الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


- طعنة -

طالب عباس الظاهر

2011 / 4 / 16
الادب والفن


طعنــة
قصة قصيرة
طالب عباس الظاهر
هبّ عصام مـن نومه فزعاً، حينما رشقت وجهه برودة المياه...نظر إلى وجه أمه بغضب مهزوم، محركاً شفتيه بحروف مرتبكة نمّت عن جزء من لفظة وقحة؛ فلم يحس إلا وحرارة الصفعة تلهب قفاه، وهو منشغل بدس قدميه في (البصطال) الضخم المتخشب، وهو آخر ما بقي له من تركة والده المرحوم لحد الآن، فجرّ خطاه نحو الخارج ببطء شديد، قاذفاً بجسده المتهالك كيفما اتفق إلى ظلمة الزقاق وبرودته القاسية، وهو يتناول بتجديفه أكبر المقدسات، فيدعك عينيه ليزيل بقايا النعاس العالق بعناد في جفنيه...متحسساً أثر الصفعة، فتلاحقه شتائم أمه وكلماتها النابية...عبر وحشة الليل، وسكونه المطبق، ثم يسمعها خلفه وهي تولول:
ـ يروه طويلاً.. ويعدّوه عليَّ رجلا..!!
تعثّر بإحدى قناني المعلبات الفارغة، بعد أن تحركت تحت قدمه، وكاد أن ينكفئ على وجهه في بركة المياه الآسنة، لولا تماسكه بصعوبة في آخر لحظة، وقد دخلت مقدمة حذاءه في الماء القذر، راشقاً بسواده وجه الجدران؛ فارتعبت لخروجه الصاخب بعض كلاب سائبة وقطط في مدخل الزقاق، وهربت مذعورة مـن أمام خطاه الثقيلة بعد أن حدقت بوجهه بذهول، لعلها تعرفه جيداً، وتدرك وحشية أذاه بملاحقتها بالحجارة أينما ذهبت، وقسوة زمالته المشاكسة ، إذ إنه أحد رواد الليل...حيث يأخذه ويجئ به يومياً، منتظرة بفارغ الصبر اجتيازه الزقاق، واندساسه في عتمة هذا الغبش، لتعود لولائمها الدسمة في أكداس القـمامة والنفايات لهذه البيوتات التي يقطنها الآن بعض سياح خليجيون، حيث إن اغلب سكنة الزقاق استأجروا بيوتاً خارج المدينة، ليخلوا لأولئك بيوتهم أو بعض غرف مـنها، بسبب العوز، وخيالية الثمـن الذي يتقاضوه، مقابل سكناهم لبضع أيام أو أسابيع أو تقديم بعض الخدمات لهم، وكلما خرجوا تحيط بهم جمهرة من الناس، ويتهافتون عليهم، ويطنطنون حولهم كطنين الذباب على قطرة سكر...!!
كانت المدينة وما تزال وقتئذ تغط بنومها العميق، حيث إن الشمس لم تشرق بعد، فأحس عصام بالبرد يتسرب إليه، وينسكب كالشلال على رأسه وكتفيه... ويزداد جسده ارتعاشاً شيئاً فشيئاً، ثم يفقد السيطرة على حركة قدميه، بحث في بنطاله المتهرئ عن عقب السيجارة التي ادخرها بالأمس لصقيع هذه اللحظات وقسوتها، فاصطدمت كفه المرتجفة بجسد الحربة الصلب، وهي لم تزل نائمة تحت ملابسه بدفء وسكينة رغم البرد القارس في هذي الساعة المبكرة من الفجر، بل وفي غفلة تامة عما ينتظرها مـن مهمة حاسمة...تمتم مع نفسه بألم:
ـ توقظني لتعود هي فتنام معه...آه لو كان أبي موجوداً...!!
بمثل هذا الطقس البارد، وربما بنفس هذا التاريخ مـنذ سنوات عديدة قتل أبوه، لأنه فرّ مـن الجبهة، ليوفر لقـمة العيش لأسرته، وكان برتبة نائب ضابط، أما هو فقد كان صغيراً حينها، لكنه يتذكر جيداً كيف إنهم داهموهم في ساعة متأخرة مـن تلك الليلة الشتوية الممطرة، وهي ليست المرّة الوحيدة التي يقتحموا فيها البيت ويطوقوه، وحينما حاول أبوه الهرب منهم، بالقفز مـن الشباك إلى سطح الجيران القريب كما في مرات سابقة، لمحه أحدهم فأطلق وأطلقوا عليه النار وأردوه قتيلاً... ساقطاً إلى أرض الزقاق مضرجاً بدمه، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة ، بينما ظلت عيناه شاخصتان صوب بيته وعياله، دون أن يتجرأ أحداً على التقرب إليه، فضلاً عن إنقاذه...وكيف له يا ترى أن ينسى؟ فذاك المشهد الدموي المفزع، ظل يلازمه طويلاً، ومازال يفزعه ويؤطر لياليه الكئيبة بالكوابيس، ولن يُمحى مـن ذاكرته أبداً.
التقطت أصابعه الكبسولة الثانية والأخيرة مما كان يملك...أزدردها بصعوبة من دون أن يفكر بالماء، ثم أشعل عقب السيجارة بعدها، وأخذ يمتصها بلهفة وهو في الطريق إلى المعمل...الذي ما كان ليخرج إليه بمثل هذه الساعة الشتوية الباردة، تحت قسوة إنثيال الزمهرير؛ لولا خوفه خلال الآونة الأخيرة مـن وجود ذلك الخنزير، زوج أمه الجديد ذي الساق الاصطناعية... فهو لا يتوانى عن ضربه، لأتفه الأسباب، وبأي شيء تطوله يداه، خاصة عندما يكون ثملاً...همس في نفسه بحقد:
ـ الكلب يسهر طوال الليل في خدمتهم...وينام النهار، ثم يدعي بالبطولات الخارقة..!!
فكان يتعالى شخيره، ويزعج الجيران، حتى يسمعه كل مـن يمّر في الزقاق، ويبدون استغرابهم أن تصدر كل هذه الأصوات من شخص واحد فقط !
بالأمس صفعه صاحب المعمل... ثم طرده، لكن أمه ذهبت إليه كي يعيده، بعد أن أخذت زينتها بشكل مبتذل، فوافق الرجل على مضض، ورغم المبالغة في الاحتفاء بمقدمها، والحلف بأغلظ الإيمان بشرفها وعيونها؛ ظل يتأفف مردّداً وهو يسلّمه المفتاح:
ـ ابنك لا ينفع لأي شيء...!!
ـ .........................!
هي ليست المرّة الأولى التي يمدّ يده على عصام، وقطعاً فلن تكون الأخيرة... خاصة إذ استمر هذا بالإصرار على رفض مـناوراته القذرة وصدها، ترغيباً وترهيباً، وهو يعجب أن يكون لواحد مثله هذا الثبات...بيد إن مجيء أمه للمعمل، ومـن ثم توصيتها في ضربه...قد شجعه كثيراً، وأعاد له إلحاح رغبة كادت أن تأفل فيه في الآونة الأخيرة... وبعدما صدت مراراً، إذاً فهو مستعد ـ كما يبدو مـن الموافقة ـ على تكرار المحاولة معه مـن جديد، وذاك ما تشي به نظراته الخبيثة المتوعدة، وابتسامته الفاترة البلهاء، وهو يشير بشكل غير مباشر لذلك، مـن خلال شكواه مـن عناده وعدم طاعته، ولعلها فرصته في التمادي بالضغط عليه...ومـن ثم امتهان كرامته، واستغلال قفاه، لتفريغ غضبه، بسبب ومـن دون سبب...لذلك فلابد مـن الانتقام، قال عصام ذلك لنفسه بتحدٍ، وضغطت أسنانه بقوة على شفته السفلى...بل كادت تدميها.
كان قد بيّت النية هذه، ونام عليها، بعدما داولها طويلاً في خياله ليلة أمس، وعيناه تجوسان الظلام قبل أخذه الكبسولة الأولى، ومن ثم استسلامه للنعاس، متدثراً بأغطيته القذرة وينام، مـن قبل فزعه برشق أمه للماء في وجهه، وهو يغطّ بألذ وقت للنوم، وهو يحسب بأن لحظة فقط هي ما فصلت ما بين إغفاءته واستيقاظه، لذلك كان يداهمه خدر النعاس، كلما جلس بانتظار امتلاء الإبريق بالماء... لرشه على أرضية المعمل المتربة، ومن ثم كنسها وتنظيفها، وهو يترقب اللحظة الحاسمة ليدسّ الحربة في بطن صاحب المعمل، ذلك البطن المـنتفخ كالبالون، بعد أن استقر رأيه بخداعه، من خلال إعلان الموافقة للصعود معه إلى المخزن قبل قدوم العمال، ولن يطرد صورته المقيتة التي ارتسمت في خياله، وهو يفترس اللحوم، وكل ما يأتي له بها مـن أطباق الفاكهة والحلويات.. ثم وهو يقتعد مكتبه بغطرسة، وما ينفك فاهه بالحركة والدوران، وهو يجتر بقايا الطعام طوال ساعات النهار داخل زجاج غرفة الإدارة المكيفة، التي طالما عانى مـن غسلها وتنظيفها اليومي ومسح زجاجها، فيومئ على العمال، ويلبون صاغرين كالعبيد، لا يفرق بين كبير مـنهم أو صغير... في ظل بطالة متفشية بين الناس لا يمكن تخيلها.
أحسّ بشراهة نهش أنياب الجوع في خواء معدته في هذه الأثناء...ثم عاودته أشباح البؤس لتلك الحقبة التي تشردوا فيها... هو وأمه وأخوته، بعد حادثة مقتل أبيهم، ومطاردة أوغاد السلطة لهم، واستغلال بؤسهم، ومـن ثم إجبارهم على دفع ثمـن الرصاص الذي أطلقوه... رغم عوزهم واقتياتهم على ما تقذفه المطاعم مـن بقايا الفضلات... بعد إقفال المحلات ليلاً، وبكاء أمه وتوسلاتها بين أيديهم أن يكفوا عن استدعائها المتكرر للدائرة، والتناوب على التحقيق معها، بدواعي ملئ الاستمارات، أو طلب المعلومات الأمنية...!!
وقد استحضرت عصام الصورة المشرقة للبطل السينمائي الذي شاهده في فلم الفيديو، بإحدى صالات العرض أخيراً، مع نفر من أصدقائه من شبه متسولين ونشالين وصناع حرف قذرة، فأعجبه كثيراً، وأحبه أيضاً، لأنه أثلج قلبه المحموم، حينما راح ينتقـم مـن الأوغاد... أفراد العصابة التي اعتدت على عائلته...أمه وأخواته، ثم أبادوها...عندما كان صغيراً لم يبلغ بعد سن الحلم، متربصاً بهم واحداً تلو الآخر.. حتى أتى البطل عليهم جميعاً، بعد أن مرّغ أنوفهم بالتراب، فلم ينجو الكرسي الذي كان يجلس عليه في صالة العرض مـن قبضته، فأقتلع مسنده، في خضم انفعالاته مع تصاعد أحداث الفلم واحتدامها، ومع تأجج وتائر التصفيق والصفير، وهياج الحماسة عند المتفرجين...!!
وهو يستذكر مصرع أبيه، ومشهد دمه المسفوح على ارض الزقاق، وصلافة تلك الوجوه البشعة... بملابسها الزيتونية، وأحذيتها الحمراء، وهي تمعن في الجريمة بغطرستها المعهودة، متبجحة بدواعي خستها... فراحت أصابعه تدّب كحيوان غريب تحت ملابسه، وتتحسس وضع الحربة... الممتدة بمحاذاة ساقه، وهي لم تزل للآن ترقد مستسلمة في مكانها... باطمئنان وهدوء ودفئ لذيذ، وسط هذا الخضم القاسي للبرد الشديد، وزمهرير الشتاء، والتي استعارها مـن أحد رفاقه، وهو مـن أصحاب السوابق، بالخبرة والتمرس، لينجز بها هذه المهمة، وهو ذاته الذي اشترى عصام مـنه بالأمس الكبسولتين... فأي شيء سيخسره وهو حتى مـن النوم لم يأخذ كفايته، وقد حرّضه ذاك كثيراً...بطريقة الاستهزاء به والسخرية مـنه... قبل أن يضعها في يده بتحدٍ سافر، مما أضحك الآخرين، لإشارته الخفية إلى عجزه، وقد كان هذا فخور بدخوله سجن الأحداث، وقضاء ما يزيد على السنتين مـن حكمه هناك، وهو يحدثهم بإسهاب عن ذكرياته ومغامراته... إلا انه خرج بقرار العفو الأخير، وبدا كأنه آسف لخروجه، وها هو بينهم و(يتشيطن) عليهم.
أعاد عصام تحسس الحربة بهدوء في بادئ الأمر...ثم راحت أصابعه تعتصر قبضتها بقوة مـن خلف الملابس... لكي يطمئن بأن الخطة التي رسمها لنفسه، وإن مرّت ببعض التردد أو الخذلان... إلاّ إنها ما زالت تسير سيرها الحسن، من أجل وضع حداً لمعاناته المستطيلة هذه...إلا إن استطالة الزمـن لاريب تعمل على إحباط الخطة، كلما تقادمت خطى الزمن، وها هو يتحين دون وعيّ مـنه... قدوم الفرصة المـناسبة، ليحسم الأمر الذي عذبه كثيراً، بالانقضاض على غريمه وطعنه... الطعنة القاتلة التي تشفي غليله، ووتائر الحقد مستمرة في الصعود والغليان، بانتظار لحظة الانفجار، وقد ضغط أسنانه بقوة... وشفتاه ارتجفتا...!!
فتشنجت أعصابه، حاول سحبها بغضب مـن تحت بنطاله... وبكل البؤس الذي يعتمل في صدره، الذي تفجرت حممه فجأة دون إرادته، رفعها كي يهوي بها عليه.. فلم يحسّ إلا بصفعة هائلة، كالطعنة مـن الخلف تهوي عليه، فتذهله وتلهب قفاه... وصاحب المعمل يصرخ في وجهه بجنون:
ـ ابن الكلب... أين أنت... وماء الحنفية يغرق المعمل؟!!
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بالدموع .. بنت ونيس الفنانة ريم أحمد تستقبل عزاء والدتها وأش


.. انهيار ريم أحمد بالدموع في عزاء والدتها بحضور عدد من الفنان




.. فيلم -شهر زي العسل- متهم بالإساءة للعادات والتقاليد في الكوي


.. فرحة للأطفال.. مبادرة شاب فلسطيني لعمل سينما في رفح




.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص