الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سِر الغَجرية

أمل جمعة
(Amal Juma)

2011 / 4 / 25
الادب والفن


في بيت عمتي يَجلسن، غارقاتُ في لونهّن المُحمص وملابسهن السوداء، يرفضن بابتسامة لا تحتمل التـأويل الشراشف الملونة الخفيفة التي توزع عادة لستر الأرجل في مجلس النساء.
أحبُ وضوحهن وحُريتهن التلقائية، ولهجتهن البدوية الحارة التي تنطق مباشرة من القلب وكأن اللسان مجرد مروحة صيفية وظيفته تطهير الكلمات من نشاز اللحن.
حزنهن عادي وقابل للانتهاء مع أول نسمة ورشفة ماء، في طياته مرحٌ متوارث أعطى لمبسمهن تلك الصيغة الرائعة لانفلات الشفة السفلى دوماً وانشغالها بلوك شيء ما /علكة ،حبة تمر ،غليون وإن لم يتوفر عضّضن بها على طرف خرقهن السوداء / تحيرني وتفتنني صراحة الأنوثة في بدويات أريحا وانسيابها بطراوة فسائل الموز الفتية وصلابة النخل المتقشف في تفاصيله كرسم أولي للحياة.

كانت يدي تغوص في يد أبي السمراء الصلبة، مفتونةً بمساحة الرفقة الرائقة والطارئة (بين أب وابنته )وهو يقود أعوامي العشرة وضفائري المزينة بشريط أزرق وثوب بلا أكمام - أثار حفيظة جدي يومها -لأجتاز بذهول فوران الماء المتدفق من عين العوجا ،قفزة واحدة وإذا بي في بيت عمتي.
تتلقفني بدويات أريحا بمكر وهن يٌقلبن في ملامحي ويغازلن ضحكة أبي الصاخبة واتساعه الغريب، يطرحن أسئلة متلاحقة وينثرن النكات ويتفاخرن في سرعة إدراكهن لحضوره من الهواء المعبأ برائحة سجائره من نوع (welcome ) وامتزاجها برائحة عطره (الريف دور) وكيف أنهن شَمّمنه وميزن حضور أبي ، فحضرن متلهفات ....
في انسياب فطري لحديثهن ،يحاولن رد ملامحي ولوني لأصل ما ،يربكني سؤالهن، تقول المرأة الغارقة بوشمها والممتد على جبينها وذقنها ورسغ يدها والمنشغلة بلف سيجارة عربية بمهارة وبطء: هاي البنّية عروسة ولدي ؟ تتأملني وتروزني بعينيها وأنا مثل حمامة صغيرة لا تكاد كميات اللحم بي تستر بروز عظامي الفائض كما تراه العجوز.
لاحقاً وبعد ثماني سنوات من هذا التاريخ أرى العجوز- كظمت لها كرهاً وريبة حينها – في الظهيرة التي شهدت موت جدي، كانت قد تخلصت من القرط الذهبي الذي تزين به أنفها وأثار بي نفوراً خاصاً كطفلة ،نسيت كما يبدو مسح طلاء أظافرها الخمري :" ألاقي عندك شيء يشيل المناقير يا بنية،نسوان بلدكم - وشتمتهن بكلمة بذيئة – نسين العزاء والميت الممدود ويتغامزن علي”
بالطبع لم ترق للمعزيات المتحفظات جداً في بيت جدي هذه العجوز المتصابية بطلاء أظافر فاقع ،تنفث دخان سجائرها أكثر من كلامها (وتكوع) شبه مضطجعة في بيت العزاء ولا تشق ثوبها حزناً وتطلب إبريق شاي ساخن (عكس طقوس العزاء الشمالية ) وتغرق في لونها الأسمر البهي وثوبها خفيف الزخرفة ( أثواب نساء أريحا متقشفة في زخرفها وبدائية ) ولا يعجبها الصراخ المتواصل الذي صدع رأسها وترفض بالطبع ستر رجليها بشرشف خفيف كباقي النسوة ..
أحببتها، وراقت لقلبي المتقافز حينها ،كحبات قهوة أمي الساخنة والتي تركتها برعايتي أقلبها وأدخلها طوراً جديداً من اللون/ المادة لا تفنى ولا تزول،بل تتحول من شكل لآخر/ يبرز درس العلوم في رأسي ..وأسهو برتابة صوت بابور الكاز تشدني ناره المتراقصة والمتصاعدة والمنعكسة على بطنه النحاسي ، أقلب وأقلب وأقلب وأسهو في العبارات التي قرأتها البارحة (الداخل في حلم لا يخرج منه والخارج من حلم لا يعود إليه ) بين حبات القهوة أراها صبية ترقص، أحرك بقوة ترقص، أجول بين حبات القهوة بأصابعي ..ولا استيقظ إلا على صرخة أمي وهي تدس إصبعي بالماء البارد.
تقول البدوية :"البنية مخطوفة، وتدس إصبعي في رب البندورة ،ثلاث نتوءات باقية في شاهدي الصغير،وعادة مرة لازمتني بدسه بفمي كلما شاهدت النار /فعل احترازي/ البنية مخطوفة تصيح البدوية وهي ترسم حلقات وهمية فوق رأسي وتكسرها بالوهم أيضاً.
البدوية ذاتها كانت قد أسكتت صراخي قبل سنين عندما أطفئت سرتي المنفوشة، كنت أصيح كلما اقترب أحدهم من سرتي بفجيعة أرقت ليل أمي ، تهدهدني أسفل شجرة التين العتيقة. أهجع وأنام بين ذراعيها ويدي متشبثة بشالها.
قالت مازحة لأمي :" أداويلك البنية وتصير كنتي". عجنت في صحن طحين غير مملح وشكلته كعكة فوق سرتي،وأحضرت مشط كف (مشط مربع بحجم الكف) ثبتت به الكعكة الطرية ولفتني بشالها الملون بأزهار كثيرة فهجعت ونمت وأنا أتشغنف -كما تقول أمي ضاحكة – يدي حول عنق أمي ومتشبثة بها بجنون .
لاحقاً كنت أصر إنني سمعت كُل كلامهن يومها وأروي لأمي ما قلن من أسرار بدقة متناهية ،بالطبع كنت صغيرة جداً لأعي وأدرك كلامهن ولكنها عادة طفولية أرهقت أهلي زمناً/ إصراري على دس نفسي في أحداث حكايات كثيرة بإيمان تام حتى ولو حدثت قبل أن أرى النور .
البنية مخطوفة، هكذا أسرت الداية لأمي وأنا أنزلق من بطنها :" بنتك منذورة ، ولم تنجح بقطع حبلي السري بمهارة كما اعتادت، من سرتي الغائرة نبتت أسراري كلها ..الجميع نهرني طفلة كلما لمست سرتي (أمي ،دايتي،جدتي وأيضا أبي الذي قال:"أتدرين لقد دخلت الأفعى جسد آدم وهو عجينة طرية من سرته ونثرت به الغواية وأخبرته عن كائن لطيف اسمه حواء".
كم تضاحكوا وكذبوا :"وجدناك هنا أسفل شجرة التين تصرخين وقد اتسخ قماطك، ألقت بك نورية (غجرية) ورحلت، على عكس ما ظنوا أحب خيالي المشهد وطربت لفكرة إنني ولدت هكذا فقس صاعقة أو طفلة رعد أو من هدير صوت ساكن التين (أبو رابوص المخيف) وبعكس ما ظنوا راق لي أن أكون نبت غجرية ضالة ،رفضت في أعماقي كل تصحيحاتهم المستقبلية بأنني ولدت بشكل عادي مثل كل الأطفال كنت أبحث بلا توقف عن ميلاد شهي وجارح الغرابة .
كانت دايتي ) تزورنا وتروزني بعينيها الضيقتين /وكأنها شريكة أمي في صناعتي/ كلما اصطدمت بها روت لي كيف ذعرت أمي من جنينها الصارخ بلون غير محدد ويسرة منفوشة وشعر فاتح وتسألني عن أحوال سرتي :"قلت لها (لأمك) ستناكفين بها سلفاتك والجارات وبيت عمك وكل السمراوات" وتضحك دايتي فيهتز بطنها أسفل ثوبها الأبيض الناصع على الدوام (الشاهدة الأولى على جنس المولود والمتطلبة الثرثارة التي تروي ما لا يروى وتصف ما لا يوصف، تنفتح شهيتها لعطاء سخي لميلاد ذكر،وتتواطأ بمكر مع النساء لتمرير ميلاد أنثى جديدة) فهي على الدوام من يقوم بهذه الخطوة تحمل المولودة بقماطها :"البشارة يا أبو فلان أجتك عروس ولا يرد الرجال عطيتها فهي دايتهم جميعاً وأول من رأى عوراتهم وصراحة ذكورتهم ،من بالقادر على رد دايته .
تمرض "الداية" وتثرثر لسنوات بدعوى محملة باللعنات على كنتها التي طردتها صارخة في ميلادها الأول وكالت لها السُباب وأسمتها داية السوء،جلست خارج مهمتها مكفهرة، طالتها حسرة لم تفارقها حتى وهي تخرف في شيخوختها وتغني :"أول جيزة يا محمد على البيض قعدتني".
الداية التي مرت عليها أرحام النساء فشلت في اختيار الرحم المناسب لأحفادها فكانت الأولى عاقراً وطيبة والثانية عاقة وبرحم فائض والثالثة راودتها ما تبقى لها من سنوات كأمنية لا ترد ولا تتحقق.
كلما مرت الصبايا عابرات من نظرها الضعيف تتحرش بهن بصوت آمر وتسأل بفطرة المنطق الأول:" بنت مين أنت مين أمك؟
المرأة الوحيدة التي تنسبُ كل المواليد لأمهاتهم. وتنادي النساء والرجال بتجريد وبلا كنية..

ماتت البدوية، استيقظت ذات صباح شربت شاياً ودخنت ثلاث سجائر كوعت في الظهيرة وهي تقضم حبات تمر قالت سأنام ولا يوقظني أحد وغابت.. هكذا مثل شال قذفته بالهواء يد مرحة وهبط بهدوء ويسر للأرض.. تركت فيّ وجهها الباسم كلما هرب نومي يتراقص وشمها وشالها المرصع بالزهور ليختطف يقظتي وأنام وقرط أنفها الذهبي يومض لي بغواية مدهشة..
غاب عقل الداية فانفرطت ذاكرتها حكايات متقطعة ومبتورة ترويها في صحوتها ومنامها وخلال شتائمها المتواصلة لكنتها وبحقد نحو الداية الجديدة (القانونية) والحاملة لترخيص ممارسة المهنة.
السر الوحيد الذي بقي طي الكتمان هو رحم (أم أسعد) والذي قذف الدم الفاسد لسنوات طويلة قبل أن يحوش جنيناً كاملاً كما تلاسنت النسوة وابنها يغسل جسدها وحيداً للمرة الأخيرة (حسب وصيتها) الشاب الذي حرمته هذه الأم من حبيبته ورفضت زواجه من الصبية التي ما هجس القلب بغيرها ليقين (أم أسعد ) أن رحم الفتاة عاقر ومستلب للفراغ.. أراها في بياضها وخطواتها المتعثرة وهي تحاول اللحاق بامرأة تصرخ بألم الميلاد أمد يدي لسرتي وأتأكد إنها معقودة بإحكام ولن تنفلت كما خشيت دوماً.. لا زلت متشككة يا دايتي ولا زلت منذورة لما لا أعلم..؟
كبرت بهواجس كثيرة وأسرار وحكايات ونذور لم تكن لي بالضرورة، خطفتني الأصوات ودائماً يتداخل لدي الزمن،لم أنم بعمق منذ كنت طفلة (فقط ما أن تسهو عيناي) حتى ينفتح عالم آخر يأخذ حصته كاملة من ليلي ،لا أتذكر إنني صحوت مرة دون أن أنزع نفسي بقوة من حلمي ،وكم فتحت عيوني وأصوات شخوص الحلم عالقة بشفتي، جفاف في الحلق أحياناً وطعم عسل حيناً، بقايا صرخة تارة وقهقهة صاخبة أخرى ولحن متوحش غريب ألمه من فوق جسدي ينساب متسللاً عبر سرتي (الداخل من حلم لا يخرج منه والخارج من حلم لا يدخل فيه) وجسدي مرهق كالعائد من سفر بعيد،منهك ومخطوف.. الغجرية تركت قماطها أسفل شجرة التين العتيقة، تضحك أمي كلما هممّت بالرقص.

آذار 2010








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا