الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العراق بعد اثنتين وثلاثين سنة (1)

سهر العامري

2011 / 4 / 30
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


العراق بعد اثنتين وثلاثين سنة (1) سهر العامري
هبطت بي الطائرة على أرض مطار النجف بعد غربة عن العراق دامت على مدى اثنتين وثلاثين سنة ، لم أزر وطني فيها لمرة واحدة قط ، وكانت دواعي تلك القطعية معروفة للكثيرين ، فالظرف السياسي الذي مر به العراق على تلاحق تلك السنوات كان ظرفا مدمرا سواء أكان ذلك أيام حكم الساقط صدام أم حكم حكومات ما بعد الاحتلال ، فقد عاد العراق في ظل ذلك الظرف بلدا محطما في كل جانب من جوانب الحياة فيه ، إذ تكالبت عليه كوارث الطغاة المجرمين مثلما تكالبت عليه كوارث الطبيعة القاسية ، فإذا كان صدام الساقط قد قتل الكثيرين من الناس ، وإذا كان الاحتلال ومن سار في ركبه قد قتلوا الملايين فإن الظرف الطبيعي قد قتل مياهه وصحّر أرضه ، ولكن رغم ذلك ظل العراقي صامدا على ما فيه من جروح ، وعلى ما أصابه من أمراض ، وما حل به من فاقة وجوع .
سألني غير ما واحد وأنا أطوف مدنا عراقية عدة امتدت من بغداد ، التي وقفت فيها تحت نصب الحرية من ساحة التحرير تضامنا مع أبناء العراق الميامين في محنتهم التي يعيشونها ، مستذكرا زمنا كنت فيه غير متخلف عن أية مظاهرة تطوف شوارع بغداد وقت تسلط حكومات جائرة ، وحتى البصرة التي جئتها منشدا ذات يوم قصيدة لي حين هبّ طلاب جامعة بغداد في إضرابهم الشهير أواخر الستينيات من القرن المنصرم :
للبصرة الفيحاء جئتُ أبشرُ .... صوتا يهز الظالمين ويقبرُ
أم الرشيد تضرجت بدمائنا..... أفما أتاك حديثها والمخبرُ ؟
سألني كيف رأيت العراق ! ؟ كان جوابي على ذاك السؤال كلمة واحد لا غير : محطم !!
نعم . العراق الآن بلد محطم بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى ... إنه فعلا يعيش الفوضى الخلاقة التي رسمها له الأمريكان ، والتي أحكموا صنيعها ، وأجادوا تنفيذها ، فهم بعد إسقاطهم للدولة العراقية ، وليس إسقاطهم للحكم وحسب ، رموا على العراقيين مهمة جد صعبة وهي بناء دولتهم من جديد بكل مقومات الدولة الحديثة التي تتطلب جهازا إداريا ناجحا ، تتطلب بناء جيش يحمي الوطن ويذود عنه ، تتطلب قيام أجهزة للشرطة والأمن ، هذا بالإضافة الى بناء مرافق الدولة الأخرى التي لا تقل أهمية عما ذكرته قبل قليل ، فالعراق بأمس الحاجة الى مدرسة حديثة ومستشفى متطور ، وطرق معبدة ، ومدن نظيفة غير مكتظة والى الكثير غير ذلك .
والآن يصعد من بين ركام العراق سؤال مهم هو : هل تستطيع حكومة في العراق ..أية حكومة أن تنهض بهذا العبء الثقيل .. عبء بناء الدولة من جديد ؟
رب قائل يقول إن العراق الآن فيه جيش وأجهزة شرطة وفيه دوائر دولة كثيرة فما هو المطلوب بعد ذلك ، والحقيقة هي أن هذا القول فيه شيء من الصحة ، ولكن كل شيء في العراق مخرب ويسير على غير هدى ، فالجندي العراقي هو ليس ذاك الجندي العسكري المنضبط ، وحال الشرطي ليس أفضل من حال أخيه الجندي ، والموظف في كل دوائر وفي كل المدن التي زرتها هو ليس ذاك الموظف الذي يتمتع بكفاءة معروفة عن الموظفين العراقيين الذين تخرجوا ليس من مدارس العراق وحسب ، وإنما هم صنيع جهاز إداري له مقدرة على إدارة شؤون الدولة ، هذا في وقت كان الموظف فيه له رادع من نفسه يمنعه من التسيب أو التهاون في عمله ، بينما نجد الموظف اليوم الذي يراد له أن يسير البلد مغرما بكثرة الأوراق ، وكثرة التواقيع ، وعدم الالتزام بأوقات الدوام ، يضاف الى ذلك عدم احترامه للمواطنين الذين يراجعونه في دوائر الدولة ، وهو بالإضافة الى ذلك يعمل بوعي منه أو من دون وعي على إذلال الناس حين يغلق أبواب الدوائر في وجوههم ويتركهم وقوفا أمام تلك الأبواب أو حين يجبرهم على الوقوف في سطور طويلة من أجل الظفر بتوقيع على ورقة يريد المراجع من ورائها إنجاز عقد زواج أو تمشية معاملة ما ..
سألت كاتب عدل في أحد المحاكم من مدينة عراقية بعد أن طلب مني أن أمضي بإبهامي الأيسر أربع مرات ، سألته : لماذا أنت مغرم الى هذا الحد بكثرة الإمضاءات ؟ قال : يا أستاذ مع كثرة الإمضاءات هذه وهم يزورون .قلت له : وما ذنب الرجل الصادق الذي لا يزور ؟ ولماذا تحمله وزر غيره ؟ وأنت في محكمة يتطلب منها أن تكون عادلة .!
ليس هذا إلا مثال واحدة على انعدام الرؤية الصحيحة التي يجب أن تعالج بها الأحوال المتردية في العراق ، وسبب انعدام الرؤية الصحيحة هذه هو أن أغلب الكادر الذي يدير دولة العراق ما بعد الاحتلال هو كادر حديث العهد بالعمل الوظيفي ولا يملك خبرة تؤهله للقيام بعمله وبتوجه صحيح ، وربما لا يملك الشهادة الدراسية المناسبة لطبيعة العمل ذاك ، وتلك الصفات تنطبق بشكل خاص على أولئك الذين يقودون العمل في العراق الآن .
يضاف الى ما تقدم الفساد المستشري في جسد تلك الدولة ، والعمل بروح الطائفية المريضة أو بروح الحزبية الضيقة ، حتى صار لهذه المفاهيم احترام خاص عند البعض من ضعاف النفوس الذين استبد بهم مرض الطائفية والحزبية الكريهة من جانب ، ومن جانب آخر صارت تلك المفاهيم ممقوتة بدرجة كبيرة من قبل العراقيين الوطنيين الذين يقدمون مصلحة الوطن والشعب على كل مصلحة أخرى ..
بعد أن انصرفت من ساحة التحرير برفقة صديق طفولة هزوء لي ننشد سيارة إجرة تحملنا الى بيت صديق لنا في مكان ما قريب في الباب الشرقي من بغداد ..قلت لصديقي دعنا نسأل السائق فيما إذا كان شيعيا أم سنيا حسب مفهوم المستر بريمر ومن جاء في ركبه .. قال صديقي لتسأل صاحب التكسي هذا !
تقدمت نحوه كان شابا في نهاية العقد الثالث من عمره ، زادت شمس بغداد من سمرة وجهه قلت له : تحملنا الى المكان الفلاني شرط أن تفصح لنا عن هويتك الطائفية .. قال ولماذا ؟ قلت له : أنا شيعي وسأعطيك ألفي دينار إذا كنت شيعيا أما إذا كنت سنيا فسأعطيك خمسة آلاف دينار... ضحك وقال: والله العظيم أنا سني !
أعطيته خمسة آلاف دينار وكان الضحك قد غلبنا حتى ونحن نسير معه في سيارته الى المكان الذي نريد!
يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. علماء يضعون كاميرات على أسماك قرش النمر في جزر البهاما.. شاه


.. حماس تعلن عودة وفدها إلى القاهرة لاستكمال مباحثات التهدئة بـ




.. مكتب نتنياهو يصيغ خطة بشأن مستقبل غزة بعد الحرب


.. رئيس هيئة الأركان الإسرائيلي: الجيش يخوض حربا طويلة وهو عازم




.. مقتل 48 شخصاً على الأقل في انهيار أرضي بطريق سريع في الصين