الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أقمارٌ لنْ تغيب ... قصة قصيرة

مديح الصادق

2011 / 4 / 22
الادب والفن


لذكرى استشهاد المناضل { سمير الصادق } وقوافل الشهداء

مني أعطر التحايا لأمِّي الحبيبة أبلِغْ، أن تسامحني اطلبْ منها ؛فقد أشعرَني بالذنب طول حياتي وداعي المتوتر لها عند التحاقي بوحدتي العسكرية آخر مرة، ارتجافة يديَّ ليست ككل مرة وأنا أقبِّل رأسها، لم أدرِ حينها أن قد كان هاجسا غريبا ينتابني بأن سيكون ذلك وداعا لن يتكرر، وحين رفعتُ رأسها كي أستمد من عينيها القوة في قرارٍ مصيري عقدتُ العزم عليه قاطعا؛ كان شاطئاهما يفيضان ببحر من المدامع التي ما شهدتُها بمقلتيها من قبل، رغم أن قوافل الشهداء لم تُبقِ في جفنيها سوى الجفاف؛ ذلك الوداع الأخير لم يكن كغيره من قبل، كلانا كان يُخفي عن الآخر ما قد قرأه في نبضه ساعة التصق القلب على القلب؛ لكنه الخوف المتوارث من أن يكشف كل منا للآخر ما ترجمته مشاعر فوق مستوى الإدراك الحِسيِّ، حين استوقفتني عند عتبة الدار وغابت برهة ثم عادت وهي ترتدي هندامها الأبيض، حتى حسبتُ أنها تنوي الصلاة في غير موعد الصلاة؛ وضعَتْ كتابا ملفوفا بالأبيض على رأسي، وراحت تتلو دعاء ليس كذلك الذي أسمعها منها كل يوم، في ذلك اليوم كل شيء نطقتْ به أو فعَلتْه كان تحديا فاضحا لي؛ أن قد كشفتُ ما أنت قادم عليه، وليس عندي غير أن يرعاك مَن توسلتُ إليه

تذكر جيدا - يا أخي - ما اتفقنا عليه بأن تخفي الحقيقة عن أقرب المقربين؛ حتى والدي - رغم أني واثق من أنه كاتم للسر شديد - لكن أزلام النظام ينْفَذون من أضعف الحلقات، ويحرقون الأخضر واليابس عند ذاك، وإن صار ذلك فحتما ستكون أنت الضحية الأولى تحت سيف الجلاد، والتهمة أنك خدعت السلطان الأعظم يوم أبلغتهم بأن أخاك { سميرا } قد ضاع منه الأثر بعد التحاقه بوحدته العسكرية في كردستان - والحرب مع الإيرانيين رحاها تدور- وأنك قد بحثتَ عنه في المستشفيات، ومراكز الشرطة، وسألتَ عنه في وحدته متصنعا جهلك مصيره؛ آهٍ لو علموا أنك أنت الذي سلَّمتَه مع رهطه بيد صديقك المخلص { علي الكردي } ليوصلهم معززين مكرمين إلى مواقع الثوار، مقاتلين في صفوف رفاقهم الأنصار، أعتى دكتاتورية عرفها التأريخ، وأقسى نظام همجي حكم البلاد بالنار، والحديد، والخداع، والتظليل؛ قبِّل يدي والدي، فقد كان مكافحا أوصلنا جميعا إلى المراحل التي يفخر بها من التعليم، وهو الذي أخفى الكثير من الرفاق يوم انقلب الفاسدون انقلابهم الأسود في شباط، من عام 1963، أشِعْ بأني محكوم في سجن عسكري، فالكذب النظيف أحيانا يحمي رقابا من حزَّة سيف الجلاد، وأوحِ له بأن يُخفي ما أطلعتُه عليه من وثائق وبعض الكراريس، أو يسِّلمها لمن سيحمل له خاتم سِرٍّ، وأن يحذر من ذلك الخبيث { محمد فليِّح } الذي يدَّعي صداقة الطفولة والزاد والملح، ولا يأكل إلا من يد الوالدة سمكا مشويا بالتنور؛ ثم يرسل المقاتلين ليقطعوا عنكم الماء والكهرباء، ولم يكتفِ بهذا؛ بل يسلط الجواسيس المراقبين ليضبطوا مَن يمدُّ لكم يد العون بالسرّ، فيُطبِّق عليه نفس العقاب، اللعين

الحديث عن رحلتنا طويل طويل لا تكفي لسرده كاملا بعض وريقات أدسُّها في جيبي في غفلة من بعض المراقبين من الباكستانيين الذين سلَّطَتْهم علينا مخابرات السفارة العراقية في إسلام آباد؛ حتى أننا نجد الرسائل مفتوحة في ذلك الفندق الرديء الذي اضطررنا للسكن المؤقت فيه، بعيدا عن هؤلاء الأوباش الذين يبحثون عنا في كل مكان، وحال اكتشافهم لنا نسارع لتغيير المكان، ومَن يشتغل منا أو تردُه بعض الإعانات لا يبخل على رفاقه بشيء، لقد تقاسمناها حلوة ومُرَّة، منذ اللحظة التي سلكنا فيها وعورة الوديان، والقمم الشاهقات، حتى أدركنا رفاقنا الصامدين فوق الرُبا، وكانت سهلة جدا بيننا كلمة السر، فهم رغم حذرهم الشديد من المندسين بين الصفوف؛ يجيدون فحص المخفي بين السطور، تعرَّفوا علينا بالأسماء، وعليهم تعرَّفنا، فليس صعبا عليك أن تعرفهم وهم الذين طلَّقوا ترف الدنيا وما فيها من ملذات كي يحملوا أرواحهم والسلاح من أجل شعب عريق يستحق التضحيات، وله رخيصا يقدم بالأرواح الفداء، وقبل أن أجهد نفسي بالسؤال عنه فقد واجهته وجها لوجه، ذلك المناضل الشديد المراس نعيم الزهيري، وكم من ليلة قضيناها سوية في واجب قتالي، أو نشاط فكري، أو ترفيهي كجزء من متطلبات استمرار الحياة، ولو تحت أعتى الظروف، أولئك المقاتلون وجدتهم من نمط خاص، يُغنُّون وقت القتال، وحين يستشهد لهم رفيق يُغنُّون، وهكذا دواليك، يقاتلون بالسلاح، وبالغناء يقاتلون، يستمدُّون قوَّتهم من فكر آمنوا به، وأخلصوا له، وشعب مجاهد يستحق الحياة الحرة الكريمة؛ ومن شعبنا الكردي الذي ارتبطت قضيته بما كافحنا، ولا نزال نكافح من أجله؛ وطن ديمقراطي، حرٌّ، يتساوى فيه الجميع بلا استثناء، ولا يثنينا ما قامت به بعض القيادات الكردية من جرائم إبادة لمقاتلينا ستحاسبهم عليها الأجيال، قصر الزمان أم طال

أما الإيرانيون فلا يقلِّون عن نظام الجلادين في بغداد مكرا وخبثا، فهم جميعا من درس واحد، ومعلم واحد، وما تلك الحرب بينهما إلا تمثيلية تخفي وراءها أغراضا مخفية، لا تنطلي على الحكماء، ومثلهم بعض القيادات الكردية المتلونة حسب مصالحها الذاتية، فمرة تراهم مع النظام ضد قومهم، ومرة مساومين عملاء لدولة من دول الجوار، يدَّعون التقدمية واليسار تارة، وتارة على اليسار ينقلبون؛ بل يشيعون في صفوفهم القتل والدمار، وحين تعرضنا إلى مشاكل صحية نتيجة لسوء الظروف، وتم تزويدنا من قبل الثوار برسائل عدم التعرض كي تسهل دخولنا إلى إيران للعلاج؛ فقد تم إلقاء القبض علينا حال دخولنا الحدود من قبل الدرك الإيراني، وكانت معاملتهم لنا أبشع المعاملات على وجه الأرض، كأننا مجرمو حرب، وأننا الذين أشعلناها، وبعد ستة أشهر من السجن والتعذيب قاموا برمينا على حدود باكستان بلا أوراق ثبوتية، ولا مستمسكات، ولم يبق لي من أمل سوى تلك الأوراق المستنسخة التي أرسلتموها لي عن طريق { خالي البحَّار } وسوف أقدمها غدا إلى مفوضية اللاجئين كي يمنحوني الحماية في هذا البلد. بلِّغ الرفاق أننا لا بد عائدون حاملينها عالية رايات نصر العراقيين على عروش الظالمين، وأننا مهما اضطُهدنا، أو روَينا الأرض منا دماء؛ فإننا أحياء كالدم الجاري في عروق العراقيين، نحن ما جئنا لكي نموت بقبضة الجلاد؛ بل حتى يُغادر الكون آخر سفاح على وجه الأرض

ختَمَ الرسالة أن ذيَّلها بعبارة : وصلتني حوالتكم، وسددت منها بعض الديون، والباقي قد يفيدني في سفر لبلد آخر فيه أمن لي، نحن لا نشعر أبدا هنا بالأمان، نكاد نشمُّ رائحة المخابرات العراقية في كل شيء؛ حتى في الهواء المحيط، وهو سهل جدا أن تُشترى الضمائر في بلد يعاني جُلُّ شعبه من فقر مدقع، وكم من ثورة في العالم تم سحقها عند توظيف المال في شراء الذمم الرخاص، هم يتابعون حتى النافذين بجلودهم وليس لهم أي انتماء سياسي، قرار مجلس قيادة الثورة المشؤوم يحكم بالإعدام الفوري على كل من يغادر البلاد بلا ترخيص رسمي؛ فهو كالهارب من ساحة القتال، فِرَق الإعدام في الداخل والخارج على حد سواء، المهم أن صورة من شهادة الجنسية في يدي الآن، ستساعدني في كسب حماية المنظمة الدولية بباكستان
وقَّع الرسالة بالاسم المتفق عليه للتمويه { أخوكم أحمد الصادق } اليوم هو الأحد الحادي والعشرون من آذار عام 1987

تفحَّصَ جيدا المكان حوله في البقعة التي كان يفترش الرمل فيها على شاطئ البحر، فالجواسيس يرصدونه في كل وقت ومكان، لم يغلق الغلاف، طفل صغير على الشاطئ يمرح بصحبة والديه، استأذنهما حاملا إياه، صورة فورية على ظهرها كتبَ : { إلى والدتي التي حَمَلتْني في بطنها؛ ثم حمَّلتُها همومي فيما بعد، أرجوكِ اخلعي من رأسك الشكوك، فهو ليس ابني، ولم أتزوج إلا وفق ما تريدين من طقوس } دسَّ الصورة وأغلق الرسالة ، مسيرة عشر دقائق تفصله عن أقرب مكتب للبريد، نسيم البحر الرطب يداعب خصلات شعره الكستنائي المسترسل، ولحيته التي أطلقها للتمويه، تفحَّص في جيبه بعض دولارات هرَّبها مُخاطِرا شقيقُه الأكبر، شريطا لقحطان العطار، أغنية أمست لازمة مستديمة له { يُمَّه يا، يا يُمَّه } ، وأخرى لفؤاد سالم { مثل روجات المشرح } مدينة العشق والشعراء، وتعايش الأديان، على ضفاف نهرها غافية، بساتين نخل وسدر وصفصاف، زوارق راسيات، فلاحون يزرعون وهم جياع، وكادحون ينوؤون تحت السياط، ومن هناك كانت البذرة الأولى، من ذلك المكان انطلقت أناشيد حب للوطن والناس
سيارة حمل ثقيل بأقصى السرعة من الجانب الآخر، عكس نظام السير، والإشارة ما زالت حمراء، استدارت حيث كان واقفا يعاتب البحر الذي لم يرجِّع المرسال، جاوَزَتْ الرصيف العالي، ما من مفرٍّ، وسُجِّل الحادث قضاء وقدرا ذلك اليوم، وكاد أن يُنسى، وينمحي، إلا من سجلات جهاز الاغتيالات في سفارة العراق بباكستان، وشاهد من أهلها في صفحة جرائم النظام الفاشي، وعلى صفحة من جريدة تصدر خارج العراق شهريا { أخبار العراق } حيث في المنافي استقرت مجاميع المناضلين، في ذات الليلة احتشد الفقراء في العالم كي يطالعوا قمرا جديدا أضاء الكون








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - لم تأفل الاقمار
راهبة الخميسي ( 2011 / 4 / 22 - 18:50 )
لن تأفل الاقمار التي ملا ضياؤها قلوب أهلها ومحبيها, بل لقد أبقت هذا الضياء من بعدها ووشمته في جباه الشرفاء ليفتخروا بذكرى الابطال الذين شرفوا صفحات تاريخ العراق, المجد والخلود للأرواح التي منحت الالق والرفعة لعوائلها على مر السنين, وتحيتي لك استاذ صادق على ملامستك للواعج كل من تحتضن ذاكرته اسم بطل من ابطال العراق المناضلين.


2 - أقمار مضيئة
د.جبار ياسر الحيدر ( 2011 / 4 / 23 - 20:40 )
احسنت وسلمت يداك اخي ابا سولاف.. لقد ابدعت فكرا وقلما وتعبيرا.. اخي العزيز انت تعلم وجميعنا يعلم كم من الاحياء هم بالحقيقة اموات!؟؟ يكفيك والعائلة الكريمة وكل شرفاء العراق والعالم فخرا انه مع الخالدين وستبقى ذكراهم حية الى ابد الآبدين.المجد والرحمة للشهيد سمير ولكل رفاقه شهداء الحركة الوطنية ، وانتم الطيبون والبقاء بحياتكم.


3 - المجد للشهيد سمير الصادق ورفاقه الأبرار
د. خالد الحيدر ( 2012 / 2 / 12 - 09:05 )
لقد عاث نظام الطاغية العفلقي وحزبه المخابراتي في الأرض فساداً من دون إكتراث لأي وارع أو خُلق إنساني، فهم مجرمون فاشيون محترفون للقتل والغدر والتنكيل وهذا ما لمسه الشعب العراقي من ممارسات حزب العبث والذي ولى مع ديكتاتورهم المقبور صدام الى مزبلة التاريخ والى الأبد يلحقهم عاراً ما بعده عار
آلمني مقالكم المثير للشجون أديبنا الرائع أخي مديح الصادق، أعزيك وأعزي نفسي بأخيك البطل الشهيد سمير وهو نجمة مضيئة مع نجوم شهداء العراق الأبرار تنير الدرب نحوالحرية وبناء الديمقراطية والأزدهار بظل العدالة الأجتماعية والمساواة، فمجداً وخلوداً لهم بيوم الشهيد


4 - لا أبرئ الجماهير من مسؤولياتها
مديح الصادق ( 2012 / 2 / 12 - 15:43 )
عزيزي الفاضل، الدكتور خالد الحيدر المحترم، تحية لكم ولكل من ارتوى بالفكر الإنساني النزيه، وعمل من أجله، ومن ضحى بأغلى ما يملك، لشهدائنا الأبرار، في يوم الشهيد
الحقيقة أن أغلب الكوارث التي تحل بالشعوب تصنعها الدكتاتوريات؛ إلا أن ذلك لا يُبرِّئ تلك الشعوب من مسؤولياتها تجاه ما حل بها؛ فمسؤولياتها المصيرية في مثل تلك الظروف هي الالتفاف حول القوى صاحبة الفكر النير البعيد عن التسلط والفساد والمنافع الذاتية، وتعرية الأفكار الطوباوية التي تشغل الجماهير عن قضاياها المصيرية، وترسخ التخلف والضياع، مسؤولية الجماهير تكمن في الاستعداد للتضحية من أجل قول كلمة ( لا ) كصرخة بوجه الباطل والظلم، وهاهي الفرصة بيد الشعب لقولها الأن بوجه جلاوزة آخر زمان؛ كيلا تتكرر المأساة

اخر الافلام

.. اللوحة الأخيرة لأشهر فنانة برازيلية تظهر فجأة .. والتحقيق سي


.. إلغاء حفل -هولوغرام- للفنانة الراحلة ذكرى في تونس.. ما السبب




.. موجة من ردود الفعل على رسالة حكومية مُسربة تؤيد ترشيح وزير ا


.. محمد الأخرس: الرواية التي قدمتها المقاومة الفلسطينية حول عمل




.. مدير مكتب العربية بفرنسا: التمثيل داخل البرلمان الأوروبي مرت