الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نحو اعادة تقييم انقلاب 14 تموز 1958 في افق الديمقراطية والاصلاح

ثائر كريم

2004 / 10 / 26
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


ينبغي اعادة تقييم انقلاب 14 تموز 1958 في العراق من منظور ديمقراطي، اولا، ووطني اصلاحي, ثانيا. فلهذه الاعادة مغزى تحويلي عميق اجتماعيا. ولها اهمية أبعد بكثير من ان تكون اكاديمية بحتة. وأهم من مجرد تصحيح تواريخ ووقائع. واكثر انسانية من مجرد المفاضلة بين زعيم انقلابي وآخر.
تنبع هذه الاعادة من ضرورتين تاريخيتين، على اقل تقدير. الاولى سياسية وفكرية. فمن المهم تنقية تاريخ الوعي الفكري والممارسة السياسية في العراق من مظاهر تبجيل الانقلابات العسكرية ورفع زمرها الى مصاف الابطال التاريخيين. والثانية تربوية. فمن المهم- اذا كان قصد المعنيين حقا تأسيس نظام دستوري قائما على القانون والعدل والمساوة - ان توضع خطوطا حمراء امام بعض الافعال السياسية. وحدودا قاطعة لايتعداها حتى على مستوى التفكير اي ناشط سياسي ومدني. خطوط وحدود تدلل على ان جدوى العمل السياسي ورؤياه يتحققان بالاصلاح والجهد المديد وليس بالانقلاب العسكري السريع.
يعرف كل من عاصر او قرأ شيئا عن ملابسات ما حدث في 14 تموز سنة 1958 (بغض النظر عن طبيعة المصدر أي في ما اذا كان مع الانقلاب او ضده) ان بعض ضباط الجيش قادوا قطعاتهم العسكرية الى العاصمة بغداد واطاحوا بالنظام الملكي. كان هؤلاء الضباط قد تجمعوا فيما اطلقوا عليه "تنظيم الضباط الاحرار" (وهو اسم يماهي "حركة الضباط الاحرار" في مصر والتي كان زعيمها جمال عبد الناصر قد قاد انقلابا في مصر سنة 1952 واطاح بالنظام الملكي هناك).
لعب اثنان من الضباط دورا محوريا في الانقلاب: عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف. يتحمل كلاهما مسؤولية اصدار الاوامر العسكرية بتحريك القطعات ودخول بغداد والتوجه صوب مؤسسات الدولة للقضاء على رموز النظام الملكي. ويتحمل كلاهما مسؤولية المجزرة البشعة التي اقترفت: قتل العديد من افراد العائلة المالكة المدنيين اعداما فوريا عشوائيا. ويتحمل كلاهما مسؤولية "سحل" بعض زعماء النظام الملكي. "سحل" هي الكلمة التي تيمنت بها بعض القوى "الثورية" للتدليل على هيبة (هي في الواقع هيبة مزيفة) وباع سياسي (مطنعا وليس اصيلا بلا شك). وتطلق كلمة "سحل" ايضا للتدليل على حماسة الجماهير الثورية حين "تهب" للاطاحة بالانظمة.
ولكن ألم يكن ذلك القتل، في الحقيقة، تعبيرا مأساويا عن سلطوية الفعل العسكري وقيامه تعسفاعلى الهوى؟ وهل جرى ذلك وفق قانون مجمع عليه ودستور مشّرع؟.
وايضا، ألم يكن ذلك السحل، في جوهره، حركة رعاعية لا معنى فيها غير الانتقام الرخيص ونشدان "الحوبة" الغبي؟ هل كان ذلك عملا عقلانيا هادفا؟
لم ينطلق الانقلاب، بالتعريف وبالواقع العلمي، بتكليف شعبي. فالانقلابات العسكرية لا تنبعث بتكليفات شعبية. كانت هناك بالطبع دعوات وتمنيات من قوى معارضة مختلفة لأن يتدخل الجيش ويقلب نظام الحكم. وتؤشر هذه التمنيات بحد ذاتها على افلاس سياسي لتلك القوى. افلاس برامجها وخططها النابعة من قدراتها هي. ليس التمني بتدخل الجيش في السياسة لقلب السلطة إلا تعبيرا عن شللية الفعل السياسي ذاتيا. واعلان من البدء بمرهونية مصير برامج هذه القوى وكل التطور السياسي للبلاد باهواء قوى الجيش ونخبه. وتخل من البدء لاستحقاق الشرعية والشفافية.
انطلق الانقلاب من رؤى قادته العسكريين ورؤياهم، حصرا. هنا بيت القصيد. انبثق الانقلاب من معاينة هؤلاء الضباط الخاصة للاوضاع السياسية في البلاد. ومن تقديراتهم لكيفية الاطاحة بالنظام الملكي وسهولته او صعوبته. ومن توقعاتهم لمدى الاسناد الشعبي الذي يمكن ان يجنوه من القوى السياسية المحلية. لقد كانت لبعض الضباط علاقات معينة بالقوى السياسية "الثورية". لكن هذه العلاقات لم تكن علاقات تبعية الضباط لهذه القوى ابدا. بالعكس فالضباط هم اصحاب المبادرة والكلمة العليا. ليس العكس. هل هناك في تاريخ انقلاب 14 تموز ما يؤشر على غير ذلك؟ وهل ثمة في تاريخ ما بعد الانقلاب ما يؤيد عكس ذلك؟
وانطلق الضباط من تقديراتهم لمدى الدعم الذي يتأملونه من مصر. فقادة انقلاب 1952 هناك كانت لهم اجندتهم البعيدة في تزعم الدول العربية. كان العراق منافسا اساسيا في واقعه ومؤشراته المستقبلية. كان للضباط المصريين اجندتهم الخاصة في الحفاظ على سلطتهم بانشاء نمط حكم قائما على واحدية التنظيم الحزبي سياسيا وشمولية الدولة اقتصاديا وقومية الفكر ايديولوجيا. وسرعان ما حققت هذه الاجندة نجاحات اعلامية واسعة مصريا وعربيا. وباتت اسلوبا هجوميا فعالا ليس فقط للحفاظ على السلطة داخليا. بل ولتأمين الدعم الجماهيري عربيا.
اما العراق فكان يسير وفق طريق آخر تماما. ففي الخمسينيات من القرن العشرن كانت البلاد تعيش سياقات متناقضة، صعودا وهبوطا. فيها الكثير من سياقات اللبرالية اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا. وكان العراق يدخل تدريجيا في مناخات تقدم لم يعهد بمثلها مما قبل. ولكن كانت هناك خطوات رجعية، ايضا. وسياسات تشد الى الوراء.
كانت هناك مشاكل كثيرو منها الفقر والتخلف الحضاري وبطء مشاريع الاعمار. ولكن مشكلة البلاد الاولى هي سياسية بحتة. هي مشكلة الهوية الوطنية بمعناها الانساني المباشر، أي معنى الاتفاق على قواعد الحياة المشتركة في وطن واحد. مشكلة تأسيس علاقة استقلال وتبعية عقلانيا بين الدولة والمجتمع المدني. مشكلة اقامة مركزية الحكم على قاعدة التمثيل السياسي وتفعيل اليات هذا التمثيل ارتباطا بالنظام الدستوري والبرلماني. انها مشكلة التمفصل العادل بين الدولة وسلطتها السياسية من جهة، والمكونات الاجتماعية المختلفة، من جهة اخرى. وكانت القوى السياسية في الكيان العراقي تسعى لحل هذه المشكلة كلا بطريقته الخاصة ولمصلحته. كان البعض يسعى لحلها باسم العروبة والاسلام. وسعى آخرون لحلها باسم جبهة معادية للامبريالية والصهيونية والرجعية. واكتفى آخرون بعدم فعل أي شىء لحلها انطلاقا من مصالحهم الاقتصادية والسياسية. وراح البعض الاخر يسعى لحلها باسم الجيش حاميا لهذا الوطن. الجيش كرمز للوحدة الوطنية والاستقلال الناجز. كان هناك، اذن، صراع داخل المجتمع العراقي بين تيارين اجتماعيين عريضين. ترأس احدهما دعاة الحل الفوقي عسكريا لتأسيس الدولة العراقية واقامة هويتها الوطنية. وترأس التيار الثاني اصحاب الحل السلمي، اقتصاديا وسياسيا لتطوير الدولة وتنمية اندماجها الوطني.
في عام 1958 انتهى الصراع بين الخيارين العسكري والمدني لترتيب الدولة الوطنية بانتصار ساحق لدعاة الحل العسكري. وسرعان وضع انقلاب 1958 الاسس الصلبة لاستراتيجية لادارة ألدولة بطريقة تفرد لمؤسسات العنف، للجيش والامن والمخابرات دورا مركزيا وابويا حاسما. وفيما اجيزت الاحزاب السياسية باشتراطات سلطوية تعسفية فقد تمت تصفيتها بعد اقل من سنتين. واحيل الدستور على التقاعد. وذبحت كل دعوات اقامة انتخابات سياسية على طاولة العسكر. وانتهت الى الهاوية مساعي اعادة النظام السياسي لسياقات مدنية وديمقرطية.
ومثل أي انقلاب منفلت لايحكم نظامه السياسي المنبثق عنه لا قانون ولا دستور ولا برلمان فان صراعات الزعامة الداخلية تتخذ طابعا مدمرا بكل المقاييس. اشتعل الصراع الدموي على الزعامة والمراكز بسرعة البرق منذ الولادة. وانبثقت انقلابات اخرى. ولكن الصراع كان اشده ما بين زعيميه الرئيسيين عبد السلام عارف وعبد الكريم قاسم. من اطلق رصاصة الموت ضد الدولة الملكية ومن هو القائد الاول والحقيقي للانقلاب؟ أختزل التنازع على الرمز بين ضباط الجيش كل اجندة التطور والتنمية في البلاد. وشكل البذرة الاولى لعبادة الفرد في ظل نظام صدام حسين الدكتاتوري.
ولأن الانقلاب لم يستند على تكليف شعبي اي على شرعية خارجه عنه فان شرعية الفعل العسكري القائم بذاته هي صلب شرعيته. كما ان سياسات ما بعد الانقلاب واصلاحاته ليس لها، بالضرورة، من عقلانية إلا في ما يقدره اصحاب الانقلاب انفسهم. وان ما يحققه سياسيا لن يخضع لاي حساب موضوعي من جهة خارجة عنه. بل ان ردّ الانقلاب بواحد مثله هو الاسلوب المتوقع لتحقيق هذا الحساب. لذلك فان تصفية الحسابات بين نخب الجيش تدخل في صلب السياسات الانقلابية. وينتفي بذلك معنى المحاسبة الديمقراطية والشفافية السياسية. ضباط ونخب عسكرية تحاكم احداها الاخرى. فاذ انبثق انقلاب 14 تموز بطريقة مؤامراتية فيها الكثير من مظاهر البشاعة والتقزز فان قادة انقلاب شباط 1963 جعلوا من الدموية والفوضى حالة يومية مستديمة. بينما جفع اصحاب انقلاب 17 تموز 1968 البعثيين البلاد الى وضع شمولي طائفي دبّت في كل اوصاله روح الاستبداد وقيمه.
لو انطلق انقلاب 14 تموزمن منظور احلال سيادة الشعب على نظام الحكم والدولة وتأسيس نظام برلماني ودستوري شامل لكان من الممكن قبوله. ولكنه لم ينطلق من هذه الحالة ولم يسترشد بهذه الرؤية. ولم يحقق أي شىء يدلل على السير في هذا الافق. لذلك فان معايير وطنيته ومصداقية قيامه ستخضع، حصرا، للاهواء الفردية. اذ ما الذي يجعل انقلاب 14 تموز اكثر وطنية من انقلاب بكر صدقي سنة 1932، مثلا؟ او اكثر ضرورة من انقلاب العقداء الاربعة في مايس سنة 1941؟ او اقل اهمية من انقلاب 1968 البعثي؟ فالتقديرات الاعتباطية هي وراء اصدار الاحكام هنا. فلا الاستقلال الوطني اصبح اكثر "ناجزا" كما اراد انصار هذه الانقلابات. ولا التنمية حققت نجاحات يعتّد بها. ولا الوحدة الوطنية تعززت. بالعكس تماما. انتكس الاستقلال وارتمت البلاد في احضان الاجنبي اكثر فاكثر. وتبخرت مواردها كالماء في الصحراء. وتصدعت اسس الوحدة الوطنية وصولا الى مستوى الانهيار التام. ما المعيار، اذن، في وطنية وضرورة هذه الانقلابات حين ينعدم افق الحياة الدستورية والبرلمانية ودولة القانون؟
اعرف ان هناك كثيرين سيهبون دفاعا عن انقلاب 14 تموز. فقد ربط البعض تاريخه السياسي ربطا اسطوريا به. بحيث لم يعد من الممكن (أو ؟) التراجع عنه. فعاقبة التراجع تفريغ المرء لنشاطه السياسي السابق من معناه. ونقده ادانة رؤية سياسية كاملة بالفشل. من الصعب على العديد من الناس في العراق اخضاع سلوكياتهم العمومية ومواقفهم السياسية الى نقد ذاتي صارم. والاصعب، ايضا، التعامل بشفافية مع نقد الاخرين.
ويهب قسم آخر للدفاع عن الانقلاب انطلاقا من دفاع صوفي واخلاقي عن احد زعماءه، عبد الكريم قاسم. أي انطلاقا من صفات عبد الكريم قاسم الشخصية كانسان نزيه وشعبي وبسيط. انسان تعرض الى القتل الاعتباطي دمويا بالظبط مثلما عرّض هو نفسه آخرين لذات المصير. المطلوب اجراء تحليل عقلاني لما يفعله القادة والنخب واسباب افعالهم ومآلها وعواقبها. ليس من السهل فصل تقديراتنا الاخلاقية لشخص الحاكم عن سياساته الفعلية. هذا شىء صعب ولكنه مطلوب دائما. اذ ان التحليل الذي يعزي ما يجري في ميدان السياسة الى اخلاقية هذا الشخص او ذاك سيبقى دائرا في الفراغ. ولن يحقق أي تقدم لا على صعيد المعرفة ولا على مستوى السياسة. وسيظل فساد السياسة قائما في فساد اخلاق الناس وليس العكس. وستدور دائرة الاخلاق بلا طائل.
اذ كان الوعي الوطني مزيفا فمن المطلوب تفكيكه. فلن تقام هوية وطنية حقا اذا كانت عناصرها فاسدة ومضامينها سلطوية. ولكن من المهم تماما ان يسير فعل التفكيك في افق الديمقراطية والاصلاح. وليس في منظور الطائفية او العدمية، ابدا.
لعل اعادة تقييم انقلاب 14 تموز في هذا الافق علامة بارزة من علامات تفكيك الوعي الوطني واعادة تركيبه ديمقراطيا.
فهل يجرؤ كتاب التاريخ وصانعوا السياسة الان على خوض هذا المضمار؟
ثائر كريم








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رئيس الوزراء الاسرائيلي يستبق رد حماس على مقترح الهدنة | الأ


.. فرنسا : أي علاقة بين الأطفال والشاشات • فرانس 24 / FRANCE 24




.. بعد مقتل -أم فهد-.. جدل حول مصير البلوغرز في العراق | #منصات


.. كيف تصف علاقتك بـمأكولات -الديلفري- وتطبيقات طلبات الطعام؟




.. الصين والولايات المتحدة.. مقارنة بين الجيشين| #التاسعة