الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال (التجربة العراقية)

سلام عبود

2011 / 4 / 20
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


هذه المواضيع المتسلسلة جزء من الفصل الثامن من الباب الرابع من كتاب (المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال. العراق نموذجا). يحاول الكتاب تفسير الواقع الثقافي انطلاقا مما هو واقعي (الممارسة والنص)، ويسعى الى تغيير الصورة النمطية، المرسومة بواسطة ثقافة الإشاعة، التي اعتادها الناس عند تصنيف وتبويب الجماعات السياسية والفكرية، من دون النظر الى مقدار صدق الصورة وحجم التغيير الذي تركه تبدّل الأحوال عليها. لا يُعنى هذا الكتاب بالخلافات النظرية والحزبية والأشخاص، بل يجعل من التوثيق، وليس التصورات السياسية والأحكام النظرية والعواطف، الناظم البنائي لمنهج بحثه. أما السؤال الرئيسي الذي يحاول الإجابة عنه فهو: هل كان ضمور التيار الديموقراطي والشيوعي سببا أم نتيجة؟ أي هل كان تماهي التيار الشيوعي مع الاحتلال والطائفية والمشاريع العرقية والميليشاوية سببا في انحسار قوة هذا التيار وفقدانه دوره الطليعي والرائد وفي تقوية المساحة التعبيرية والثقافية والسياسية للقوى المحتلة والطائفية والعرقية والعشائرية وقوى الفساد والتكفير، أم العكس تماما: هل كان ضغط هذه القوى هو الذي دفع هذا التيار الى التماهي مع الواقع المظلم والمتخلف، حتى غدا ملحقا هامشيا فيه؟ وفي كلتا الحالتين يظل السؤال الجوهري قائما: لماذا حدث هذا؟ وهل ما حدث كان قدرا مرسوما من أعلى بقوة غيبية أم انه نتاج لأزمة داخلية؟ قد تختلف الإجابات عن هذه الأسئلة، لكن حقائق الواقع المائلة أمامنا ستظل دليلنا الوحيد والدامغ، الذي يشير على نحو بليغ الى حجم الدمار الذي لحق بالوطن والمواطن والحياة الاجتماعية والروحية عامة، بما في ذلك حاضر ومستقبل التيار الوطني الديموقراطي العراقي.

1- فقدان البوصلة العقلية
قائمة الصدمات والمعضلات التي عاشها الحزب الشيوعي العراقي ومناصروه طويلة وشاملة، مسّت جوانب الحزب السياسية والتنظيمية والعقائدية والدعائية كافة، باستثناء ثلاثة أمور سلمت تماما من أثر الهزة العميقة، التي رافقت الاحتلال، هي: اسم الحزب، وشعاره، وأوهام المكانة الجماهيرية، التي خسرتها القيادة الحزبية، في أول انتخابات أعقبت فشل الحزب في الاحتفاظ بمناصبه الحكومية.
بعض هذه المعضلات والصدمات، التي بدت للمراقب الحريص على تطور الحركة السياسية العراقية محزنة ومكدرة، كانت مصدر غبطة للكثير من قيادات الحزب، الثقافية خاصة. لأنها نزلت عليهم مثل هبة سموية، جعلتهم يتخلصون بها من ورطة السير منفردين من دون يد حامية ممثلة بالأب الأكبر، ومن دون حاضنة حنون ممثلة بالأم الأممية. ولهذا السبب أضحى بعض المثقفين الشيوعيين يشعرون شعورا حقيقيا بالحرية، وبالامتنان للاحتلال، الذي وهبهم فرصة ذهبية للتخلص من كابوس سجنهم الداخلي المرعب وتناقضاته المستعصية. بيد أن هذه الضربات العنيفة كانت موجعة حقا على المستوى الجماهيري، لأنها جعلت التنظيم الحزبي يتناثر مزقا ، فكريا وسياسيا، في ظل فوضى الحرية واضطراب القيم، التي فرضها الاحتلال.
بهذه الفوضى انكشفت للجميع، على نحو جلي، قصور القواعد السياسية والتنظيمية والتربوية التي بُني الحزب عليها ودرّب أعضاءه على ممارستها واتخاذها نهجا لحقبة مديدة، وانكشفت على نحو بليغ آثار التحجر القيادي ومارافقه من ضعف في الاستقبال والمعالجة، التي تحدثت عنها أجيال عديدة من منتقدي إخفاقات الحزب على مر العقود الطويلة المنصرمة. فجأة أمسى المثقف الشيوعي، الذي تربّى على البسملة بشتم الإمبريالية الأميركية، يرى نفسه مرغما على متابعة شهادات التزكية والتقييم التي يقدمها الحاكم الأميركي المحتل لقادة حزبه. وفجأة وجد نفسه مرغما على الجلوس الى جوار من كانوا ينعتون بإصرار وتعال "أفيون الشعوب" و"الطابور الخامس". وفجأة وجد أن شهداء مقاومة الاستعمار، الذين اعتاد أن يختتم بهم إنشاءاته السياسية، يُحشرون في زمر الإرهابيين والقتلة ومثيري الشبهات. كانت صدمة الشيوعيين أكبر من غيرها. لكن الصدمة الحقيقية كانت صدمة الأعماق، التي كشفت أن التربية الشمولية والميول الحزبية الخاطئة سلبت من المواطن الشيوعي إحساسه بطعم الوطن، وأن التغني بالشعارات والوصفات الحزبية الدعائية الجاهزة سلبت من مثقفه نعمة الثبات والاستقلال الفكري، ومن متعلمه حسنات البحث الأكاديمي التقليدي، التي تمتع بمزاياها أكسل طالب علم في أردإ جامعة موجودة في البلدان الرأسمالية. فجأة وجد المثقف الشيوعي نفسه حرا بكل معاني الكلمة، حرا من كل شيء، من ماضيه، من حاضره، من مستقبله، من أفكاره وايديولوجيته، وحرا حتى من نفسه ومن إرادته وضميره. لذلك راح يسبح بطريقة مثيرة في تيار فوضى الحرية، التي حملها الاحتلال معه بديلا من ثلاثة عقود ونصف العقد من مركزية الديكتاتور.
ولكن كيف حدث هذا الانقلاب المفاجئ؟
لقد جرى تشويه متعمّد لمجرى التحول في الموقف الشيوعي وصلته بموضوعات السلطة والحرب، ثمّ الاحتلال. قام بهذا التشويه فريقان. الفريق الأول أغرق الحزب وأنصاره ومثقفي اليسار عامة في اتهامات تلفيقية، بتأثير ميول بعثية مستترة أو علنية، ناكرا وجود جدل عنيف في صفوف الشيوعيين وأنصارهم، مستسهلا إتهام الجميع بالخضوع للسياسة الأميركية ولمشروع الحرب والاحتلال. أما التيار الثاني، فهو تيار إنكاري قاده الإعلام الرسمي للحزب الشيوعي، الذي ألغى بدوره وجود جدل وصراع داخلي من جهة، وأنكر وجود تحول باتجاه القبول بسياسة الحرب والاحتلال. وكلا الفريقين كان مجانبا للصواب. وفي وقت لاحق، حينما أصبح الاحتلال أمرا واقعا، نشأت قيم إنكارية سافرة، بيّنة الفساد سياسيا وعقليا، لم تكتف بإنكار وجود الجدل الداخلي أو الخلاف، ولا بإنكار صراع الأفكار فحسب، بل أنكرت معها الأساس المادي والسبب المباشر لهذا الصراع: الاحتلال. فقد راح متنفذو الحزب ينفون حتى شرعية النضال السلمي والمدني في مواجهة للاحتلال، معللين موقفهم بأن مقاومة الاحتلال غيرمنطقية، لأنه لا يوجد إحتلال بالأصل، وأن القوات المحتلة الموجودة في العراق هي قوات جاءت لخدمة الشعب العراقي بناء على طلبه. يقول القيادي الشيوعي ووكيل وزارة الخارجية لبيد عباوي: العراق" ليس بلدا محتلا ، وأن وجود القوات جاء بناء على قرارات الشرعية الدولية وان مهمتها الاساسية مساعدة القوات العسكرية"، من تصريح على هامش اجتماع لجنة التعاون والتنسيق الأمني ، دمشق في 15/04/2008.
لم يتوقف أنصار الحزب الشيوعي عند انكار وجود الاحتلال، بل ذهبوا بعيدا وأوغلوا في الحط من إرادة الشعب وتفكيره ووعيه وفي التقليل من أنفسهم أولا وقبل كل شيء. يقول كاظم حبيب في مقالة عنوانها "هل المظاهرات هي الطريق لتصحيح خطأ ما في العراق؟":
"في هذا الظرف بالذات حيث تقوم الحكومة العراقية بعملية واسعة لمواجهة مختلف أطراف قوى الإرهاب في العراق ومن أجل استعادة أمن بغداد خصوصاً والعراق بشكل عام, لا يمكن التفكير, كما لا يجوز القبول, بتسيير مظاهرات واحتجاجات واسعة وتعبئة الناس أياً كان السبب وراء تلك المظاهرات الاحتجاجية, إذ أنها تشكل إخلالا في قلب العملية ولا تسمح بممارسة المهمات بشكل عقلاني ومحايد"(الحوار المتمدن - العدد: 1840 - 2007 / 2 / 28 )
قد يتبادر الى وعي القارئ أن شذوذ الحجج السياسية التي نادى بها حبيب متأتية من إنكاره حق التظاهر السلمي كوسيلة شرعية لتصحيح الأخطاء، التي صيغت بطريقة توحي كما لو أنها صورة مستنسخة من خطاب ديكتاتور حاكم، مختل العقل. بيد أن دراسة ظروف كتابة المقال تبين لنا ما هو أعمق من هذا بكثير. فحبيب كان يخاطب طرفا سياسيا محددا، وينصحه بعدم القيام بالاحتجاج السلمي بحجة الظرف الأمني وسلامة المتظاهرين. ما هو عجيب في هذه النصحية أنها كانت موجهة الى الجهة الآكثر تنفذا آنذاك أمنيا وميليشاويا، الجهة التي تسيطر على أجهزة وزارة الداخلية وفيلق بدر: المجلس الأعلى. ومن تناقضات هذه الخطاب أن الكاتب نفسه ثمّن قيام الحزب الشيوعي (الذي لا يملك شرطيا واحدا) بحشر مثات الأطفال الأبرياء والعوائل في ملعب ضيق مغلق عند الاحتفال بذكرى تأسيسه. جرى ذلك في الحقبة عينها، وفي الظرف الأمني عينه، وفي واحدة من أكثر مناطق بغداد خطورة. هذا الخطاب المتناقض هو ما نعيه بفقدان البوصلة العقلية والسقوط في ثقافة الفوضى.
لقد وصل الخطاب السياسي المتماهي مع سلطة الاحتلال الى مستويات واطئة جدا، وما عاد النقاش أو الحوار معه يجدي نفعا، بل أضحى معضلة حقيقية تورث الاحباط والحنق. لأن هذا الخطاب ابتعد تماما عن قوانين المنطق البشري السوي وغرق جملة وتفصيلا في آمال تجارية موهومة وزائفة. ومن هذا يتضح للدارس عمق أزمة هذا الضرب من الممارسة الشيوعية الغريبة. فهي لم تكتف بنبذ النضال بكل أشكاله، بل هي مسؤولة أيضا عن جعل مقاومة الاحتلال احتكارا "إرهابيا" خالصا، مُنح للقوى الظلامية والتكفيرية مجانا. وتلك جريمة وطنية وسياسية لا تغتفر.
كان الجدل قبل الاحتلال قائما، لكنه لم يكن قد طفا على السطح، ولم يتبلور تيارا ضاغطا قبل مؤتمر لندن 2002.
كانت بوادر الصراع تمدّ برأسها على نحو خفي وخجول في هيئة أخبار متفرقة، غير مؤكدة، تتحدث عن وجود دورات تدريبية إعلامية واستخبارية يشارك فيها شيوعيون، تارة في المجر وأخرى في أميركا أو غيرهما. ومع اقتراب موعد انعقاد مؤتمر لندن تزايد بشكل ملحوظ النشاط الرامي الى إصدار مذكرات وبيانات وقوائم أسماء تحاول استمزاج شرائح المثقفين الشيوعيين والديموقراطيين المستقلين للتأكد من طبيعة مواقفهم. ولم تكن هذه البيانات واضحة القصد، لكنها كانت، في الأغلب، تصطدم بفكرة الأغلبية المناوئة للحرب والاحتلال. وكان البيان الذي رفع شعار " لا للحرب، لا للديكتاورية" رفضا صريحا للخيارين الجائرين، وتأييدا كاملا يسند فكرة دعم العمل الوطني بقوة الامم المتحدة والمجتمع الأوروبي لغرض تقرير مصير الوضع السياسي. لكن حملة تجميعية للمواقف نشطت مجددا، حاولت تمييع الموقف السابق (رفض الحرب والاحتلال)، من طريق البحث عن طرق فرعية تستقوي أو تلوّح بعصا الاحتلال، لكنها لا تشير اليه علنا، وإنما تدعو القوى السياسية والقوات المسلحة الى القيام بخطوة استباقية لإطاحة النظام الديكتاتوري. وكان بيان " خمسمائة كلمة من أجل ربيع العراق" معبرا عن ذلك الاختلاط في المواقف. وهو بيان تلفيقي حُشرت فيه أسماء أشخاص لم يوافقوا على مسودة البيان في صيغته الغامضة، ممن أصروا على أن يحتوي البيان عبارات ثلاثا محددة: لا للاحتلال والحرب، لا للديكتاتورية، لا للتقسيم. ومن صيغة البيان وطريقة تجميع وتلفيق الأسماء توضح للجميع أن سباقا محموما يجري بين الأفراد والجماعات لغرض إظهار المقدرة على القيادة والتحشيد لصالح مشروع الاحتلال والمخابرات الأميركية، تحت واجهات ثقافية مختلفة. وكان أبرز االناشطين في هذا المجال القاص إبراهيم أحمد والشاعر صادق الصائغ وأحمد النعمان ، وقد كوفئ الأول والثاني بلقب مستشار ثقافي في حكومة الاحتلال، وضاع الثالث بين الأرجل، كما يبدو من سياق الأحداث.
وربما يكون آخر نشاط ثقافي استطلاعي، علني وواضح، هو الكراس الذي صدر عن مجلة (الثقافة الجديدة) باسم " مثقفون ومواقف – الأزمة العراقية! السلطة والحرب". لخص هذا الكراس ووثق بشكل دقيق الموقف السياسي العام لشرائح من المثقفين اليساريين والديموقراطيين العراقيين. فقد تمكن الكراس من تجميع آراء عدد متنوع من المثقفين حول محور محدد يتمثل في " خطر حرب جديدة يداهم العراق، وملامح تغييرات جذرية تلوح في أفق بلدنا والمنطقة. هذه لحظة تاريخية ذات أبعاد معقدة ودلالات عميقة" ( المقدمة ص 1)
وقد أظهر الكراس وجود ثلاثة اتجاهات: الأول مع الحرب والاحتلال بشكل صريح، أبرز وجوهه في الكراس: إبراهيم أحمد، وسميرة المانع وجبار ياسين، الذي دعا الى "غزو مؤقت"، وعزالدين رسول، الذي دعا بلغة عرقية خالصة الى القبول بحسنات الاحتلال، بينما دعا إبراهيم أحمد الى اعتبار الحرب والاحتلال حلا لا خيار فيه، يتوجب التعامل معه كأمر واقع والقبول به من دون لف أو دوران. وفي الجانب الغامض أو المعتم تستر ياسين النصير ومحمد سعيد الصكار وعبدالكريم كاصد، وعلي عبد الامير. وفي الجبهة المقابلة وقف معظم الكتاب والمثقفين المشاركين: صلاح الحمداني، صلاح جياد، محمد حسين الأعرجي، عبد المجيد الراضي، عدنان محسن، سلام عبود، سليم حمدان، الذبن أعلنوا صراحة أو تلميحا رفضهم للحرب والديكتاتورية. وكان رأي القاص والروائي جنان جاسم حلاوي من تلك الآراء الواضحة والحاسمة: "أرى أن الإعلان ضد السلطة الدكتاتورية والحرب الامبريالية على العراق معا هو الموقف الصحيح وطنيا وإنسانيا ومبدئيا". أما موقف الشاعر والروائي فاضل العزاوي فقد كان عميقا وصريحا في رفضه للحرب والاحتلال: "يمكن للقوات الأميركية أن تسحق الدكتاتورية، لكنها ستسحق معها أيضا كل ثقتنا بأنفسنا وبقدرتنا على أن لا نخجل من أنفسنا بعد ذلك، ونحن نحدق في وجوه الآخرين، في مواجهة كارثة حرب جديدة سوف تحول العراق الى خرائب وأنقاض". وربما يكون جامع تلك المساهمات، الذي وقف خلف فكرة توحيد المثقفين حول موضوع الحرب والسلطة، هو أحد أبرز من عبّروا عن رفضهم للحرب : " لا أتفق مع المراهنين على حرب أمريكية لحل الأزمة العراقية، وأجد موقفهم كموقف من يرى الاشجار ولا يرى الغابة.... جل ما أخشاه في مهادنة مثقفينا للأمر الواقع من منظور يتناسى ايديولوجية ودوافع الإدارة الأميركية الحالية، هو أن نكرس على المدى البعيد وعيا تبريريا محافظا".
من هذا العرض نرى أن جل المثقفين الديموقراطيين البعيدين عن الإلتزام الحزبي كانوا من معارضي الحرب بوضوح تام، أما الجماعات الحزبية فقد توزعت بين غامض متهرب من الإجابة في الأعم، ومؤيد للحرب، وشذ منهم صاحب الكراس، الشهيد كامل شياع، الذي كان يمثل آنذاك الموقف الرسمي العلني للحزب الشيوعي العراقي الرافض للغزو. يعكس تصنيف مواقف المثقفين هذا طبيعة الحركة الداخلية للحزب ومناصريه على نحو صادق، وطبيعة التكوين العام للمثقفين العراقيين المعارضين للديكتاتورية. ولكن، على الرغم من أن الاتجاه الرسمي، ممثلا بالشهيد كامل شياع، كان معارضا معارضة صريحة للحرب، وكانت مخاوفة الآيديولوجية أعلى من مخاوفه السياسية، لأن الاحتلال في نظره سيكرس " وعيا تبريريا محافظا"، وهو ما تحقق لاحقا وجرف الجميع، إلا أن الواقع العملي كان يشير الى أمر مغاير تماما. كان كل شيء يؤكد أن الحزب مخترق ومنخور من الداخل، وأن عددا كبيرا من أعضائه ساروا في ركب الاحتلال خفية أو علنا، وقطع بعضهم شوطا طويلا في المسير، حتى من دون علم حزبه أحيانا. وهناك من ظل ينتظر بترقب تعديل موازين القوى، وهو موقف الغالبية العظمى. كان للحاضنة الأوروبية دور كبير في تعطيل سرعة انحدار الحزب باتجاه القبول بفكرة الحرب، وعدم التعجيل الرسمي بالتحول لصالح الموقف الأميركي. لأن الحزب آنذاك فقد حاضنته الاشتراكية، ولم يعد يقيم، على الأعم، إلا في وسط أوروبي تجتاحه مظاهرات الاحتجاج المليونية ليل نهار. كما أن وجود مصالح مالية وتجارية في الخارج تخص بعض القيادات المتنفذة، من أمثال فخري كريم، حدّت من الرغبة في إعلان تأييد الاحتلال قبل تصفية هذه المصالح أو تأمين سلامتها، خاصة في البلدان غير المؤيدة للحرب. ورغم عدم مشاركة الحزب رسميا في مؤتمر لندن، إلا أن الفرع "الكردستاني" كان حاضرا. كما كان كنعان مكية خلف ترشيح عدد من المحسوبين على الحزب ضمن حصته في مؤتمر لندن، التي سميت بـ "قائمة البيت الأبيض". فقد ظهرت ضمن تلك القائمة أسماء زهير الجزائري وفالح عبد الجبار وغيرهما. ولم تلبث أن ظهرت أسماء الذين تم تجنيدهم وإعدادهم للعمل مع القوات الأميركية الغازية.
والى جانب ذلك كانت هنالك نشاطات أخرى جانبية وفرعية، تتم تحت أغطية سياسية، وبعضها إنسانية، كحقوق الأقليات الدينية والعرقية، تشير جميعها الى أن أجهزة الموساد، كانت غير بعيدة، بطرق غير مباشرة، عن بعض أجزاء المشهد العراقي، وعن الحركة العامة لمسارات الجدل في صفوف المثقفين.
في تلك الحقبة ظهرت صريحة الآراء التي سعت الى صناعة ماركسية الفوضى التي تجمع بين الشيوعية والفكر النفطي والاحتلال. وتعبيرا عن هذا النهج يكتب الشاعر فاضل السطاني مقالة عنوانها " أسئلة ما قبل الحرب وما بعدها، نشرها في صفحة ثقافة في (الشرق الاوسط) : " لا يملك المرء سوى ان يأمل بان يفتح المثقفون اعينهم قليلا، كما فتحها تولياتي، حتى لا يتكرر ما حصل في مكان آخر، وفي ظروف أخرى، ونعتقد أن هذا الدرس البليغ، الذي يجب ان نتعلمه بدل ذرف الدموع الكاذبة وغير الكاذبة وإعادة انتاج اوهامنا ومقتلنا بالتالي في العراق وغير العراق. وكان تحذيره ( زعيم الحزب الشيوعي الايطالي في الثلاثينات)منطلقا من حقيقة ان الفاشية، بكل ترسانتها العسكرية والثقافية، وادواتها القمعية الرهيبة، لا يمكن تفكيكها من الداخل، ولا يمكن القضاء عليها سوى بعامل خارجي. وهو عامل لا تسلطه السماء، وانما تقود اليه الفاشية وهو ما نراه ماثلا أمام أعيننا الآن في العراق وغير العراق"(الشرق الاوسط 6 نيسان 2003)
يليه الجزء الثاني








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - لماذا
سمير عبد الاحد ( 2011 / 4 / 20 - 21:16 )
لماذا على الشيوعيين ان يتحالفوا مع مظطهديهم ؟ لقد اظطهدهم البعث فتحالفوا معه واظطهدهم الحزبان الكرديان فتحالفوا معهما واظطهدهم التيار الشيعي السياسي فتحالفوا معه واظطهدهم الامريكان , واي اظطهاد ,فتحالفوا معهم . لماذا لا احد يستطيع حتى ان يناقش ان الحزب كان ولا زال مخترقا؟ كيف استطاعت محطة الكويت ان تعرف عناوين الشيوعين الجديدة بعد انقلاب1963 ؟وكيف كاد نائب عريف فني , الشهيد حسن سريع , ان يطيح بحكم البعث والذي فشل الحزب حتى ان يتصدى له على الاقل ؟ هل استطيع ان اسمع جوابا؟


2 - الثقافة الوطنية والثقافات الأخرى
أحمد الناصري ( 2011 / 4 / 20 - 22:16 )
الملف واسع وخطير ولابد من أعادة فتحه
عزيزي سلام
شكرأ لك وأنت تواصل جهدك ومشروعك المعمق والدقيق في الكتابة عن الثقافة الأخرى، مرة عن (الثقافة الفاشية) التي سجلتها وحللت عنفها وأبتذالها، ومرة اخرى تكتب عن ثقافة ومثقفي الاحتلال ومن سوق له تحت حجج واهية وسطحية، بدوافع الإنزلاق افكري والنفسي مرة وبدافق القبض والصفات في حالات واسعة أخرى هذا التسجيل يؤسس للتاريخ ويساهم في بناء وأستمرار الثقافة الوطنية
والدفاع عنهاوحمياتها من العقم والتسطيح والفجاجة والتقلب خاصة وإن الثقافة الأخرى أصيبت بالوشل والتحلل وسقطت تحت آثام نتائجها المدمرة


3 - لاجواب
سمير عبد الاحد ( 2011 / 4 / 21 - 12:30 )
كالعادة الشيوعيون يتجنبون البحث في موضوع تحالفاتهم البائسة وموقف الحزب الهزيل تجاه انقلاب شباط 1963 . سافترض ان ما قاله د. البراك عن اختراق الاستخبارات البريطانية للحزب منذ الاربعينات صحيح , وسافترض ان قياديان مثل عزيز الحاج وبيتر يوسف كان ضمن هذا الاختراق , والا كيف نفسر انهيارهما بهذه السرعة بينما صمد (اصدقاء) للحزب ! لقد ضحى آلاف الشيوعيون بحياتهم لكي تجلس قيادتهم بجانب مظطهديم يتبادلون معهم الابتسامات وربما النكات


4 - الى من يجلس في -السويد- ويثرثر!!
احمد البغدادي ( 2011 / 4 / 25 - 08:22 )
خير لك ان تصمت على ان تتحدث بما لا علم لك فيه!!

اخر الافلام

.. علاج أكثر من 1000 عضو من حماس في تركيا.. تصريح متعمد من أردو


.. وزير خارجية بريطانيا: هجمات الإسرائيليين على قوافل المساعدات




.. غزة.. صحيفة -وول ستريت جورنال-: مصر تدرس خفض مستوى علاقاتها


.. فيزا واحدة تتجول بها في جميع دول الخليج #بزنس_مع_لبنى




.. إصابات عديدة بانفجار منطاد هوائي في #إندونيسيا #سوشال_سكاي