومن التدقيق الأولي في الموضوع، يتسشف المرء أن المروجين لهذا الزعم لايقتصرون فقط على هؤلاء، بل ان بعض المسؤولين الأتراك عبروا عن بالغ قلقهم من النشاطات الاسرائيلية في كردستان العراق، حتى أن رئيس الوزراء التركي نفسه - العضو في حل الناتو وحليف اسرائيل - رجب طيب اردوغان ناشد المسؤولين السوريين، وطالبهم بضرورة التنسيق والعمل المشترك من أجل مواجهة التواجد المكثف المزعوم للاستخبارات الاسرائيلية في كردستان العراق.

إن متابعة أولية لاهداف وطريقة عمل المروجين لهذه الاشاعات - التي لاتستند إلى أي أساس أصلا- تبين مدى تهافت الاطروحات، وتلقي الضوء على حالة الهيستريا التي تهيمن على الممسكين بزمام لعبة الحكم في الدول الثلاث المجاورة للعراق ( تركيا، إيران، سورية) وهي الدول التي تعلن صراحة أن هاجسها الأساسي هو مناهضة"الخطر الكردي" الموهوم، حتى أنه قد نسب إلى بعض المسؤولين الأتراك قولهم بأنهم ضد أي مشروع لدولة كردية قادمة، ولوكانت على المريخ.

ولكن السؤال الذي الذي يفرض ذاته هنا هو: هل حقا ان المسألة الكردية هي على هذه الدرجة من الخطورة بالنسبة إلى هذه الأنظمة، الأمر الذي يحملها على تجاوز خلافاتها، والتوجه نحو التنسيق المشترك على جميع المستويات؟ أم ان هذه المسألة برمتها تدخل في إطار لعبة التعمية التي تمارسها بحق شعوبها، لتدفعها نحو التزام الانقياد السلبي كي تتفرغ - وفق ما يسوّق أمنيا عبر المؤسسات الحزبية والإعلامية وحتى الأكاديمية – للمهمة الكبر التي يجسدونها في مقارعة الفزّاعة الكردية.

إن هذا الأنظمة على اطلاع كامل بحجم ونوعية المتغيرات الراهنة التي يشهدها العراق، وهي ستكون بالتأكيد أساسا لمتغيرات ايجابية مستقبلية، لن تقتصر على العراق وحده. بل ستفعل فعلها الايجابي لصالح شعوب المنطقة بأسرها. فحقائق التاريخ ومعطيات المنطق إلى جانب مجريات الأوضاع الراهنة في المنطقة، تؤدي بمن يحكّم عقله إلى استنتاج عام خلاصته عدم معقولية بقاء دول الجوار العراقي خارج نطاق عملية التأثر بالتحولات الديمقراطية التي يشهدها هذا البلد، وستؤدي لاحقا - فيما إذا أعطيت فرصتها الكافية- إلى ترسيخ معالم نظام ديمقراطي يكون في صالح الشعب العراقي بمختلف مكوناته القومية ،والدينية، والمذهبية، وسائر توجهاته السياسية. أما الضمانة الأساسية للعملية الديمقراطية برمتها فهي تتشخص في الموقف السليم الذي تتخذه القومية الكبرى من القوميات والأقليات الأخرى التي يتكون منها الجسم العراقي. موقف ركيزته الاعتراف بالآخر، واحترام شخصيته القومية المغايرة، ومد الجسور معه من أجل التواصل والتمازج الحضاريين، الأمر الذي سيؤدى إلى تفاعل الطاقات وتركيزها في مصلحة البلد بدلا عن ضربها بعضها ببعض. كما ان أمرا من هذا القبيل سيقطع الطريق أمام مخاطر التدخلات الخارجية، وسيدفع بالجميع نحو البحث المشترك في قضايا التنمية والتطور وكيفية الاستفادة من الامكانيات، وذلك بغية اللحاق بركب العصر، وتجديد الدورة الحضارية في المنطقة، والاسهام الفاعل في الجهود الانسانية على مختلف المستويات. ومن الواضح أن مشروعا طموحا كهذا سيعود بالنفع على الجميع بأسره، ولن تقتصر ثماره - كما كان يحصل في الماضي – على حفنة الاتباع القاصرين من عبدة السلطة والسلطان. إن الأنظمة المحيطة بالعراق التي تستغل الورقة الكردية بقصد تضليل شعوبها، واقناعها بضرورة الانتظار ريثما يزول الخطر الداهم.
إن هذه الأنظمة تفعل ذلك تهربا من المطالبات التي تلاحقها على مختلف المستويات، فهي أنظمة شمولية مغلقة وإن استخدمت أساليب متباينة على الصعيد الشكلي. إن المحور الرئيس الذي تتمفصل حوله طبيعة هذه الأنظمة يتجسّد في تحكم مجموعة محدودة من الناس- تمتلك القوة العسكرية والمادية- في مصير المجتمع بأسره. وفي المراحل السابقة كانت هذه الانظمة ومثيلاتها في مناطق مختلفة من العالم تستفيد من لعبة التجاذب القطبي. لكن العالم قد تبدل، وبات القطب الواحد ملزما بتغطية ثغراته بدعوات عامة تجذب الشعوب، ومنها الدعوة إلى الديمقراطية ونشر القيم الانسانية. قد تكون هذه الدعوة أو غيرها أداة في إطار استراتيجية عامة ترمي إلى استمرار التحكم بمقاليد الريادة الكونية، وما يستشف من المعطيات المتاحة حاليا يدفعنا نحو هذا الاستنتاج. ولكن مع ذلك فإن مجرد المطالبة بالديمقراطية يثير حماسة الشعوب العطشى التي عانت من المر بمختلف صنوفه، عانت طويلا من أنظمة وضعتها خارج التاريخ، وجعلتها عرضة للفقر والمرض والجهل والمفاسد الاجتماعية بأسمائها الكثيرة. ولكبح جماح هذا الحماس تلجأ الدول المعنية إلى استخدام كافة أوراقها. فتركيا مثلا تحاول استغلال موضوع التركمان، وتسعى جاهدة من اجل اقناعهم بضرورة ربط مصيرهم بها. في حين ان ايران تحاول اقناع الناس بالتخلي عن الولاء الوطني لصالح الولاء المذهبي. بينما تسعى سورية من خلال اللقاءات المتلاحقة مع بعض الزعامات العشائرية ورفاق الامس إلى الإيحاء بقدرتها التحكمية في العراق، وذلك على الرغم من تبدل الموازين والمعادلات. والانظمة الثلاثة نفسها هي التي جعلت من حزب العمال الكردستاني بعبعا لايقهر بفعل عملية تبادل الأدوار بين أجهزة استخباراتها، وهي ذاتها التي تغمز من القناة الجديدة، وتهوّل من وجود مزعوم لموساد اسرائيلي في كردستان العراق.

إن هذه التهمة ليست وليدة اليوم، بل هي قديمة تجدد بين الحين والآخر تبعا لمنطلبات الوضعية ومآرب المروجين. فمع بداية استلام حزب البعث السلطة في سورية بانقلاب عسكري عام 1963، بدأت مزاعم شعاراتية تسوّق هنا وهناك مفادها وجود صيغة من التعاون بين اسرائيل والثورة الكردية في كردستان العراق، تلك الثورة التي كانت قد انطلقت مجددا في أيلول عام 1961. ومن بين الشعارات التي كان ’’الرفاق’’ يرددونها في مناسباتهم الحزبية: ’’ برزاني برزاني بن غوريون ثاني’’، هذا على الرغم من ان هذا الشعار وغيره من تلك التي كانت تتجنى على حقيقة الموقف وطبييعة الحق الكرديين، كانت تثير مشاعر الحزن والاستهجان لدى الملايين الكردية التي كانت وما زالت ترى أن قواسم تاريخية مشتركة كثيرة تشدها إلى جاراتها من شعوب المنطقة، خاصة الشعب العربي. وفي الوقت ذاته يخلو التاريخ الكردي من أي موقف عدائي اتخذه أو مارسه الكرد ضد هذه الشعوب على وجه العموم، وضد الشعب العربي على وجه التحديد ، ومن هنا يكتسب التناقض حدية اضافية تحوله إلى إشكالية ملغزة مبهمة. تناقض بين من يريد التعامل بعقل وقلب مفتوحين لايقدم سوى الود والرغبة الصادقة في العيش المشترك، شرط التزام قواعد الاعتراف المتبادل بالحقوق والواجبات. وبين من يصر على انكار الحقوق بل والوجود أيضا، ويعمل باستمرار على فرض وجهة نظره غير السوية على الآخر المغاير، من دون أن يتورع عن استخدام أقصى درجات العنف.
وعلى الرغم من سائر أصناف التجني والتعدي، لم يخل الكرد يوما بواجباتهم الوطنية، ولم يبخلوا بأي نفيس. والتاريخ يشهد كم مرة أمر البارزاني الكبير نفسه بوقف العمليات القتالية من جانب واحد ضد الجيش العراقي المعتدي، وذلك كي لاتتذرع قيادة هذا الأخير بحجج واهية كان من شأنها خلق حالة من اللبس في الشارع العربي ازاء حقيقة المطالب الكردية.
كما ان التاريخ السوري نفسه يشهد أن سجل التجسس لصالح اسرائيل قد ضم أسماء أشخاص من مختلف مكونات المجتمع السوري ما عدا الكرد، وهذه حقيقة ينبغي أن تكون موضع التأمل لدى الاخوة العرب، خاصة المثقفين منهم هذه الأيام.
إلا أنه مع كل ذلك، وجدنا كيف أن أمين الحافظ الرئيس السوري الأسبق أمر قواته عام 1963 بالتوجه إلى كردستان العراق، وذلك للمشاركة في الاعتداء على الشعب الكردي هناك، بينما كان كوهين في التاريخ عينه يساهم في اتخاذ القرارات مع المسؤولين السوريين بدمشق على أعلى المستويات، ويطلع على الأسرار كلها........
والأمر نفسه أثناء الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982، فبينما كان الكرد يقفون إلى جانب المقاومة الفلسطينية واللبنانية، ويقاتلون في صفوفها وفي وحدات الجيش السوري، انطلاقا من التزاماتهم الوطنية، كان شارون وليس غيره إلى جانب بقية المسؤولين الاسرائيليين يستقبلون بالحفاوة والورود وربما الرز في بكفيا، وغيرها من المناطق اللبنانية، بل وفي العديد من الدول العربية.............
لقد قطعت معظم دول العالم علاقاتها باسرائيل على اثر حرب 1967، لتعبر عن مساندتها للحق العربي والفلسطيني على وجه التحديد. لكن هذه الدول نفسها أعادت تلك العلاقات حينما اكتشفت ان صاحب القضية ذاته قد بنى العلاقات، ومد الجسور وشق الأقنية مع من يفترض فيه أنه العدو الأول. والأمثلة في هذا الميدان كثيرة يمكن للمهتم أن يتابعها ويوازن فيما بينها، ويتأمل ...... إن اسرائيل هي اليوم باعتراف الدول العربية وغيرها جزء من واقع المنطقة شاء من شاء وأبى من أبى. والمسألة الخلافية في منظور المعنيين قبل غيرهم لم تعد تتمحور حول الوجود، بل باتت منحصرة في الحدود. ومن هنا نرى ان دعوات التطبيع قد أفصحت عن ذاتها علانية في المشرق والمغرب، ووجدت صداها حتى في موريتانيا. ومن يستطيع أن ينكر العلاقة الودية الخاصة جدا التي ارتبط من خلالها عاهل الاردن السايق مع الدولة العبرية، شأنه في ذلك شان العاهل المغربي الراحل الذي كان حريصا في الوقت ذاته على استضافة مؤتمرات القمة العربية، خاصة الصعبة منها. وتمكن بفعل خدماته الجليلة من تبوء رئاسة لجنة القدس.... إننا بدلا من أن نوزع التهم الاعتباطية استمرارا في عملية تضليل الشعوب، علينا أن نراجع السجلات الخاصة بنا، لنحدد مواطن الخلل والضعف. فاسرائيل اليوم تتصرف كدولة عظمى، بل إن هذه الأخيرة تنشد ودها. الصين ذاتها حليفة الأمس بالنسبة إلى العرب، تسعى جاهدة من أجل الحصول على التكنولوجيا الاسرائيلية. وكذلك الهند، والقائمة طويلة. هذا في حين اننا مازلنا نشهر سلاح الطوارىء والاجراءات الاستثنائية على الناس عندنا الذين يعيش القسم الأغلب منهم تحت خط الفقر. اننا نفعل ذلك بذريعة اسرائيل التي يبدو انها باتت بالنسبة لانظمتنا الرسمية مصدر الاستمرار، بل ربما انها كانت كذلك منذ البداية.
إن احترام الكرد لقيمهم الوطنية، وإقرارهم بحقوق الشعوب، يفسران إلى حد كبير واقعة عدم اقدامهم على بناء العلاقات مع اسرائيل التي لم تلحق الأذى بهم بصورة مباشرة. هذا في حين أن العلم الاسرائيلي يرفرف في العديد من العواصم العربية، بما فيها القاهرة العاصمة الأكبر. بينما كان الجار العربي الشريك يعلن الأنفال، ويستخدم الكيماوي، وسط صمت كان ومازال يثير الفزع والتساؤل على نحو أكثر رعبا من حملات القتل نفسها. ومع ذلك لم يتبادر إلى ذهن صانع القرار الكردي ببناء علاقة مع اسرائيل على أمل دفع الأذى، وحماية النفس. ولكن مع كل هذا يلاحظ ان حملات التجني والتشويه مستمرة بقصد قطع الجسور أمام تفاهم كردي - عربي على الصعيد الشعبي، يكون اساسا لعلاقة مستقبلية سليمة. إن حملات التجني هذه تتجاهل عن دراية حقيقة التسامح الكردي الذي تمثّل في دعوات المصالحة الوطنية على أعلى المستويات الكردية، تلك الدعوات التي تجسدت في خطوات عملية كان من ثمارها عدم تسجيل أية حالة ثأر أو انتقام من موقع القادر بحق من كانت معاداة الكرد بالنسبة لهم نبراسا. أولئك الذين مهدوا أو شاركوا وأسهموا يصور مختلفة في عمليات القتل والتهجير والتعريب المنظمة، حتى وصل الأمر بهؤلاء إلى قتل الأطفال الكرد بالجملة، أو بيعهم في أسواق النخاسة بمسمياتها المختلفة، وذلك بالتناغم مع الشعار الداعي إلى قطع النسل الكردي الذي كان الهدف الأساسي في حملات الأنفال السيئة الصيت.
إن الواجب الإنساني- قبل اي شيء آخر- يوجب على المثقفين العرب بضرورة العمل من أجل الوقوف على حقائق الأمور، وذلك عوضا عن السير مع التيار اللاعقلاني الهائج الذي يبدد الطاقات، ويسيء إلى المصالح الحقيقة للعرب قبل غيرهم. إن هولاء المثقفين - إذا شاؤوا الالتزام بتبعات الدور الريادي في الميدان الفكري للمثقف- عليهم اظهار الحقائق، وفضح زيف الأباطيل، وكشف هشاشة الأقاويل وتناقضاتها..... أما أن يتحول المثقف هو الآخر إلى أداة تستخدم للتزييف والتحوير والتسويغ، فهذا فحواه في مطلق الأحوال - بصرف النظر عن رغباتنا – بروز ردات أفعال بدعو قسم منها إلى إعادة النظر في كل شيء، بما في ذلك العلاقات والتحالفات، وذلك في مقابل حالات الهلوسة التي تستهدف الدم الكردي بناء على فتاوى تصدر عن رؤوس خلت من أبسط مقومات المجتهد.


يتبع........








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صنّاع الشهرة - تعرف إلى أدوات الذكاء الاصطناعي المفيدة والمج


.. ماذا وراء المطالب بإلغاء نحر الأضاحي في المغرب؟




.. ما سرّ التحركات الأمريكية المكثفة في ليبيا؟ • فرانس 24


.. تونس: ما الذي تـُـعدّ له جبهة الخلاص المعارضة للرئاسيات؟




.. إيطاليا: لماذا تـُـلاحقُ حكومة ميلوني قضائيا بسبب تونس؟