الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ظلال للسقطات

زياد شاهين

2011 / 5 / 1
الادب والفن


ظلال للسقطات
نصائح جدي
(1)
يضيقُ ما اتّـسعَ من فرحٍ أو غبطة في ثنايا حشاشتي ، قد أبلغُ في لحظـة مأزومـة سماءَ الإرباك والتساؤل :
-جدي يا جدي ، أعتذرُ منك لأنني أيقظتـُك من موتك الأخير ، ما العملُ ؟ ما رأيك بهذا الشخص المشتعل في الركن ، يلسعني بجمرات نظراته ، وبحق السماء والأرض والزيتون والتين أنني لم أره من ذي قبل ، كائناً كان أو خيالاً مـرّ في أحلامي المتعددة ؟
(2)
أشعر بالفرح لأنني تجرأتُ وأيقظتُ جدي وكسرتُ عظامَ الخوف والرهبة ،جدي يحبني كثيراً ويقسمُ دائما أنه يستطيعُ أن يحققَ لي كلَّ طلباتي المستحيلة وأنا محتاجٌ إلى نصائحه الصائبة والثاقبة ، هو ميتٌ من ربع قرن أو أكثر ، مثل الكثير من الأحياء المتشبثين في هذه الحياة ، ويبدو لي أنه في الطريق إلى الجنة المنشودة ، أتمنى له ألا يضلّ الطريق ، لأنه نذرَ نفسَه في الذود عن شجرة زيتون ، كان قد غرسَها أبوه في البستان المرشح لمواجهة المجنزرات الدامية والاستئصال المشروع آنذاك. هو وشجرة الزيتون توأمٌ مغروسان في أرض طيبة ومقدسة، وفي أعلى فروعهما تنبتُ ثمارُ الشجاعة والمروءة والفخر والحكمة.
(3)
أذكر أنه كان يرتدي قمبازاً من حرير الأطلس المـُـقـلّم ، ويعتمرُ فوق رأسه حطـةً بيضاءَ وعقالا أسودَ لم يفارقْ رأسَهُ ، منذ لقاء الدموع والفرح مع أحد أصدقائه من مدينة نابلس ، والذي أهداهُ العقالَ تعبيراً عن صداقـة أبدية لم يصدعْها الاحتلالُ المتكرّرُ، وكان يختالُ كالطاؤوس حتى غدرَ بـه جوادُه الأبيض الأصيل وسقط عنه ، مشهدٌ متكررٌ في أيامنا ، وأصيبَ بشلل نصفي لم يثـْـنـِهِ عن الخروج من البيت ، ولم يسلبْـه التلذذ في إبداع النكت الساخرة والقصص النابضة والأغاني الشعبية التي وُئدتْ ورميناها بالحجارة العصرية .
(4)
في أحدى الصباحات ، عندما وقفَ جدي أمام بيته في الحارة الغربية ، لمحَ جاره أبا صالح في الجانب الآخر من الشارع ، وأبو صالح رجلٌ مـسنٌ جارَ عليه الزمن ، ومرضَ بداء الشلل ، يتكأ على عكازتين ،يسيرُ بخطوات وئيدة جداً، فتخالُـه أنه واقفٌ لا يتحرك ، يحاولُ أن يقطعَ الشارع ، الأمرُ الذي يتطلّـبُ منه الكثيرَ من الصبر والوقت بسبب حالته التعيسة ، وما أن رآه جدي حتى ضحكَ ضحكة مجلجلة وصاح بأعلى صوته : وين شارد يا غزال الحي ؟ هذه الحادثة ، نزرٌ يسيرٌ من القصص والحوادث التي روتها لي أمي ، بعد أن رحلَ جدي ليسكنَ بجوار ربـه ، وكم كنتُ أشعرُ بالنشوة والعزة كلما سمعتُ هذه القصص !
(5)
( تنبيه : الرجاء عدم قراءة ما يلي من النص على أسماع الأطفال وضعفاء القلوب والعقول ، من باب المسؤولية ونبذ العنف المتفشي والوحشية المقرفة في عالمنا )
- جدي يا جدي ما العمل ؟ ماذا علي أن أفعل ؟

جدي ، قد بدا عليه الغضبُ والتوتّـرُ ، يمناهُ وحتى يسراهُ المشلولة ترتفعان في الهواء وتؤلفان مع لسانه لغـة بركانية ، صوتـُه مخنوقٌ يجثمُ عليه الغبارُ والتراب ، يرفع يمناه ، يُبْعدُ أصبعيه المنتصبتين السبابة والوسطة كأنهما صاروخان ، ويضمُّ بقية أصابعه إلى بطن كفـه ويصرخُ كالمصعوق : أغرزْ أصبعيك في عينيه ، أقحفْ عيني أبن الساقطة هذا وليكن ما يكون !
نصائح أبي
(1)
ليكن ما يكون ! وماذا سيكونُ غير الذي كان، وكيف يكون ؟ ، لا جديد في محاورة الزيتون والتين والعنب ، تعبتُ وسئمتُ من محاورة الأحياء فكيف محاورة الأموات ؟ وكيف محاورة الأشجار ؟ سأزيلُ عن أصابعي بقعَ الدماء ونصائح جدي ، يا إلهي كيف سقطتُ في هذا الشرك اللامتناهي ؟ ماذا سأقولُ لأبي ؟ ماذا سيقولُ لي أبي ؟ أبي يا أبي عندما ستمرُّ في منامي في هذه الليلة السوداء ، كعادتك المباركة في كل ليلة ، انتظرْني أتوسّلُ إليك أن تنتظرني ، لا أريدُ أن أزعجـَك أو أن أغضبـَك في موتك ، أنا لم أقطعْ شجرة الزيتون ولم أبنِ بيتاً مكانها ولم أقطعْ الشعرة التي امتدتْ بيني وبين الناس ، وصيتُك المحفورة في قلبي ، أنت ملاذي وعزيمتي ، والسراجُ السماويُّ سراجُ الحكمة الذي تتقمّصُ حياتي نورَه المشع ، انتظرني يا أبي لا سبيلَ لي في الصعود من سقوطي المزمن !
(2)
يتّخذُ أبي خصالَ العاصفة ، في هدوئها ينسابُ كلامُه سلسبيلاً ، يلامسُ جدرانَ حياتنا ويمسحُ ما تكدّسَ فوقها من غـمٍّ وهـمٍّ ، ويحضرُ لنا الكثيرَ من الهدايا المتنوعة والاطعمة المشتهاة والملابس الأنيقة . وعندما يثورُ يتجاوزُ هبوبَ العاصفة ، فنهربُ منه ونتمنى أن يمرّ هذا اليوم العاصف بسلام وأمان ، والمشكلة إن أبي كان في رحلة صراع دائم ، في توفير وتأمين متطلبات افراد عائلتنا الكبيرة العدد ، ومتجرُهُ المتواضع لم يُعْطِـه الأمان والهدوء في ذلك .
(3)
كان أبي متواضعاً وجريئاً والأهم صادقاً ، يكرهُ الكذبَ والتذبذبَ والاستجداءَ مثلي ، ذو حنكـة وحكمة وسياسة في معاملته مع أهالي قريتنا ، ويوم اختبرتـْهُ الأيامُ في مشكلة أبن عمي ، خرجَ منتصراً كعادته ، واستغربَ الاقاربُ كيف استطاعَ ابن عمي ان ينجو من السجن المؤكد ، والجرم المشهود : رسم الصليب المعقوف على احدى ستائر البلاستيك في الباص الذي استقلّهُ في مدينة حيفا ، وعندما رأى السائقُ فعلتَه في المرآة توقّفَ فجأة واستدعى الشرطة التي اقتادتـْهُ الى التوقيف للتحقيق في الأمر ، وفي المحكمة في مدينة حيفا ، طلبَ أبي حقَّ الحديث ، وشرحَ للقاضي ان هذا الشاب صغير السن ، غير ناضج فكرياً ، لا يعرفُ شيئا عن هذه الشارة الموبوءة ، علم الدولة النازية ، تلاها بشرحٍ موسّعٍ عن النازية وجرائمها البشعة ضد الإنسانية وعن هتلر الذي لن يغفرَ له التاريخُ عن اعماله الفاشية ، ليس هناك أي سبب أن يفعلَ الشابُ ما فعله ، وتعهّدَ أن يهتمَّ بأمر أبن اخيه وان يُلقي عليه مهمـةَ شرح مفصل عن الأعمال الفاشية التي قامتْ بها النازية ضد الشعب اليهودي ، كاعتذارٍ وتكفيرٍ عن فعلته .
(4)
لا أسمعـُكَ يا أبي بوضوح : الاحتمالُ ان هذا الشخص لا ينظرُ إلي ؟! ربما كان ينظرُ في الفراغ المشيد في المقهى ؟! ربما كان ثمـلاً ؟! لماذا لا أذهبُ غداً الى هناك ، أجلسُ في المقهى وأنتظرهُ ؟! هذا ما تنصحني به يا أبي ؟! وحين يحضرُ اقتربُ منه ، ادعـوهُ لشرب القهوة أو الشاي ، وأفاتحَـهُ بالأمر ، أسألُهُ عن كلّ شيء ، لماذا يطلقُ علي كلَّ هذه النظرات الشرسة ؟! أدَعُ الحوارَ بيني وبينه حواراً مسؤولاً وواضحاً بدون تعقيدات وترميز ، أعبّرُ فيه عما يؤلمُني ويشغلُ بالي ؟!
أني قلـقٌ ومتوترٌ يا أبي ، أين أنت ؟ أين أنت ؟
Paranoid schizophrenia
(1)
زوجتي ذكيةٌ جداً ، ليس في اختيارها لي طبعاً ، بل في تحليل ما حدثَ وما يُمكنُ أن يحدثَ ، وهي لم تقرأ الفيلسوفَ "ديكارت" ولكنها تميلُ إلى الشك الركيزة الأولى للوصول إلى الحقيقة ، بفضل تجربتها وعلاقاتها مع الآخرين ، لم تقرأ أو تفتحْ في فناجين القهوة شأن الكثير من مجتمعنا ولكنها تنجحُ أحياناً في التنبؤ بما سيحدثُ ، حدسٌ أو ربما الهامٌ ربانيٌّ ، أو شـكٌّ مدروسٌ ، لا أرفضُ لها طلباً حتى لا أتشاجرُ معها .
(2)
في الصباح ، قررتْ أن ترافقني أو تصحبني رغم أنفي إلى طبيب نفسي ، الحقيقة إنها رتبتْ موعداً مع الطبيب دون علمي لتأكدها إنها تستطيعُ أن تأخذني في هذه النزهة المميزة غصب عني .
(3)
- زوجُك مصابٌ بداء Paranoid schizophrenia ، يجبْ علاجُهُ . يعتقدُ أو يتخايلُ ان البعضَ يلاحقونه ويطاردونه ، إلى جانب أن هناك انفصاماً مزمناً في شخصيته ، يجبْ علاجُهُ قبل أن يتفاقمَ الأمر ، ويتأزّمُ الوضع.
- يتفاقمُ الأمر ، انفصامٌ مزمنٌ في شخصي ، علاجٌ أيُّ علاج ؟
زوجتي لم تنبسْ ببنت شفة ، يبدو عليها القلقُ والحيرةُ والارتباك .
- لكن يا دكتور أقسمُ لك : كان هناك شخصٌ يجلسُ في الزاوية في المقهى يُصوّبُ نظراته إلي محاولاً ان يفترسني ، شخصٌ : لحماً ودماً وعظماً وشعراً ووجهاً وعينين ذئبتين ، رأيتُه كما أراكَ أمامي ، ليس خيالاً أو سراباً أو شُـبِّهَ لي !
قل لي كلاماً صادقاً أيها الطبيب ، لو أنا عملتُ بنصيحة جدي وغرزتُ اصبعي في عيني هذا الشخص ، هل توقّعُ لي تصريحاً عن مرضي الخطير كما يحدثُ في بلادنا ؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فقرة غنائية بمناسبة شم النسيم مع الفنانة ياسمين علي | اللقاء


.. بعد تألقه في مسلسلي كامل العدد وفراولة.. لقاء خاص مع الفنان




.. كلمة أخيرة - فقرة غنائية بمناسبة شم النسيم مع الفنانة ياسمي


.. كلمة أخيرة - بعد تألقه في مسلسلي كامل العدد وفراولة.. لقاء




.. كلمة أخيرة - ياسمين علي بتغني من سن 8 سنين.. وباباها كان بيس