الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رائحة الموت

نجاة زعيتر

2011 / 4 / 13
الادب والفن


تتزاحم الرغبة في الأعماق لمسك القلم في طراوة ممزوجة بحنين ما،مرة يأتيك بعيدا مثل غيمة حجبتها شمس القيلولة و مرة تقترب جارفة مثل لحظة الإعتراف فوق صدر الأم و هي تدخل أصابعها في شعر الرأس...

كم من مرة قلت لنفسك سوف ترفعين القلم و تزيحين رغبة الكتابة،لكنك تشعرين دائما بخوف ما يجعلك تستحضرين مبررات التأجيل.

إرتميت على صدرك تزفرين حريق اليوم بأوحاله و سخافاته،عاودك التيهان من جديد ،تذكرت أن نفس الحالة قد إنتابتك عندما نسيت نفسك داخل الغرفة الصغيرة رغم إنتهاء المكالمة،تفحصتك الأعين بينما أنت في مكانك تنتظرين ما لا تدرين.

حالة غريبة تشعرين بها في أحايين معينة:هي أن تؤمري فتنفذي دون مناقشة،أن يوجهك رأي آخر فتنصاعين دون تحمل مسؤولية ما تقومين به،حتى حين ترفضين أمرا تنتظرين أن يأتي الرفض من غيرك،عندها ترفضينه بدورك و ترتاحين.

وقفت في الطابور،تمسح بقدميك قط أشقر يبدو عليه الجوع و التشرد،تشعرين بضيق و قلق،تمتد يدك إلى ياقة الثوب تحاول فك الزر الأعلى،تدركين الأعين الشاخصة إلى عنقك فتتراجعين عن فكرتك.

تدخلين الغرفة الزجاجية يرافقك القط الأشقر،تحملين السماعة تضعين قطعة النقود تكونين الرقم .لكنك تنسين الرقم الثالث،دائما تنسينه.يغمرك الضباب و صوت قدميه و هو يصعد السلم،يفتح الباب و يدخل ،يشم رائحة طعامها ،تبتسم و هي تضع أمامه صحونها.يقولون أننا ننسى عادة الأمور التي لا تعنينا و التي لا نحب أن نتذكرها،فهل يكون رقم هاتفه أمرا لا يعنيك ترغبين في نسيانه؟

تفتحين المفكرة و تكملين الرقم الثالث،يأتيك الصوت مرددا إسمك.و تفرحين كرضيع لا مست شفتاه حلمة ثدي أمه.تودين لو يكرر إسمك ،لو يضحك و يثرثر،لو يقول أي شيئ و كل شيئ و ليس لديك أنت ما تقولين.

تخرجين من بيتك تقفين في الطابور الممل تدخلين الغرفة الزجاجية،ترمين بظهرك على الحائط الخلفي،يأخذ وجهك لونا موردا تشعرين بذلك من النظرات االقابعة وراء باب الغرفة يلونها الضجر و الفضول.

تمتد يد تذكرك بضرورة الإخلاء،لكنك تسمعين فرحة الصوت تتسع،و تكبر،تشدك إليها،تجبرك على إقتحامها و مراقبتها.ترينها طفلة عابثة تظفر جذائلها و تعقفها بشرائط وردية ليوم العيد و حين ترقص تسابق الجدائل قدميها فتسبقها و تعانق الريح غير عابئة بالأعين المحدقة بها.

الصوت مثقل بالكلمات كأنه يحاول أن يطفئ آخر الجمرات المتأججة في غياهب النفس ،تحترق كلماته فيرمي إليك برماد التقارير المحفوظة عن ظهر قلب:عن عدد القتلى و الرصاص،عن الأمان و الدبابات،عن هجرة الحمام و ضرورة إقتناء بعض الشموع،و كي يرفه عنك سيدندن لك بآخر روائع الشاب خالد ملك الراي!

لكن لماذا تهربين من رغبة الكتابة؟

و تنسين رقم هاتفه؟و تتناسين ورقة الرسم؟

و لماذا تتنازلين للمرأة عن الثوب؟

عندما فتحت النافذة هذا الصباح و أطل وجهك على القبور المتربصة ،تناسيت كل شيئ،حتى ورقة الرسم تلك تناسيتها،إلا حاجتك للتأكد بأنه لا يزال موجودا لن يموت أبدا.

ربما من سوء الحظ أن يجاور بيتك المقبرة،تستيقظين صباحا على أصوات نساء يندبن أمواتهن،و ظهرا تمسين على رجال يحملون آخرين إلى حفر أعدت لأجسادهم المنتهية.

ترين النهاية بكل تفاصيلها تتكرر أمامك كل يوم و على عدة فصول فلا تطيقين الإنتظار،من يدري فقد يكو دورك غذا؟

القط الأشقر يتبعك،يكشر عن أنيابه الصغيرة الصلبة،تفتحين قطعة الحلوى و تضعينها بين أنيابه،يرفضها بإيباء،ربما هو جائع يشتهي حليبا،يتعلق بعنقك و لا يطلب سوى لمسة دافئة تمررينها على ظهره،تشعرين بحاجته إليك وتفرحين:ليس أجمل من تجد من يقبل عطائك بسخاء.

لكن لماذا تهربين من رغبة الكتابة؟

و تتنازلين للمرأة عن الثوب.أكد لها البائع أن لديه الأنسب لها ،لكنها أصرت على أخذ الثوب الذي أعجبك بحجة أنها جاءت قبلك.

هل يكفي بأن تأتي قبلك كي يكون لها و إن كان لا يناسبلها؟

لم تفهمي تعنت المرأة و تمسكها الغريب بثوب لا يناسب سنها و لا قوامها و لا تجاعيدها الزاحفة.

ربما لم تحتمل رؤيته متألقا على جسدك الفتي؟هكذا خمنت و أنت تتأملين جسدك المصقول في المرآة؟شعرت بقسوة تيهك فعدت تظيفين،ربما هي تعبة وهرمة و لا قدرة لها على مواصلة البحث؟

إرتحت لجملتك الأخيرة و لم تسألي نفسك:هل رضخت كعادتك أم أنك تعودت أن لا تأخذي إلا ما يترك لك عن طيب خاطر؟

ورقة الرسم تتمادى في التحديق بوجهك،ظهرك إلى الحائط الخلفي للغرفة الصغيرة،القط الأشقر جائع يمسح رأسه الصغير بقدميك و الصوت يصر على فرحته و سؤاله:

هل من جديد؟

المرأة تبتعد بالثوب،لا جديد فبماذا تجيبين؟

هل تقولين أنك خرجت ووقفت في الطابور وو....لمجرد إسكات رغبتك في سماع قهقهة لا تنبعث منها رائحة الموت؟

أم تقولين أنك قررت أن ترضي كل رغباتك؟

رغبة الكتابة،و رغبة الإستيقاظ ذات صباح فلا تجدين المقبرة،و رغبتك في أن يصغي لحنينك،لو يكسر عناده و لو مرة و يعود بك إلى أرضكما التي تتوسد صدر البحر و تلد الجبل و تعجز عن تدفئة رجالها.

ورقة الرسم تقترب منك،تحمل رسوما كالتي يخططها الأطفال بالروضة،بألوانها القزحية و أشكالها المضحكة البريئة حملها بين يديه و راح يحدثك عن طفل مشاكس بمواهب متعددة،شعرت أن الورقة تتحداك،أن نظراتها القزحية تغمرك،تقفز إلى داخلك،تفرز فيك مادة تجمدك،تحولك إلى ذرات تستعمل في خلط الألوان و رسم أشكال مضحكة بريئة.

عندها قد يتحول شعرك إلى ماس أو فحم أو قلوب حاقدة،ووجهك إلى قمر أو كفن أو حقل من النرجس و دمك ماذا سيكون ؟سوى حقل أقحوان أو ربما شيطان.

ورقة الرسم تقترب منك ،تحدق فيك،لو لم تكن مجرد ورقة لتجرأت على القول أن الرسم يبتسم لك،و أن إبتسامة وديعة تلألأت على أكمام الأقحوان الملونة ببراءة.

رنين الهاتف في أذنك حرونا و الصوت يأتيك محذرا خائفا :

لا أمان لنا لا تخرجي،من خاف نجا.

أبدا لا تصدق من خاف مات كما تموت الجردان في جحورها.

ترى هل تجدين القط الأشقر الجميل لو عدت للبحث عنه؟تساءلت ذرات الشوق بداخلك.ثم عاد السؤال يتكرر بصدى ملتو ساخر:

هل تجدين صدره لك لو رحت تحتمين به من رائحة الموت و صخب الرصاص و القبور التي لا تريد الرحيل و النساء التي لا تنتهي من ندب أمواتها و تجاعيد المرأة التي تتوسلك الثوب،و إبتسامة الرسوم و الحفر الضيقة التي تحاصرك و تمنع وصول الصباح إلى نافذتك،ووهم القامات التي تتملقك تحضر لك إبتساماتها تحصي لك ممتلكاتها،يكاد يغرقك الغثيان و تربئين عن نعته بكل الصفات التي يشمئز منها و يمارسها خلسة عن نفسه.

وتفهمين لماذا تنسين رقم هاتفه و تتناسين ورقة الرسم؟

و لماذا تتنازلين للمرأة عن الثوب؟

لكنك لم تفهمي بعد،لماذا تهربين من رغبة الكتابة و تنتهكين مقدمتها؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كواليس أخطر مشهد لـ #عمرو_يوسف في فيلم #شقو ????


.. فيلم زهايمر يعود لدور العرض بعد 14 سنة.. ما القصة؟




.. سكرين شوت | خلاف على استخدام الكمبيوتر في صناعة الموسيقى.. ت


.. سكرين شوت | نزاع الأغاني التراثية والـAI.. من المصنفات الفني




.. تعمير - هل يمكن تحويل المنزل العادي إلى منزل ذكي؟ .. المعمار