الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من أجل حزب يمثل العمال والفلاحين الفقراء في سورية - الواقع الراهن ومهماتنا

سلامة كيلة

2011 / 11 / 12
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية




إنحكم الوضع السوري منذ تسعينات القرن العشرين لمتغيّر عالميّ، تمثّل في انهيار المنظومة الاشتراكية ونهاية الحرب الباردة، وبالتالي تحوّل الولايات المتّحدة إلى «القطب الأوحد» وميلها للتفرّد في تقرير مصير العالم مستندة إلى تفوّقها العسكري المطلق. بعد أن كان قد إنبنى الوضع منذ الخمسينات على أساس التناقض بين الرأسمالية والاشتراكية، أو بين الولايات المتّحدة والإتحاد السوفييتي، في إطار ما أُسمي الحرب الباردة، التي سمحت بنشوء ميزان قوى عالمي ساعد البلدان المتخلّفة على أن تستقلّ وأن تطمح بتحقيق أهداف كانت السيطرة الإمبريالية تمنعها بالقوّة في الغالب، من هذه الأهداف: التطوّر الاقتصادي وبناء الصناعة، الطموح لتحقيق التوحيد القومي، تطوير القدرات العسكرية، واستقلالية دور الدول في العلاقات الدولية.
بمعنى أن هذه البلدان تمتّعت بحرية المناورة إلى أبعد مدى، كما باللعب على التناقضات. وهذا ما سمح بتحقيق تطوّر معيّن، حيث جرى تدمير البنى الاقتصادية الاجتماعية القديمة ( الإقطاعية )، وبُدِء ببناء الصناعة وتطوير الاقتصاد. لكن طبيعة الفئات التي حكمت، أسّست لنشوء سلطة استبدادية عِبْرها كان يتمّ تحقيق مصالح تلك الفئات، من خلال نهب الرأسمال المتراكم في يد الدولة، والذي نتج عن التأميم والمصادرات، وبالتالي توظيفها في «البناء» الذي بات مشوّهاً نتيجة ذلك. ولكن كانت الحركة السياسية بمجملها تتدمّر، ونشأت أجيال لم تولِ اهتماماً للشأن العام، وبالتالي لم تدخل ميدان النشاط السياسي.
هذا الوضع فرض إعادة البحث من جديد عن أفق للتغيير، حيث تتفاقم الأزمة الاجتماعية نتيجة الوضع المعيشي الصعب الذي باتت تعيشه الطبقات الشعبية، بعد التسارع الذي حكم عملية الخصخصة وتعميم الاقتصاد "الحر"، لكن المهيمن عليه من قبل الرأسمالية الجديدة (مع حصة للرأسمالية القديمة). وتقف استبدادية السلطة في وجه كل محاولات تفعيل الحراك المجتمعي، وهي تدافع عن هذه الرأسمالية التي لها طابع مافيوي واضح، وتسعى للتشبيك مع الرأسمال الإمبريالي من أجل تحقيق مصالحها. رغم "التناقض" الذي يحكم علاقتها مع ذلك الرأسمال، وخصوصاً مع الإمبريالية الأميركية. والذي يبدو كـ "تناقض" شكلي لأن الخلاف فيه هو حول شكل السلطة أكثر منه خلاف حول سياسات وأهداف.
وبالتالي فإذا كانت التناقضات الطبقية تتصاعد نتيجة الوضع الاقتصادي، فإنها تتصاعد في إطار وضع عالمي مقلق، وأخطار تعصف في كل المنطقة، انطلاقاً من الميل الإمبريالي الأميركي، والأوروبي إلى الهيمنة وفرض تغييرات عميقة في الجغرافيا السياسية لها. لهذا تعيش سورية وضعاً مربكاً، ومنذراً بتغيّرات عميقة نتيجة تراكب أخطار متعددة، في وضع تبدو فيه قوى التغيير هامشية ومشتتة، وبعضها يتشابك مع الضغوط الإمبريالية.

القسم الأول:
حول الواقع القائم

حدود التغيير وإمكانات مختلف القوى
1) إذا بدأنا بعزل الوضع العالمي والدور الأميركي في الضغط والتغيير، يمكن أن نطرح السؤال: هل هناك إمكانية لتحقيق التغيير من الداخل؟ أي بقوى داخلية؟ سواء هدف التغيير إلى تغيير السلطة أو تغيير آلياتها فقط؟
من الضروري هنا أن نلمس ميزان القوى الداخلي، وطبيعة التوازن بين السلطة كقوّة حاكمة والحركة السياسية المعارضة. ولكن من الضروري أن نلمس كذلك حدود الحراك الاجتماعي، لأن أيّ تغيير، أو أيّ ضغط، لن يكون ممكناً دون قوّة اجتماعية. فقد استندت السلطة في فِعْلها التدميري للحركة السياسية (سواء بدمجها بالسلطة عبر الجبهة، أو بوضعها في السجون وشلّ حركتها المجتمعية) إلى التكوين الطبقي الذي أسهمت في تشكيله، من خلال الإصلاح الزراعي الذي وسّع من الفئات الوسطى في الريف (صغار ملاّك الأرض)، وأيضاً ربط مصلحة الفلاّحين بالدولة عبر الدور التسويقي الذي لعبته، وكذلك دورها في توفير المواد الضرورية للزراعة (البذور والأسمدة واللقاحات والمبيدات). كما من خلال التأميم والتوسّع في التصنيع، الأمر الذي سمح بإيجاد فرص عمل لجيش العمل الاحتياطي الذي تحرّر من الريف بعد قانون الإصلاح الزراعي والقضاء على الإقطاع. ولقد كانت الدولة المجال الأكبر للتوظيف، في الجيش والأمن والإدارات، مما وسّع كذلك من قاعدة الفئات الوسطى المدينية. وفي إطار كلّ ذلك حقّقت الدولة العديد من المطالب العمالية، فأقرّت تحديد ساعات العمل بثماني ساعات، وحقّقت الضمان الاجتماعي والصحّي، وحقّ العمل ذاته. إضافة إلى تحقيق التوازن بين الأجور والأسعار عبر ضبط الأسعار والتحكم بالتجارتين الخارجية والداخلية. في الوقت ذاته الذي إنفرض فيه التعليم المجاني الذي لامس أحلام فئات واسعة خصوصاً في الريف الذي كان يشكِّل الكتلة الأساسية من السكان، والكتلة الأساسية التي كانت تعاني أقسى أشكال الاضطهاد الإقطاعي.
و بالتالي تشكّل تكوين طبقي تغلب عليه سيطرة الفئات الوسطى الريفية والمدينية، وتحقّق فيه وضع أفضل للطبقات الفقيرة (العمال والفلاحون الفقراء). وأصبحت الدولة تستحوذ على كتلة أساسية من قوّة العمل، سواء كان عملها في الإدارات أو في المشاريع المملوكة للدولة، أو لها مصلحة في العلاقة مع الدولة (خصوصاً هنا الفلاّحون، وحتى فئة التجار والصناعيين). هذا الوضع كان يقود حُكماً إلى حالة من «الاستقرار الطبقي»، ودعم اجتماعي من كلّ هذه الفئات للسلطة. وبالتالي توفير المقدرة للسيطرة على اتحادات العمال والفلاّحين والطلبة خصوصاً، قبل السيطرة العنيفة على باقي الاتحادات المهنية، التي مثّلت الفئات الوسطى المدينية المطالبة بالديمقراطية خلال أزمة سنوات 1979/ 1980.
هذه الملاحظة الأخيرة يمكن أن تلقي الضوء على مشكلة سوريا نهاية سبعينات القرن الماضي، حيث نشأت المعارضة من طرفين، الأوّل: هو الفئات الوسطى المدينية التي بدأت تحلم بتحقيق الديمقراطية. ولقد سار في هذا المسار أحزاب متعدِّدة هي التي شكّلت «التجمّع الوطني الديمقراطي»، لكنها شملت فئات مهنية عملت في اتحادات المهندسين والمحامين والأطباء بدرجة أقلّ. والثاني: جماعة الإخوان المسلمين التي عبّرت عن فئات وسطى مدينية كان التطوّر الاقتصادي يهمّشها، وأقصد بالأساس الحرفيين وصغار التجّار، أو البنية التجارية الحرفية التقليدية التي كانت تشكّل عَماد المدن. ولقد جمعت بعض الفئات الريفية في مناطق كانت لازالت مغرقة في التخلّف (حوران وريف حلب خصوصاً). وبين هذا وذاك كان صراع البعث العراقي ضد السلطة من موقع الحلم بالوصول إليها دون أن يكون له أيّ برنامج مختلف، أو رابطة العمل الشيوعي (ثم حزب العمل الشيوعي) التي انطلقت من أن الرأسمالية استنفدت ضرورتها، فاعتقدت بأن الواقع يفرض الانتقال إلى الاشتراكية، وإنْ من أجل تحقيق «البرنامج الانتقالي» أولاً. وبالتالي تضادّت مع الحركة الأصولية ولم تقبل برنامج «التغيير الوطني الديمقراطي» الذي طرحه التجمّع.
و فيما عدا تلك الفئات الوسطى التقليدية والمهنية، كان التكوين الاجتماعي خارج الصراع القائم. حيث كان إما داعماً للسلطة نتيجة مكاسبه، أو محايداً نتيجة وضعه المستقرّ. حتى أن قطاعات أساسية من البرجوازية التقليدية كانت متحالفة مع السلطة، وكيّفت مصالحها معها عبْر تحالف «موضوعي»، رغم «تدخّلات القوّة» التي قامت بها فئات من السلطة لـ «الشراكة» الاقتصادية مع هذه الفئات، والتي بدت كـ «خوّة». لكن البرجوازية في المقابل استفادت من نهب الدولة بطرق شتّى (المشاركة في مشاريع عبر القطاع المشترك، والتهريب والتسويق للدولة).
و بالتالي كان الصراع (خارج صراع الإخوان المسلمين) يتّخذ شكلاً «سياسياً» فقط، دون قاعدة اجتماعية، وفي إطار مطالب ديمقراطية عامة كانت تعبّر عن ميول فئات وسطى مدينية (رغم وجود بعض المطالب الأخرى المحدودة)، في مواجهة سلطة امتلكت قوّة هائلة نتيجة استنادها إلى قاعدة اجتماعية واسعة. الأمر الذي مكّنها من بناء أجهزة أمنية قوية رغم ضعف فاعليتها، ومستفيدة من الإطار الطائفي في ذلك لضمان الولاء المطلق. مما أسّس لنشوء سلطة مستبدّة فائقة القوّة ومتمكّنة. وبالتالي كانت قادرة على فرض هيمنتها على النقابات والاتحادات والمنظمات التي أنشأت معظمها، وكذلك على المدارس والجامعات، وفي الغالب على المؤسسات الدينية والنوادي الرياضية والمنتديات. أيّ على كلّ أركان المجتمع المدني وعلى معظم أركان الحياة الاقتصادية، والتعليم. وعلى الجيش بكلّ تأكيد. وكذلك على الحياة السياسية بالطبع، خصوصاً بعد دمج أحزاب لها تاريخ مثل الحزب الشيوعي السوري في الجبهة الوطنية التقدمية التي كانت الغطاء السياسي لممارسات السلطة، وفي الوقت نفسه «الدليل» على تعدديتها! لتبدو السلطة وكأنها تبتلع المجتمع، حيث السياسة المحكومة من قِبل الأجهزة الأمنية تهيمن على الاقتصاد والتكوين الاجتماعي وعلى «الحياة العاديّة»، أيّ على تفاصيل حياة المواطنين «من المهد إلى اللحد»، وهو الأمر الذي أسّس لنشوء السلطة الشمولية.
و كان هذا الوضع يفرض تهميش الحركة السياسية: الملتحقة بالسلطة، والتي أصبحت آلياتها متوافقة مع آليات السلطة، ومحدَّدة بها، وبالتالي لم تكن قادرة على الخروج عنها. والمعارضة التي تعرّضت لضربات أمنيّة قوية، دمّرت قواها، وحوّلتها إلى هوامش، حيث عانت من كون معظم كادرها قد دخل السجون، ومنْ بقي عاش متخفّياً وفي وضع صعب. لكن الأهمّ هنا أن ذاك التكوين الاجتماعي الذي وُجد (والذي كان يعبِّر عن مرحلة انتقال من نمط قديم/ إقطاعي جرى تدميره، إلى آخر جديد كان يتشكّل دون أن يعني ذلك أنه سينتصر) أسَّس لنشوء أجيال لم تدخل المجال السياسي، وظلّت بعيدة عن التفكير والعمل السياسيين، رغم تفتّحها على آفاق من الوعي كبيرة نتيجة التطوّر العام العالمي وتقنيات التواصل والتطوّر المعرفي (بعكس الواقع الريفي السابق الذي جعل المعارف محدودة وإمكانيات التواصل شبه معدومة، مع استمرار الثقافة التقليدية، وهو ما حكم الحركة السياسية السابقة). الأمر الذي فرض إحداث قطيعة بين الحركة السياسية بمختلف أطيافها (فيما عدا حزب السلطة الذي استقطب كل منْ يسعى إلى امتياز مادي أو معنوي، رغم أن هؤلاء ظلّوا دون معرفة سياسية)، وبين المجتمع الذي كان يتشكّل من أبناء هؤلاء الذين حصلوا على الأرض، أو الذين أصبحوا عمالاً أو موظّفين، في دولة باتت هي ربّ العمل الكبير. وإذا كان قد تهمّش وضع الريف السياسي، وكذلك وضع العمال السياسي نتيجة هيمنة السلطة، وبات هؤلاء «يعيشون الحياة» فقط، وما دام كلّ ذلك قد أوجد استقراراً اجتماعياً، فإن «أبناءهم» الذين أصبحوا طلاباً باتوا غير معنيين بالنشاط السياسي، خصوصاً وأن قوّة السلطة القمعية أشارت إلى الخطر الذي يلاحق كلّ منْ يمارس هذا النشاط، إضافة إلى أن «مصالحهم المباشرة» لم تَعُدْ تؤسِّس الدافع للانخراط في العمل السياسي.
وهذا الأمر كان يهمّش الحركة السياسية من جهة، لكنه كان يحوّلها إلى حركة هرمة من جهة أخرى. لأنها لم تَعُدْ تُرفد بناشطين جدد، مما قلّص من مقدرتها وفاعليتها وامتدادها. وحيث باتت متشرنقة في وعيها «القديم» دون رفد جديد، وبالتالي دون المقدرة على رؤية المتحوّلات. مع ملاحظة أن وعيها وتصوّراتها كانت إشكالية، وهذا ما يحتاج إلى بحث جادّ، لكنه كان ينعكس على مقدرتها على وعي التحوّلات التي جرت منذ الوحدة المصرية السورية سنة 1958، وخصوصاً منذ انقلاب آذار سنة 1963. وبالتالي تقديرها للدور الذي يمكن أن تلعبه في الوضع الجديد. وكان ذلك سبباً في أزمتها وتهميشها، حيث أن معظم المهام التي نادت بها لم تخرج عمّا تحقّق، وبعضها كان طموحه أقلّ مما تحقّق، مثل الحزب الشيوعي مثلاً.
ولاشكّ في أن السلطة تسير نحو الضعف والهزال منذ بدء الأزمة الاقتصادية سنوات 1985/ 1986، نتيجة تناقص المساعدات القادمة من الدول النفطية، ووضوح ارتباك البناء الاقتصادي الذي تحقّق خلال عقدين، ومن ثَمّ تصاعد النهب الذي بات قانوناً عاماً، وفرض نشوء تمايز طبقيٍّ واضح خلال العقود الأربعة السابقة، حيث قلّة باتت تمتلك مليارات الدولارات هي تلك التي تبوأت مناصب كبيرة في الدولة، وأكثرية مفقرة. وإلى تأزّم وضع «القطاع العام» وإفلاس شركات عديدة كانت تموّل من ميزانية الدولة، الأمر الذي أوقعها في وضع حرج. وبالتالي تشكّل «طبقة» تميل إلى التخلّص من دور الدولة الاقتصادي، وإلى احتكار السوق لمصلحتها المباشرة. وهو ما فتح الأفق لحراك اجتماعي بدأ في بعض الإضرابات العمالية، وبعض التحرّكات الاحتجاجية. وكذلك فإن الوضع الراهن يتّسم بوجود أزمة اقتصادية طالت الدولة نتيجة تراكم النهب وسوء التخطيط الاقتصادي وقلّة كفاءة المدراء والمسئولين، تنذر بانهيار اقتصادي، في الوقت الذي تتزايد فيه إمكانية تصاعد الحراك الاجتماعي. وفي وضع عالميّ ينذر بالخطر على السلطة التي باتت محاصرة ومهدّدة، وبالأساس على الوطن كله.
بمعنى أن الاستقرار الذي أفادت منه السلطة طيلة عقود بات في مهبّ الريح، وأن قوّتها باتت تتآكل بعد أن انفضت قاعدتها الاجتماعية عنها، وباتت تشكّل خطراً نتيجة أزمتها التي يمكن أن تدفعها إلى «التمرّد» والعصيان.
لكن رغم ذلك، لازالت الحركة السياسية تعيش وضع العقدين الأوّلين من سلطة البعث، وتعتقد بأن قوّة السلطة لازالت كما كانت، وأن الوضع الشعبي لازال كما هو، أو أنها لم تفكّر في النظر إلى واقع الطبقات الشعبية، وكذلك لم تلمس تآكل السلطة وانحدار قوّتها. وإذا كان قد أصبح بمقدورها الجهر بآرائها، فهي لازالت تعتقد بأن هذه السلطة مؤبّدة. ونتيجة الوضع الذي حاولتُ توصيفه للتو، حيث هيمنت السلطة على المجتمع (بالتالي بدا أن ليس هناك مجتمع أصلاً)، وحيث بدت السلطة هي الجبروت، فقد تمركز الخطاب المعارض حول الديمقراطية التي بدت أنها المطلب الوحيد، وتغلّّب الميل لمطالبة السلطة لتغيير ذاتها، أو الحلم بدور «خارجي» لتغييرها. ولقد باتت تتشكّل المعارضة من نخبة من السياسيين القدامى في الغالب، ومن مثقفين، منغلقة ومعزولة عن الواقع الاجتماعي، وبعيدة عن الحراك الاجتماعي الذي بدأ يتشكّل. ولاشكّ في أن التوترات الاجتماعية وحالات الإفقار التي باتت تطال قطاعاً واسعاً من الطبقات الوسطى والدنيا، أصبحت تشكّل الأساس لميل تديّنيّ لدى قطاعات اجتماعية، باتت تشكّل بيئة لحركات أصولية، مثل الإخوان المسلمين و«القاعدة» (أو التيار الوهابي عموماً الذي يبدو أنه هو الذي يقاوم أميركا)، وبالتالي أصبحت قاعدة أساسية لإمكانية تحوّل هذه الجماعات إلى قوّة فعلية. لكن لازال قمع السلطة وإمساكها الوضع الداخلي يمنع تلك الجماعات من الوجود القوي، رغم أن أيّ تحوّل في السلطة باتجاه «انفراج ديمقراطي»، أو نهاية السلطة، سوف يجعلها قوّة فاعلة، بعكس كل الأحزاب الأخرى التي ستبقى تمثّل النخبة السياسية الثقافية. وهذا لا يعني «تخويف» من طرح مسألة التغيير، بل يعني رؤية الوقائع كمقدمة للوصول إلى استنتاجات ضرورية لفعل اليسار الماركسي. وبالتالي يجب أن نلحظ بأن تقوقع النخبة ضمن خطاب «موحّد» دون تمايزات واختلافات هي في صميم الواقع، ويركّز على المستوى السياسي فقط، لن يسهم في أن تتقاطع مع الوضع الاجتماعي المتأزّم والذي يطرح أسئلة أخرى ويطمح إلى مطالب تتعلّق بعيشه قبل أن تطال الديمقراطية. وميزة الأصولية، والتي تجعل منها قوّة قادرة على التغلغل في النسيج الاجتماعي، هي في عنصرين، الأوّل الدين الذي يشكّل جسراً ما وإنْ كان غير كافٍ، حيث يمكن أن يعبّر كذلك عن توترات اجتماعية محدودة، والثاني الصراع العالمي للإسلام الجهادي ضد «الغرب»، وبالتالي تقاطعه مع الميل الشعبي الرافض للسيطرة الأميركية الصهيونية. وسنلمس بأن الموقف من التوترات الاجتماعية غائب لدى النخبة المعارضة، كما أن الموقف من الحرب الإمبريالية الأميركية ملتبس لدى قطاع منها، وهو غائب في فِعلها السياسي كذلك.
و إذا كانت الأزمة الاجتماعية قد بدأت عبر التفارق بين الأجور والأسعار، كما عبر نسبة الفقر التي بلغت وفق إحصاءات رسمية ما يقارب ثلث السكان ( 5،3 مليون شخص )، هم الذين يعيشون تحت خط الفقر ( الذي يساوي دولار واحد في اليوم )، رغم أن نسبة الفقر أعلى من ذلك إذا علمنا أن متوسط دخل الفرد لا يزيد عن مئة دولار، بينما تشير دراسات رسمية أجريت قبل أربع سنوات إلى أن متوسط الدخل الضروري للعيش يجب أن يقارب الـ 400 دولار ( 18 ألف ليرة سورية )، وهو مبلغ يساوي أضعاف متوسط الأجور الحالي. وهذا ما يدفع إلى الحراك الاجتماعي. وبالتالي فإذا كانت الأزمة الاجتماعية قد بدأت، فإن الوضع «الموروث» يشير إلى بطء الفاعلية الاجتماعية نتيجة «الخوف» الذي رافق المرحلة السابقة، رغم أن بعض الاحتجاجات قد بدأت، وأن التململ قد أصبح بادياً للعيان. وبالتالي فإن انفجار الوضع ليس قريباً، أو ليس الآن، رغم أنه بات يرفد السياسة بفاعلين جدد ليس من مؤشّر إلى قدرة الأحزاب القائمة على استقطابهم.
و رغم أن قوّة السلطة قد تراجعت، وباتت «مفككة» وهشّة ومأزومة، نتيجة الوضع الاقتصادي الداخلي وخطر تفجّر أزمات متعدّدة، وحدوث اضطرابات اجتماعية، كما نتيجة الوضع الدولي الضاغط، فإن ميزان القوى الداخلي لازال يميل لمصلحتها، حيث – وكما أشرنا – أن القوى المعارضة منحصرة في نخبة سياسية ثقافية «هرمة»، وهذا الانعزال هو الذي جعلها تضخّم من الحاجة إلى الديمقراطية كما نوّهنا قبل قليل، لأنها تعتقد بأن الانفراج الديمقراطي هو الذي سوف يسهّل لها التفاعل مع المجتمع، ويفتح لها أفق التحوّل إلى قوّة سياسية فاعلة. بينما تكمن المشكلة في مسائل أبعد من الاستبداد الذي يفرض المطالبة بالديمقراطية، رغم أهمية ذلك، تتعلّق بوعيها وبنيتها وأهدافها، وخصوصاً تحويل «الحلقة المركزية» التي هي الديمقراطية، إلى حلقة وحيدة، حيث يجري «اللعب» في فضائها دون لمس أسس الاستبداد وبالتالي مشكلات الطبقات الشعبية الناتجة عن النهب الذي كان الاستبداد غطاءه السميك. لهذا يجري تضخيم المطلب الديمقراطي واعتبار أنه هو «الحلّ السحريّ» لكلّ المشكلات، رغم أن الديمقراطية هي – في الوضعية التي نناقشها – آليات سلطة تنظّم الصراع بين قوى اجتماعية سياسية، وتحدِّد كيفية استلام السلطة وتنظيم الحكم. بمعنى أن رؤية الأحزاب للعمل السياسي، النابعة من وعي «بسيط»، هي التي تشكّل مبدأ تقوقعها، وهذا ما لن تحلّه الديمقراطية.
2) لاشكّ في أن انهيار المنظومة الاشتراكية ونهاية الحرب الباردة، قد وضعتا السلطة السورية في مأزق، حيث انتهت الظروف التي كانت تسمح بالمناورة، وبالتالي تحدّد الخيار في الخضوع للقطب الأوحد أو مقاومته، ولأن خيارات السلطة إنبنت على التوازن الدولي فقد باتت تميل إلى التكيّف منذ الاشتراك في الحرب الأميركية الأولى على العراق سنة 1990/ 1991، رغم أن السياسة الأميركية ظلّت تضعها في موقع ملتبس.
لكن المتحوّل العالمي كان عنصراً واحداً، حيث يمكن أن نلمس المتحوّل الداخلي. فقد قادت التجربة ذاتها إلى مشكلات حقيقية، وإلى وضع غير مستقرّ، أو يميل إلى التأزّم. وبات الوضع هشّاً وقابلاً للحراك.
فإذا كانت الإجراءات التي قامت بها السلطة في المرحلة الأولى قد أوجدت قاعدة اجتماعية عريضة تستند إليها، بفعل قانوني الإصلاح الزراعي والتأميم، وكلّ الإجراءات التي تتعلّق بحقّ العمل والضمان الاجتماعي ومجانية التعليم. وحيث بدا أنها تحقِّق تطوّراً في المجتمع. فقد بدأت الأمور تتوضّح بعد إذ، حيث سنلمس ثلاثة مسائل أساسية حكمت صيرورتها: أ) فقد تبلورت كسلطة فردية دكتاتورية تعتمد على حكم الأجهزة الأمنية، وتأسّست في شكل شموليّ هيمن على كلّ مفاصل المجتمع، من الإدارات البيروقراطية واحتياجات المواطن العادية إلى النقابات والاتحادات، إلى الحياة العادية للمواطنين ( الولادة والزواج والوفاة والحصول على الهوية والمشروع التجاري.....)، بحيث تغلغلت في مسام المجتمع وأصبحت حاضرة في كلّ مكان. وإذا كانت قد سمحت بكلّ نشاط شخصيّ، بما في ذلك السرقة والرشوة، فقد حرّمت النشاط السياسي حتى على القوى التي شكّلت «الجبهة الوطنية التقدمية». وبهذا فقد كانت تتعامل بعنف مع كلّ المعارضين، وتنهي المجال السياسي بشكل تامّ، في الوقت الذي كانت تلغي دورها كدولة لها مهمات تتعلّق بخدمة المواطن وتسهيل نشاطه العادي وتطبيق القانون.
و من هنا نبع الميل للتأكيد على الحريات الأساسية، وحقّ النشاط السياسي والديمقراطية، حيث أن نمط السلطة هذا كان تدخّلياً في المستوى السياسي والإداري إلى أبعد مدى، الأمر الذي قاد إلى توجيه ضربات عنيفة إلى أحزاب المعارضة أنهت بعضها، وهمّشت الآخر. كما قاد إلى حصر نشاط أحزاب الجبهة في إطارات محدودة أضعفتها إلى حدٍّ كبير. بحيث باتت الحركة السياسية تشكِّل هامشاً في الصورة العامة.
ب) وإذا كانت قد تحسّنت أوضاع فئات اجتماعية واسعة في المرحلة الأولى، حيث حصلت على أرض أو على عمل وعلى حقوق، وبالتالي أحسّت بتحسّن كبير في وضعها، تحسّن يوازي النقلة، فإن السنوات الماضية أعادت فرز الوضع الاجتماعي بحيث لم يعد تطوّر الأجور يوازي تصاعد أسعار السلع والاحتياجات الأساسية للحياة، لأن توزيع الثروة أصبح مختلاً لمصلحة فئة محدودة عملت على نهب موارد الدولة، وكانت تستفيد من المشاريع التي تمتلكها الدولة لتحقيق مصالحها الخاصة عبر طرق مختلفة كانت تودي بالمشاريع ذاتها وتنعكس خسارة على الدولة وبالتالي على المجتمع، وهو الأمر الذي يؤسّس الآن للحديث عن تراكم ديون تلك الشركات، وعن ضرورة خصخصتها لأنها أصبحت عبئاً على الدولة دون الإشارة إلى السبب الجوهريّ في ذلك، ألا وهو النهب، ودون التأكيد على أن هناك خيار آخر غير الخصخصة يمكن أن يُتّبع ويجب أن يُتّبع. وبالتالي فقد كان نشاط الدولة الاقتصادي، الذي أفاد قطاعات واسعة من مختلف الطبقات، مجالاً لنهب هذه الفئة للتراكم الرأسمالي الذي من المفترض أنه ملك للمجتمع، وتحويله إلى ثروة خاصة وُضعت غالباً في البنوك الأجنبية، الأمر الذي دمّر صيرورة التطوّر ذاتها وأوصلها إلى مأزق حتميّ.
و لقد أصبح واضحاً أن فئة قليلة باتت تمتلك ثروة هائلة بينما أفقرت قطاعات شعبية كبيرة، وتضعضع وضع الفئات الوسطى، مما بدأ يشكّل قطيعة بين هذه القطاعات ( التي كانت تشكّل قاعدة السلطة ) والسلطة ذاتها. وباتت أوضاعها سيئة، وهي في مرحلة يمكن أن يزداد السوء فيها نتيجة ارتفاع الأسعار دون ارتفاع موازٍ للأجور، ونتيجة الخصخصة والانفتاح على العولمة والتعميم الفظ لليبرالية الجديدة. كما سيقود ذلك إلى ازدياد هائل في عدد العاطلين عن العمل، وفي الحاجة إلى التعليم. وسيقود كذلك إلى انهيار الضمان الاجتماعي وتردّي الوضع الصحّي. وهذه كلها تفرض طرح مطالب جدّية وضرورية، وهي كلها ستكون أساساً لنشوء أزمات اجتماعية حقيقية، خصوصاً بعد تسارع تخلّي الدولة عن دورها عبر خصخصة سريعة، وانفتاح متسارع على «العالم الرأسمالي» كما حدث خلال سنوات 2006/2007 و2008.
جـ) والوضع الآن يشير إلى توقّف «التنمية»، حيث أن الميل الليبرالي فرض تراجع دور الدولة الاستثماري، دون أن يكون ممكناً أن يلعب القطاع الخاص الدور الضروري لتشغيل قوّة العمل الفائضة، ولتحقيق «التنمية» عبر التوظيف الضروري في القطاعات المنتجة. وسوف يؤدي الاندماج بالعولمة إلى انهيار ما بُنيَ وقطْع الطريق على أيّ ميل لبناء القوى المنتجة.
وبالتالي فإن القوّة التي إمتلكتها السلطة خلال مراحلها الأولى آخذة في التآكل، وأصبحت أضعف بعد أن انحسرت قاعدتها الاجتماعية. لكن وضع الحركة السياسية ضعيف، وفاعليتها محدودة، وتميل في الغالب نحو موقف ديمقراطيّ ليبراليّ، وبالتالي تبدو أنها تتكيّف مع الميل «الموضوعي» نحو «انتصار الليبرالية» والتبعية للنمط الرأسمالي.
إن تناقضات الوضع الداخلي تتصاعد نتيجة تمركز الثروة وإفقار الطبقات الشعبية، وهو الأمر الذي فرض بدء حراك بطيء لكنه متصاعد. كما أن ضعف السلطة يفرض أن يتحوّل الحراك إلى فعل، وأن يتصاعد كلما تنامى ضعف السلطة. الأمر الذي يشير إلى انفتاح أفق الصراع الداخلي. لكن كلّ ذلك يحدث لحظة الدور الأميركي من أجل التغيير، وبالتالي تحدث كل هذه التحولات وتتنامى الصراعات في وضع دولي تدخلي، يعمل من أجل فرض مصالح الطغم الإمبريالية. وهو الأمر الذي يفرض مواقف واضحة من هذا الدور لأنه يشكل أخطاراً حقيقية راهنة ومستقبلية، ولأنه سوف يجلب مشكلات أعمق في كلّ الأحوال. ولقد قاد استبداد السلطة إلى ضعف الحراك السياسي إلى الحدّ الذي يجعل مواجهة الفعل الأميركي محدودة بعد أن دمّرت السلطة الفعل السياسي، وهي أيضاً ضعفت إلى حدٍّ بعيد.

طبيعة التناقضات ووضع القوى
3) وهذا التحديد للسلطة يعني أننا لا نشير إلى السلطة بالمعنى السياسي فقط ، بل نشير إلى الفئات التي نهبتها والتي أفقرت المجتمع ودمّرت «القطاع العام»، والتي بدأت مصالحها تتشابك مع الرأسمال العالمي. لهذا كانت تميل إلى التفاهم مع الدولة الأميركية والتكيّف مع سياساتها، رغم أن قصر النظر السياسي لديها جعلها ( أو جعل قطاعات متنفّذة منها ) لا تفهم حدود القوّة الأميركية ولا طبيعة سياساتها، وقرارها فيما يتعلّق بالسلطة ذاتها. الأمر الذي دفعها إلى ممارسة تكتيكات خاطئة أسهمت في تورّطها، عبر محاولتها توهّم دور لم يعد ممكناً، ووجود لم يعد متاحاً، واستمرار بات موضع شك.
و كان تناقضها المجتمعي، وليس السياسي الذي تمثّل في استمرار السياسة الأمنية ومنع السياسة في المجتمع فقط، بل تناقضها الطبقي كذلك الذي بات واضحاً عبر تحوّل الفئات الحاكمة إلى «طبقة» بالغة الثراء، نتيجة النهب الذي مورس طيلة العقود الأربعة، قد أوجد «بؤر تفجّر» اجتماعيّ ذات خطورة. بمعنى أن المسألة لم تعد مسألة سلطة تسلّطية فقط ، حيث يمكن تغيير آلياتها باتجاه ديمقراطي، بل غدت مسألة صراع طبقيّ يتخذ أشكالاً طائفية أو قومية أو طبقية صريحة، يمكن أن تتطوّر بتسارع بالتوازي مع خطوات تلك الفئات الحاكمة إلى تسريع النهب، أو التحوّل نحو اقتصاد السوق وإنهاء دور الدولة الرعائي كما حدث في السنة الأخيرة.
هذا الوضع يجعل التناقض بين تلك الفئات والطبقات الشعبية متفاقماً، دون مقدرة على تمويهه أو تحييده. ويجعل تلك الفئات، وبالتالي السلطة، غير قادرة على تخفيضه، لأن ذلك يعني وقف النهب وتوظيف أموال طائلة لتحسين وضع الطبقات الشعبية ذاتها، هي غير موجودة لأنها هُرّبت إلى البنوك الأجنبية، إضافة إلى أن هذه الفئات لم تعد تفكّر أو تمتلك المقدرة على ذلك. وهو الأمر الذي يجعلها لا تميل إلى تقديم تنازلات جدّية داخلية لإعادة ترتيب التناقضات، حيث أن ذلك يفترض تقديم تنازلات جوهرية في المستوى الاقتصادي عبر رفع سريع للأجور بما يحقّق مستوى معيشيّ أفضل، وضبط العلاقات الاقتصادية من أجل التحكّم بالأسعار (وهي تفعل العكس من ذلك)، كما إلى التوظيف الاستثماري بما يسمح بامتصاص البطالة الحالية واستيعاب العمالة الوافدة سنوياً، وبتحريك عجلة التطوّر من جديد. وتنازلات في المستوى السياسي تفرض إنهاء كلّ ما هو استثنائي، وإلغاء الطابع الاستبدادي التدخّلي الشمولي للسلطة، وتحقيق الحرّيات العامة، والاتجاه نحو تأسيس نظام برلماني ينطلق من إلغاء الدستور الحالي وصياغة دستور جديد ديمقراطي ويكرّس العلمانية. وتنازلات أخرى في المستوى الاجتماعي تتعلّق بالتعليم والصحة والضمان الاجتماعي (أي بدور الدولة الرعائي). لكي يؤسّس كلّ ذلك لتحييد التناقض الكامن بين السلطة والطبقات الشعبية، من أجل توافق على مواجهة المشروع الإمبريالي الأميركي. وهذا الوضع هو الذي جعل السلطة تفكّر في التكيّف مع السياسات الأميركية وليس «التنازل» للطبقات الاجتماعية، حيث باتت مصالح المافيات الحاكمة تترابط مع الرأسمال الإمبريالي وليس مع المجتمع.
و إذا كانت الدولة الأميركية تسعى إلى تغيير السلطة، وتهديد البلد في إطار رؤيتها للوضع الجيوسياسي في المنطقة، فإن المقدرة على التفاهم بين السلطة والطبقات الشعبية لا تبدو ممكنة، حيث أن التناقض العميق في المستويين السياسي ( الاستبداد ) والاقتصادي ( الوضع المعيشي )، يفرض تنازلات كبيرة من السلطة وهو ما لا تميل إلى تحقيقه، رغم أن الميل العام لتلك الفئات الحاكمة هو التفاهم مع الولايات المتحدة والتكيّف مع مشروعها، وهو خيارها الوحيد لأن مصالحها باتت تفرض ذلك.
إذن، سيكون التناقض قائماً في مستوى أوّل بين الطبقات الشعبية والسلطة بصفتها تمثّل فئات مافياوية نهبت «القطاع العام»، وأفقرت تلك الطبقات، وأيضاً بصفتها دكتاتورية انطلاقاً من أن الدكتاتورية هي الغطاء الذي سمح بتحقيق كلّ ذلك النهب، وبالتالي أوجد التمايز الطبقي ( التفارق الطبقي ). لكن التناقض في مستوى ثانٍ هو بين الطبقات الشعبية والمشروع الإمبريالي الأميركي ( أو الإمبريالي بقيادة أميركية )، نتيجة «الطابع العام» للرأسمالية كونها تنهب المجتمعات والطبقات، وتفقر الشعوب وتمنع تطوّرها. وكونها تنزع نحو الحروب البربرية وتميل لاحتلال دول. ونتيجة كونها ( بالتالي ) تحتلّ العراق وفي ترابط لا ينفصم مع الدولة الصهيونية التي تحتلّ فلسطين، وكذلك مجمل سياساتها العامة تجاه الوطن العربي وكسر طموحه نحو الاستقلال والتحرّر والتوحّد (وهذا هو نتاج الشعور القومي العام لديها، والذي هو نتاج الشعور بأن تطورها مرتبط بذلك ). وثالثاً نتيجة استهدافها سوريا وسعيها إلى صياغة النظام السياسي الاقتصادي بما يتوافق مع مشروعها الإمبريالي الصهيوني. ولاشكّ في أن الإحساس بالخطر الأميركي حقيقة واضحة لدى تلك الطبقات.
و في مستوى ثالث فإن «التناقض» بين الفئات الحاكمة والإمبريالية نتج، في لحظة، عن رؤية كلّ طرف لدوره، وبالتالي لدور الآخر، إقليمياً وعربياً. وعن عدم التطابق بين ميل الرأسمالية الإمبريالية لفرض الليبرالية الجديدة المتوحّشة، وبالتالي إطلاق هيمنتها على البنى الاقتصادية ( بما في ذلك تدمير بنى قائمة – الصناعة مثلاً – وإعادة صياغتها ) هذا من جهة، وميل الفئات الحاكمة إلى «الهدوء» في تكييف انفتاحها وخضوعها ( الذي أُسمي التباطؤ في الإصلاح ) من جهة أخرى. لكن يبدو أن الرؤية الأميركية لوضع السلطة لا يقف عند حدّ تغيير السياسات، الأمر الذي جعل «التفاهم» غير مطروح مع السلطة. لكن في وضع السلطة القائمة، فإن مصالح كتلة الفئات التي أثْرت تميل إلى التكيّف، وبالتالي التخلّي عن كلّ العناصر «المعاندة» ( أو المرفوضة )، سواء في المستوى السياسي أو في المستوى الاقتصادي، وهو الأمر الذي يشير إلى هشاشة بنية السلطة وعدم تماسكها أمام الضغوط الأميركية.
و إذا ما نشأ ميل لتخفيض التناقض مع الطبقات الشعبية، إنْ تبلور لدى طرف، فسوف يشقّ الفئات الحاكمة ذاتها، لأن مصالحها لم تعد تتوافق مع ذلك، رغم أنها يمكن أن تميل إلى قبول الشقّ السياسي ( وإنْ في صيغة مشوّهة، رغم أنه لازال كاحتمال ضعيف)، لكن يمكن أن يتحقّق ذلك في إطار سعيها للتكيّف مع «الإرادة الأميركية»، في سياق تطبيق «التصوّر الديمقراطي الأميركي» القائم على تأسيس نظام برلمانيّ فيدراليّ طوائفيّ، يُضعف الدولة ويؤسِّس لتفككها، ويؤسِّس سلطة هزيلة ملحقة.
لهذا فإن تحالف الطبقات الشعبية مع الفئات الحاكمة لمواجهة «الخطر الأميركي»، أو حتى التركيز فقط على ذاك الخطر، يبدو صعباً. وفي كلّ الأحوال فإن قدرات وقف التكيّف مع السيطرة الإمبريالية الأميركية (بغضّ النظر عن شكل هذا التكيّف) يبدو صعباً كذلك، لأن السلطة ليست متماسكة وتميل في الغالب إلى التكيّف. ولهذا فهي لازالت تقمع الحراك السياسي عموماً بما فيه الحراك المناهض للإمبريالية الأميركية، ولازالت تشلّ كلّ إمكانية لتنظيم القوى الهادفة إلى مواجهة المشروع الإمبريالي الأميركي.
في هذا الوضع تنطرح مسألة صياغة التحالفات، والتكتيك الضروري الآن. فالتناقض مع المشروع الإمبريالي الأميركي غير قابلٍ للحلّ إلا عبر الصراع، وبالتالي من المنطقي التفكير الجدّي بالمقاومة، وبرؤية عربية للمقاومة مادام المشروع الإمبريالي يطال كلّ الوطن العربي (إضافة إلى آسيا الوسطى وأيضاً العالم). وهذه مسألة تعزِّز الإطار القومي الديمقراطي للعمل.
لكن، وأمام هذا التناقض، لا يبدو ممكناً تشكيل تحالف مع السلطة نتيجة ما سبق، لهذا يمكن الانطلاق الآن (وكلمة الآن مهمة هنا) من التالي:
أ) التأكيد على مواجهة المشروع الإمبريالي الأميركي، والتأكيد على رفض تدخّله وصيغته لتكوين الدولة والمجتمع في سوريا والوطن العربي (والعالم). وهذا المستوى يتخذ شكلاً دعاوياً تحضيرياً، لأن «التلامس» لم يحصل بعد. وسيصبح ملموساً لحظة التدخّل سواء في شكل عسكريّ أو في شكل إقامة سلطة خاضعة.
ب) إن الصراع من أجل انتزاع الديمقراطية وحقوق الطبقات الشعبية يظلّ أساسياً في الممارسة العملية مادامت السلطة مستمرّة، ولهذا يكون الهدف هو تحقيق التغيير الديمقراطي العلماني الذي يحقِّق مطالب الطبقات الشعبية.
جـ) لكن وجود الخطر الأميركي يفرض ضمن ما ورد في الفقرة السابقة، التحشيد لمواجهته. والعمل لتفعيل الحراك الاجتماعي هو المدخل لتحقيق التغيير الوطني الديمقراطي العلماني، وتحضير القوى لمواجهة المشروع الإمبريالي الأميركي.

إشكالات رؤية المعارضة
4) انطلاقاً من ذلك يمكن أن نلمس إشكالين يحكمان المستوى السياسي المعارض، ينتجان عن «عقل أحاديّ» يضع المسائل في إطار مبسّط يقوم على ثنائية السلطة أو أميركا، الاستبداد الداخلي أو الخطر الأميركي. الإشكال الأوّل يتمثّل في الميل لاعتبار «الخطر الأميركي» هو التناقض الرئيسي، وبالتالي السعي لـ «الالتفاف» حول السلطة وتمتين «الوحدة الوطنية» من أجل مواجهة «المخططات الإمبريالية». وربما كان هذا الميل هو استمرار للمنطق الذي ساد في الحزب الشيوعي السوري، الذي كان يغلّب التناقض الخارجي على التناقضات الداخلية، ويعتبر أن مواجهة الإمبريالية هي التي تحظى بالأولوية بغضّ النظر عن كل «الملاحظات» على الوضع الداخلي، حتى إذا تناقضت الوقائع مع كلّ التوافقات التي تحدَّدت في «ميثاق الجبهة الوطنية التقدمية».
هذا الميل الذي كان في السابق وينشأ الآن، يقوم على تبخيس المشكلات الداخلية التي تكوّنت خلال العقود السابقة، والتمايز الطبقي الذي تبلور خلال ذلك، على عكس الوضع حينما تحقّق التحالف مع السلطة، حيث كان الاختلاف الجوهري يتمثّل في مسألة طبيعة السلطة فقط، لأن السياسات الاقتصادية التي كانت تنفذ آنئذ لم تكن تخدم المعارضة الديمقراطية لأنها كانت توسع من القاعدة الاجتماعية للسلطة كما أوضحنا، وبالتالي كانت تهيئ لتحالف قوى تحت شعار «مواجهة الإمبريالية والصهيونية». لكن الظرف الراهن يؤشّر إلى تناقض داخليّ عميق لا إمكانية لجسره من أجل تحالف يواجه الخطر الأميركي، خصوصاً أن السلطة مستمرّة في آليات ممارساتها في المستوى السياسي وفي المستوى الاجتماعي الاقتصادي، ولا يبدو أن مصالح الفئات الحاكمة تسمح بذلك كما أشرنا للتو. الأمر الذي يجعل التحالف التحاقاً بسلطة هشّة، وعلى أبواب تغيير بفعل دوليّ وأميركيّ خصوصاً. في وضع لا تضيف القوى السياسية شيئاً في ميزان القوى بعد أن دُمّرت بفعل القمع المديد، وبفعل التحوّلات المجتمعية المشار إليها سابقاً، كما بفعل مشكلاتها الذاتية. وأيّ فعل يفترض فتح السلطة لحرّية الحراك السياسي الاجتماعي من أجل تهيئة القوى لمواجهة الخطر الأميركي.
كما أن «التحالف» الآن، والسلطة هي التي تمارس القمع والنهب، والخطر الأميركي لازال غير ملموس ولا أمر واقع وغير محدَّد الشكل (أي الاحتلال أو التغيير الداخلي)، يجعله التحاقاً من جديد كما كان سنة 1972 حين تأسست الجبهة الوطنية التقدمية، لكن دون جدوى، ودون قبول عام ليس من الأحزاب فقط بل من الطبقات الشعبية كذلك. لهذا سيبدو أن مواجهة الخطر الأميركي سوف تتحقّق فقط بعد أن يكون قد أصبح أمراً واقعاً، وليس قبل ذلك، حيث أن شروط التحالف القادر على المواجهة الآن ليست قائمة، وهي تتعلّق بتنازلات عميقة تقوم بها السلطة بالتحديد.
و ربما نتج هذا الميل عن موقف «غريزيّ» تبلور نتيجة النظر الأحادي الذي تحدَّد في «التناقض الرئيسي»مع الإمبريالية. وهو الخطاب الذي ولّد معكوسه نتيجة هشاشته وتبسيطيته الفظّة، والتي بدت واضحة أمام تطوّرات الوضع الداخلي، وتفاقم الاستبداد والنهب وبالتالي التمايز الطبقي. ولأن المسألة باتت «غريزية» فقد جرى غضّ النظر عن التحوّلات الداخلية ( التي كانت تترافق بامتيازات لأحزاب معيّنة). وظلّ الشعار العام هو: مواجهة الإمبريالية.
و الآن ماذا يمكن أن يضيف أيّ تحالف بعد أن بدت كلّ القوى هشّة، والوضع الداخلي غير قادر على الفعل؟ يمكن أن يضيف فقط اتخاذ موقف يضعف إمكانات المستقبل عبر وضع تلك القوى الداعية إلى ذلك في موقع الالتباس، وربما الشكّ نتيجة تقاربها من السلطة التي أصبحت تمثل فئة مافياوية. وبالتالي فإذا كانت مواجهة «الخطر الأميركي» ضرورة، لكنها لا تفرض التحالف مع السلطة، بل تفرض التعبئة وتحضير القوى المجتمعية للمواجهة حين تصبح قائمة. ومن أجل ذلك ستبرز أهمية الديمقراطية، لأن السعي لمواجهة ذاك الخطر مترابط مع العمل لتحقيقها، كما أن تحقيقها مترابط مع التحضير لمواجهة ذاك الخطر كما أشرت سابقاً.
في المقابل، ينشأ الإشكال الثاني الذي يتمثّل، على العكس، في «الاتكاء» على «الخارج»، وتصوّر أن إنهاء الاستبداد و«نشر الحرّية» لن يكونا إلا بفعل خارجيّ، أميركيّ تحديداً. ولاشكّ في أن القمع العنيف الذي مارسته السلطة، والسجون، وأيضاً الهيمنة الأمنية على المجتمع، كلّها مسائل أسّست لـ «وعي» يقوم على أن التغيير الداخلي مستحيل، حتى أن شعار «إلى الأبد» إنغرس في وعي كلّ الذين باتوا يراهنون على «الخارج»، ويتوهمون بأنه يحمل «المنّ والسلوى» الديمقراطية. وإذا كانت طبيعة السلطة الاستبدادية الشمولية مؤذية ومدمّرة، لاشكّ في ذلك، إلا أن الوضع يحتاج إلى أبعد من رؤية هذه «النقطة»، سواء فيما يتعلّق بفهم الوضع الداخلي الآن (وليس في العقدين السابع والثامن خصوصاً)، وكذلك فيما يتعلّق بفهم طبيعة «الخطاب الديمقراطي الأميركي»، وبالتالي الأهداف الأميركية المبنية على المصالح وليس على القيم.
لقد أنتج الشعور بـ «العجز» والميل لـ «الرد»، الميل إلى رفض كلّ ما قالت به السلطة ( الخطاب الأيديولوجي، حتى بكلماته )، وكلّ ما بنته. وبدت أنها «الشرّ المطلق» الذي ليس من خيار لهزيمته سوى عبر «مخلّص»، وهو ذاك الذي تكون له مخططات لتغيير السلطة ومناصبتها العداء، بغضّ النظر عن كلّ أهدافه أو مصالحه وممارساته. كما قاد رفض الشعارات التي أطلقتها السلطة إلى قبول الشعارات المعاكسة، حيث بدل الاشتراكية (التي كانت توسم بها السلطة ، وحتى لدى الذين لم يقرّوا سابقاً أنها كذلك، باتت لديهم الآن هي كذلك) كانت الليبرالية، وبدل القومية كانت «الدولة الوطنية» و«المتحد الوطني». وبدل مواجهة الإمبريالية النوم في حضنها 0000 الخ.
هذا الخطاب ينطلق من الغريزة في وعي الواقع، وبالتالي ينطلق من ردود الفعل، الأمر الذي يحوّلها إلى «عملية انتقام شخصي» أكثر منها عملية صراع سياسيّ ، وربما مسألة مصالح كذلك لدى فئات منها تحاول أن تركب التغيير من أجل تحقيق "التحول الطبقي". مما يخفض السياسة إلى مسألة «ذاتية»، و«وعي غريزيّ». وهو الأمر الذي يقود إلى وعي الدور الأميركي كـ «إله منتقم»، وإلى بوش كـ «مخلّص» يحمل رسالة أخلاقية تتمثّل في «نشر الحرّية والديمقراطية» على دبابة. دون الحاجة إلى النظر إلى ما يجري في العراق، وكيف أن وعود الديمقراطية والحرّية تحوّلت إلى فوضى، و«ديمقراطية طوائف» تقوم على المحاصصة، والليبرالية تحوّلت إلى دمار طال البنى التحتية والصناعة 000 الخ. إن الغريزة التي ترفض ما هو قائم تقود إلى قبول الآخر دون وعي بماهيته. فالرفض هو الأساس دون الحاجة لتحديد البديل أو التدقيق في المشاريع المطروحة.
و هنا تقود مواجهة خطر الاستبداد إلى أخطار كبيرة كذلك، دون التأسيس لدور ذاتيّ مستقلّ، يعي ما يريد، ويعمل من أجل تحقيقه. إنه ينتظر المخلّص لتحقيق «الحلم» الذي بدا كـ «الحلم الاشتراكي» السابق والمحمول على الدبابة السوفييتية، لكن بشكل معكوس هذه المرّة.
هذان الإشكالان يعبّران عن نزعات من الضروري أن تُكشف وأن تُنقد في سياق السعي لبلورة رؤية جدية. لكن سنلمس أنه في المستوى النظري/ السياسي يمكن أن نلمس إشكالين كذلك، يحتاجان إلى خوض صراع فكريّ معهما، رغم الالتقاء في بعض النقاط، لكنهما يمثّلان اتجاهين لا يسمحان بتحقيق التطوّر ، بل يكرّسان التخلّف والتبعية. واحد في المستوى الاقتصادي ( التيار الليبرالي ) والآخر في المستوى المجتمعي ( التيار الأصولي الإسلامي )، وبالتالي فهما يتوافقان في نقاط أساسية. وربما كانا يهيمنان على وعي النخب ( في السلطة والمعارضة ). ولاشكّ في أن التحوّلات القادمة سوف تجعل منهما تياران قويان، وينشئ «الصدام» معهما، بسبب النتائج الواقعية لدورهما.
فالليبرالية، التي بدأت تصبح خيار النخبة الحاكمة وخيار قوى أساسية في المعارضة، باتت تشكّل تياراً سوف يطبع المرحلة القادمة، ليس على المستوى الفكري فهو أهزل من أن يقدّم فكراً، بل في المستوى العملي عبر تعميم اقتصاد السوق المنفلت، أي دون حساب للواقع ودون ملاحظة انعكاس تعميمه على الطبقات الاجتماعية، وعل مجمل الاقتصاد الوطني، كما على القرار السياسي ودور سوريا العربي والعالمي. الأمر الذي سوف يقود إلى إعادة ربط سوريا بالنمط الرأسمالي العالمي من موقع التبعية، وبالتالي تدمير كلّ القطاعات الاقتصادية التي تشكّلت خلال العقود الماضية، دون بناء قطاعات منتجة جديدة، وبالتالي تعميم الاقتصاد الطفيلي. وهو الأمر الذي سوف يفرض تعميم البطالة والفقر، وإنهاء عملية التطوّر المتوقّفة منذ زمن.
و إذا كانت الفئات الحاكمة قد مالت إلى الليبرالية بعد أن نهبت وأصبحت ذات مصالح خاصة، فإن أزمة الصراع مع السلطة أنتجت الاتجاه ذاته في الحركة السياسية. فقد فرض «العقل الأحادي» الذي اعتبر أن السلطة هي سلطة اشتراكية، فرض أن تصبح الليبرالية هي البديل الوحيد ( البديل المقدّس، فهو نهاية التاريخ ). كما أن الانتماء للماركسية ( وأساساً للمنظومة الاشتراكية ) فرض التحوّل إلى الليبرالية لحظة انهيار تلك المنظومة، حيث بدت الاشتراكية كوهم والليبرالية كواقع راسخ.
و لاشكّ في أن هذا التيار يتقاطع مع الميول التي تراهن على «الخارج»، وربما كانت تلك الميول تعبّر عن الحدّ المتطرّف في التيار الليبرالي، رغم أن هذا التيار يتكيّف في إطار العولمة، ولا يرى إمكانية غير ذلك، دون أن يتوافق بكليته تماماً مع السياسات الإمبريالية الأميركية.
نحن هنا إزاء تيار يسعى لفرض التكيّف مع السيطرة الرأسمالية والاندماج في العولمة، وبالتالي الالتزام بكل السياسات العولمية، خصوصاً تعميم الليبرالية الجديدة وتهزيل دور الدولة، وتمييع مفهوم السيادة الوطنية والاستقلال الوطني. الأمر الذي سوف يفرض تفاقم الأزمات الاجتماعية على ضوء انهيار البنى الاقتصادية القائمة. انهيارها بفعل المنافسة القوية من قِبل الشركات الاحتكارية الإمبريالية التي باتت تفرض شروطها، وتصيغ الظروف التي تخدم احتكارها.
و نحن هنا إزاء صراع على تحديد اختيارات تمسّ عملية التطوّر أو تنفيها، وبالتالي تمسّ كلّية المجتمع. وتتمحور هذه الاختيارات حول دور الدولة الاقتصادي الرعائي بالأساس، أو السعي لفرض حرّية مطلقة للسوق وللنشاط الرأسمالي يؤسِّس لتنافس غير متكافئ مع احتكارات عالمية قادرة على أن تفرض منطقها على شعوب العالم. ونحن هنا ننطلق من الدفاع عن ضرورة التطوّر الذي لن يتحقَّق إلا عبر دور الدولة الاقتصادي ( مع كلّ الملاحظات التي يمكن أن تُقال عن دورها الماضي والراهن، والإشكاليات التي أنتجتها، والسعي لتجاوز هذه الإشكاليات )، ودورها الرعائي لمصلحة الطبقات الشعبية. دون أن يعني ذلك رفض كلّ دور للرأسمال الخاص، أو فرض «التخطيط المركزي» كما كان يُطبّق في البلدان الاشتراكية، حيث يجب أن يمارس الرأسمال الخاص نشاطه في إطار آليات سوق تقوم على شكل من أشكال التخطيط ( الذي يسمّى التخطيط التأشيري )، الذي هو أمر ضروري من أجل عملية التطوّر، وفي إطار دور حمائيّ تمارسه الدولة لتخفيف انعكاس اللاتكافؤ على الاقتصاد الوطني. ولكي يكون الرأسمال الخاص جزءاً من عملية التطوّر ذاتها بدل أن ينشط في القطاع الهامشي أو الطفيلي، أو في الخدمات والتجارة فقط.
لهذا، ولأن هذا التيار يدفع الوضع في هذا المسار، لابدّ من مواجهة فكرية معه، لأنه يقود في حال انتصاره إلى انهيار اقتصادي اجتماعي شامل, وإذا كان هذا التيار يتناقض الآن مع السلطة، فهو يتناقض في المستوى الاقتصادي مع الزوايا التي يجب الحفاظ عليها ومحاسبة المسئولين عن فشلها، كما يتناقض مع عملية التطوّر المجتمعيّ ذاتها (والمسألة هنا تتعلّق بـ «القطاع العام»، وبدور الدولة الاقتصادي)، وإذا كان يتبنّى الديمقراطية (وهو ما يمكن التوافق عليه)، لكنه يطرحها في إطار مشوّش ينفي الديمقراطية ذاتها، نتيجة أنه يطرحها منطلقاً من رفض الاستبداد فقط وليس من وعي ماهية الديمقراطية. وهذا ما يجعل هدف الليبرالية الأساسيّ هو تعميم اقتصاد السوق المنفلت، وإنهاء دور الدولة الاقتصادي الرعائي والحمائي. أما الديمقراطية فتتبلور في النهاية في شكل مشوّه، ومختزل في ممارسة شكلية ( رغم أهمية بعض جوانبها ) تتمثّل في حرّية الأحزاب والصحافة وحقّ الانتخاب وتداول السلطة، حتى وإنْ إنبنت على أساس «مكوّنات» المجتمع التقليدية، وعلى تهميش الطبقات الشعبية. حيث إن حدود الديمقراطية الممكنة في إطار سيطرة الليبرالية لا تتجاوز تداول السلطة بين الفئات من النمط ذاته، لتعيد إنتاج السلطة ذاتها، مع كبح نشاط كلّ التيارات التي تسعى لتجاوزها، وكبح الحراك المجتمعي.
و إذا كان من تقاطع حول الديمقراطية مع هذا التيار، فهو لا يسمح بتأسيس تحالف، بل قد يفرض التنسيق في حدود النشاط الديمقراطي فقط . ويجب أن نلاحظ أن هذا التيار يتوافق من حيث التوجّه مع قسم هام من الفئة الحاكمة التي نهبت في تحوّلها الليبرالي. ويمكن أن يكونا، وبالترابط مع الفئات البرجوازية التقليدية التي استفادت أيضاً من السلطة طيلة العقود السابقة، هم النخب الحاكمة القادمة. وبالتالي فإن التناقض مع هذا التيار يتوسّع، وسيكون ذا طابع فكريّ وسياسي وطبقي حالما يتحوّل إلى سلطة.
أما التيار الأصولي، أي جماعة الإخوان المسلمين، فهو يحمل مشروعاً متكاملاً، يقوم على أسلمة المجتمع. وإذا كان يتبنى الديمقراطية كخيار في الوقت الراهن، فإن مشروعه لا يقف عند هذا الحدّ، ولا يمكن تلخيصه أو اختزاله في هذه النقطة فقط، لأنه يحمل مشروعاً ليبرالياً على المستوى الاقتصادي (وكان ضد الإصلاح الزراعي وضد التأميم من منطلق الحقّ المطلق في الملكية التي لا يجوز بالتالي مصادرتها)، ومحافظاً على المستوى الاجتماعي (حيث يميل إلى فرض قيم تسمّى إسلامية رغم أنها متخلّفة وباتت من الماضي)، واستبدادياً على المستوى الشخصي ( عبر التدخّل في تفاصيل حياة البشر )، وبراجماتياً على المستوى السياسي والوطني (وقبوله الديمقراطية نابع من ذلك)، وأيضاً مثيراً لتعصّب ديني وطائفيّ على المستوى العملي (نتيجة انطلاقه من تمثيل فئة إسلامية دون غيرها)، حتى وإنْ أشار إلى التسامح واحترام الآخرين، وتأكيده على قبول الطوائف والأديان الأخرى. حيث أنه ينطلق من فرض "الشريعة" وليس من أيٍّ من القيم الحديثة.
و بهذا فإن الاختلاف معه لا يقف عند مستوى، ومجالات التناقض معه أعلى لأنها تطال مستويات متعدّدة، أو بالتحديد لأنها تطال مشروع شموليّ يطال كلّ التكوين المجتمعي، من الدولة إلى الاقتصاد إلى البنية المجتمعية، ومن التدخّل في السياسة إلى التدخّل في كلّ مكوّنات الشخص/ الإنسان.
و بالتالي فإن التوافق على المطلب الديمقراطي الآن (مع كل الملاحظات التي يمكن أن تُطرح على صيغة الديمقراطية التي يتضمّنها مشروعه)، أو حتى ما يبدو تناقضاً مع "الغرب"، يترابط مع التناقض العميق الآن وفي الفترة اللاحقة، فيما يتعلّق بمجمل المشروع الذي يطرحه. الأمر الذي يؤسِّس لتقاطع محدود في إطار النشاط الديمقراطي، وتناقض أعلى في إطار التوجهات. فالحقوق الشخصية وحقوق المرأة مسألة صراعية جدّية، والموقف من الليبرالية مسألة أخرى، وفرض الاستبداد الديني مسألة ثالثة، والتدخّل في التعليم ورسم السياسات التعليمية مسألة رابعة، ومسائل كثيرة أخرى يمكن أن تكون مجال صراع جدّي. فالمسألة هنا تتعلّق بالصراع بين مشروعين: مشروع تقليديّ يسعى لإعادة سيطرة البنى التقليدية (بما فيها المؤسسات الدينية، والشريعة)، ومشروع آخر يهدف إلى تحقيق الحداثة والتطوّر. وغالباً ما يكون التقاطع بين المتناقضين محدوداً. وإن كان الصراع هنا لا يعني الحرب والعنف، بل يعني الصراع في المستوى الفكري السياسي.
في المقابل، هناك قوى أصولية بدت وكأنها تحمل لواء الحرب ضد الإمبريالية الأميركية (الغرب المسيحي وفق مصطلحاتها)، وهي واقعياً تقول أنها تشتبك مع الولايات المتحدة. ولقد أصبحت لها قاعدة ما في سوريا. وهي بلا شكّ أشدّ سلفية من الإخوان المسلمين رغم اعتمادهما على المراجع الفقهية ذاتها (الغزالي وابن تيمية، وابن عبد الوهاب وحسن البنا، وسيد قطب خصوصاً). وأقلّ ثقافة ووعياً ومعرفة بالسياسة. وتطرح علناً مسألة السلطة الدينية (الخلافة ). كما أنها تخوض «الحرب» ضد الولايات المتحدة من منطلق ديني وعلى أساس ديني، رغم أنها كانت في تحالف وثيق معها في إطار المعركة العالمية ضد الإلحاد كما كانت تُسمّى، وكانت صنيعة الولايات المتحدة والنظم العربية معاً في مواجهة الإتحاد السوفييتي، وهي نتاج الثقافة الوهابية التي تعممها السعودية منذ عقود. كما تنطلق من موقع طائفيّ واضح معادٍ للطوائف الأخرى، وبالتالي تميل إلى إثارة الصراعات الطائفية كون تناقضها الأساس هو تناقض ديني.
وإذا كانت لم تدخل بعد في النسيج السياسي السوري، فإنها مرشّحة لذلك في المرحلة القادمة، خصوصاً وأن السلطة عملت على فتح الخطوط معها سواء بحجة الحرب في العراق أو الوضع في لبنان. الأمر الذي يفرض تفكيك خطابها، حتى وهي تحارب الولايات المتحدة، لأن هذا الخطاب وتلك الممارسة يفكّكان المجتمع ويدمّرانه، وبالتالي فهي الوجه الآخر للتدمير الإمبريالي الأميركي نتيجة مشروعها التفكيكي التدميري ، رغم «صراعها» الراهن مع الولايات المتحدة. مع ملاحظة أنها تحوي أفراداً معنيين بالحرب ضد أميركا، ينتمون إليها نتيجة غياب التيارات الأخرى المصممة على قتال الجيوش الأميركية المحتلّة. ولهذا يجب العمل على استقطابهم لأنهم جزء من القوى التي باتت تقاتل من أجل هزيمة المشروع الإمبريالي.
يبقى أن نتناول المسألة الكردية التي باتت عنصراً فاعلاً في الواقع السياسي الراهن، ومجال تجاذب وأساس أوهام. والمسألة تأخذ أهميتها نتيجة وجودها أولاً، لكن أيضاً نتيجة التقوّلات الناتجة عن كبت التعبير عنها طيلة عقود، ونشوء مشكلة المجرّدين من الجنسية التي أخذت تتفاقم دون حلّ طيلة تلك العقود.
و إذا كانت بعض الميول تربط وضع الأكراد في سوريا بكلّ مناطق كردستان (في العراق وتركيا وإيران)، كونهم شعب واحد، وكونها أرض واحدة، فإن العرب يعتبرون أن هذه الأرض من سوريا (و أخرى تمتدّ جنوب تركيا من حدود العراق إلى البحر المتوسط، بما فيها الإسكندرون) هي جزء من الوطن العربي، كما أن السريان يعتبرونها أرضهم على مرّ التاريخ. وإذا كانت العلاقة بين السريان (الآراميون عموماً) والعرب تحتاج إلى بحث كون رابط عميق يربطهما، ليبدو العرب كأبناء للآراميين –و كلّ ما يطلق عليه: الساميون-، وتبدو الحضارة العربية كوريثة لكلّ الحضارات الأسبق (ومنها الآرامية)، فإن وضع الأكراد يحتاج إلى تدقيق، كما إلى بحث تاريخيّ، ومن ثَمّ إلى عقلانية عالية كيلا تكون أساس تناقض يقود إلى صراعات عبثية.
و يمكن الإشارة هنا إلى أن وضع الأكراد في العراق واضح، حيث أنهم يقيمون ضمن حدود أرضهم التاريخية, وكذلك في إيران وتركيا. لكنهم في سوريا يقيمون على أرض جديدة، هي تاريخياً أرض عربية. ولقد قادت الإضطهادات في تركيا إلى رحيل معظمهم إليها في عقود متأخرة (و هذا ما يمكن أن يظهر في أيّ بحث في الوثائق)، الأمر الذي يفرض السؤال عن وضعهم، وبالتالي عن حقوقهم.
و إذا كانت الأحزاب الكردية تطرح الحقوق الديمقراطية في برامجها، وتطالب بإعادة الجنسية إلى المجرّدين منها، فإن ميولاً تظهر لربط المنطقة التي يتواجدون عليها بكردستان «التاريخية»، لتصبح القضية الكردية في سوريا هي قضية «أرض وشعب». ولاشكّ في أن ذلك يؤسِّس لأزمة قابلة للانفجار، ويعزّز الميول المتعصّبة المقابلة، حيث لم تكن منطقة الجزيرة السورية جزءاً من كردستان التاريخية في أيّ وقت من الأوقات. لهذا كان الوجود الكردي فيها حديثاً. رغم وجود أقليات كردية في مناطق أخرى من سوريا منذ عقود طويلة (في دمشق والجولان وريف حلب).
و بالتالي فهم، كما التركمان والأرمن والشركس، أقلية تسكن ضمن حدود الأرض العربية. وهذا يجعل لهم، بخلاف حقوق الأكراد في العراق وتركيا وإيران التي تتمثّل في حقهم في الاستقلال والتوحّد في دولة كردية واحدة، يجعل لهم حقوق أقلية: أي حق المواطنة، ومجمل الحقوق الثقافية واللغوية. أي حق التعبير عن ثقافتهم وعاداتهم، والتكلّم بلغتهم. ويمكن كذلك أن يحصلوا على حق التمثيل السياسي ضمن حدود المناطق التي تشهد كثافة في التواجد، لكن ضمن إطار الدولة السورية.
و بهذا فإن مطالب الأكراد تندرج ضمن المطالب الديمقراطية العامة. وبالتالي فهي مطالب في صلب البرنامج الديمقراطي، كما كلّ الأقليات الأخرى.



إمكانات التغيير الديمقراطي:
5)على ضوء كلّ ما سبق يمكن التأكيد على أن توازن القوى القائم لا يسمح بتحقيق التغيير الداخلي الآن، وإنْ كان يسمح بفتح الأفق لبدء فاعلية سياسية جديدة، نتيجة ضعف السلطة وأزماتها من جهة، ونتيجة بدء الحراك الاجتماعي من جهة أخرى. وبالتالي فإن استنتاجات قطاعات من المعارضين بـ «استحالة» تغيير السلطة من الداخل، صحيحة جزئياً، أي حينما ننظر إلى الوضع الآن، لكنها خاطئة على المدى الأبعد لأنها تنطلق من تأبيد السلطة القائمة، انطلاقاً من رؤية قوّتها المفرطة التي ظهرت بها قبل عقدين، والتي تعتقد بأنها مستمرّة وأيضاً غير قابلة للتآكل. وهي هنا تعجز عن أن ترى متحوّلات الواقع، حيث بات «انعزالها» ستاراً يمنعها من رؤية الواقع وتحوّلاته خلال العقد الأخير على الأقلّ، وخصوصاً في السنوات الخمس السالفة. ولاشكّ في أن طبيعة وعيها المتشكّّل يسهم في الوصول إلى هذه النتيجة، لأنها تنطلق من رؤية الشكل/ السياسة، رغم أنه التعبير المكثّف عن الاقتصاد، وبالتالي فهي لا تهتمّ بوعي الواقع في العمق، لأنها لا تمتلك الأساس النظري الذي يؤهلها لذلك. لهذا رأت الاستبداد الذي هو مباشر وواضح، ولم ترَ الأساس الذي يقوم عليه، ولا الهدف منه، وأقصد مصالح الفئات الاجتماعية التي وصلت إلى السلطة وميلها إلى تحقيق «التحوّل الطبقي» عبر الإفادة من الموارد الضخمة التي أصبحت بيد الدولة، والمشاريع التي تقيمها، وكذلك تحكّمها بالاقتصاد, وهي العملية التي أُسميت: الفساد، رغم أنها أكبر من ذلك، ويجب أن تحدَّد بشكل واضح بأنها عملية نهب منظّم على مدى أربعة عقود. ولهذا لم يكن الاستبداد «ميلاً شخصياً»، ولا كان «هبة من السماء»، بل كان الغطاء لعملية النهب تلك، ولا يمكن أن نراه خارجها، أو بمعزل عنها، وبالتالي أن نرى مفاعيله بمعزل عن مفاعيل النهب ذاك.
و هذا الوعي «الشكلي» جعل المعارضة، بالتالي، لا ترى متحوّلات الواقع في مستواه الاقتصادي الاجتماعي، وأيضاً لا ترى المشكلات التي باتت تعيشها الطبقات الشعبية، ولا أزمة الاقتصاد ككلّ، ولا كذلك أزمة السلطة ذاتها التي باتت مهلهلة وضعيفة، وكذلك لا ترى وضع الفئات الحاكمة وتحوّلات وضعها وميل قطاعها الأهمّ ( أيّ ذاك الذي راكم المليارات ) إلى الخصخصة لوراثة الدولة والتحكّم بالاقتصاد بطرق جديدة/ قديمة (أي التحكّم المباشر بالاقتصاد دون وساطة الدولة).
و لهذا انحصر نشاطها في «المستوى السياسي»، أي في مسألة السلطة بما هي سلطة، وبآلياتها وطرق عملها فقط، دون النظر إلى أساسها الاجتماعي وآلياتها الاقتصادية، وبالتالي دون النظر إلى الواقع الاقتصادي الاجتماعي ومنعكساته السياسية. ولقد تبلورت أهدافها في هذا المستوى بالذات، حيث ظلّت منحصرة في حدود الهدف الديمقراطي رغم أهميته وأولويته إلى الآن، الذي أصبح خطاباً موحَّداً بين جميع قوى المعارضة رغم افتراض تباين الرؤى الفكرية والمصالح بينها. ويمكن أن نؤكّد بأنه أصبح الهدف الوحيد، وتبلور في خطاب واحد يجمع كلّ الطيف. ليتغيّب الخطاب الذي يلامس مشكلات المجتمع الأخرى، أو يتهمّش إلى أضيق حدّ، وليصبح البحث في المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، وفي مشكلة الوطن وموقعه العالمي، منعدماً، وأحياناً منبوذاً كونه يشوّش على الخطاب الديمقراطي، ويوجِد الحساسيات لدى «حلفاء» الطيف الديمقراطي، ويقود إلى شقّ ذلك الطيف. الأمر الذي أوجد شقاقاً بين المستوى السياسي والمستوى الاقتصادي الاجتماعي، وأظهر وكأن المشكلة هي مشكلة سياسية فقط، أو أن حلّ المشكلات الأخرى يلحق بحلّ المشكلة السياسية «موضوعياً»، أو لنبدأ بالمشكل الديمقراطي وحينما يُحلّ عبر تحقيق الديمقراطية يمكن أن يُتاح لنا التفكير بالقضايا الأخرى، أو أن الديمقراطية هي أوّلاً، ثم نبحث عن ثانياً بعد أن تتحقّق في آلية ذهنية ميكانيكية واضحة.
و هو الوضع الذي يكرّس الفاصل بين هذه القوى والحراك الاجتماعي الآخذ في التبلور خصوصاً بعد إنهاء دور الدولة الرعائي الاقتصادي. ويُبقي على «انعزالها»، و«شيخوختها». لكنه يؤسِّس لنشوء قوى جديدة هي نتاج تأزّم الوضع الاجتماعي، الذي يفرض البحث عن مخارج سياسية. ولاشكّ في أن سياسة السلطة (الراهنة أو القادمة) نحو الخصخصة وإنهاء دور الدولة الاقتصادي الرعائي من جهة، ونحو إعادة الأرض المصادرة بقانون الإصلاح الزراعي إلى ملاّكها السابقين من جهة أخرى، والتخلّي عن سياسة التوظيف انطلاقاً من مبدأ حقّ العمل، والذي يفرض التزايد المضطرد لعدد العاطلين عن العمل. والتخلّي عن التعليم المجاني عبر تضييق إمكانات القبول في الجامعات، وعن الضمان الصحّي والاجتماعي من جهة ثالثة، وإطلاق آليات السوق دون رادع، ودون أيّ قدر من الضبط الضروري من جهة رابعة. إن كلّ ذلك سوف يعمّق من أزمة الطبقات الشعبية، ويزيد من مشكلة البطالة، وبالتالي يجعل إمكانات العمل السياسي أكبر نتيجة الاحتجاجات الشعبية والحراك الاجتماعي الحاصل. حيث أن هذه المشكلات هي التي تؤسِّس القاعدة الاجتماعية لأيّ حراك سياسي، وهي مترابطة مع تغيير السلطة وبناء سلطة ديمقراطية، , أيضاً في بناء تكوين داخلي متماسك في مواجهة الخطر الإمبريالي الأميركي خصوصاً. وبالتالي فإن الخلاف هنا ليس على ضرورة الديمقراطية كما أشرت للتو، بل على ترابطها مع مشكلات أخرى ترتبط بوضع الطبقات الشعبية التي هي أساس تحوّل الحراك السياسي إلى قوّة حقيقية يمكن أن تفرض بناء نظام ديمقراطي، وأيضاً يحِّقق مصالح تلك الطبقات. وهنا تكون الديمقراطية مفصل في برنامج وتكون لها الأولوية الآن، وبالتالي لا تكون «وحيدة»، ولا يتأسّس رهاب الخوف من ربطها بأهداف أخرى، وهو الرهاب الذي يستحكم بالطيف الديمقراطي.
بمعنى أن الهدف الأساس الآن هو البدء ببلورة القوى عبر إعادة بناء الحركة السياسية، وفتح الآفاق للترابط مع الحراك الاجتماعي الناشئ، في ظلّ الوضع القمعي القائم أو في ظلّ أيّ انفراج ممكن. والضغط من أجل تطوير الحراك الاجتماعي وتفعيله وتحديد المطالب الضرورية له. دون أن يتراجع هدف الديمقراطية، على العكس فإن اصطدام الحراك الاجتماعي بقوى السلطة المانعة يجعلها تخترق وعي كلّ الفئات الاجتماعية المطالبة بمستوى معيشيّ يتيح لها العيش.


التحولات الممكنة على ضوء الظروف الدولية والوضع الداخلي
6) لكن من الضروري النظر إلى «الفعل الخارجي»، حيث أنه من الواضح أن الميل الإمبريالي الأميركي للسيطرة على العالم يتمثّل هنا في تغيير السلطة لمصلحة سلطة دمية. وهذا لا يعني أن السلطة القائمة لم تتوافق مع السياسات الأميركية، ولم تعمل ضمن أجندتها في أحيان كثيرة، لكن كلّ ذلك انطلق من مصلحة الفئات الحاكمة، ومن مناوراتها للحفاظ على السلطة التي باتت وسيلة نهب كما أشرنا. وكانت الحرب الباردة ووجود الإتحاد السوفييتي يساعدان على ذلك، انطلاقاً من الدعم السوفييتي لكلّ ميل «استقلالي» عن الرأسمالية، هذا الدعم الذي ساعد في البناء الداخلي، وفي بناء القوّة العسكرية، وساعد في الحماية الخارجية. لكنه ساعد هذه السلطة على المناورة والضغط وتحقيق المكاسب التي كانت تصبّ في مصلحة الفئة الحاكمة أكثر مما تصبّ في خدمة المجتمع. وهذا الوضع كان يفيد في استقلالية نسبية وتطوّر محدود، تحت شعارات كبيرة كانت تعتبرها الرأسمالية خطراً عليها (وخصوصاً هنا مسألة القومية والتصنيع).
هذا الوضع كان يجعل السلطة توظّف التناقضات العالمية لمصلحتها، وتحصل على تنازلات أميركية مقابل تنازلاتها. لكن المتغيّر الأساس بعد انتهاء الحرب الباردة وزوال الإتحاد السوفييتي، تمثّل في نشوء «القطب الأوحد» فائق القوّة، الذي بات يسعى للسيطرة على العالم. وبالتالي أصبح المطلوب هو نمط آخر من النظم، هشّة وتابعة، ومنفّذة لسياسات تُقرَّر في واشنطن. حيث تعمل الإدارة الأميركية على تصفية إرث الحرب الباردة، وتكسير «الميول الاستقلالية» مهما بلغت حدودها، وتدمير «الشعور القومي» ومطامح تحقيق التطوّر وبناء الصناعة. وهذه مسائل نظّر لها رموز المحافظين الجدد قبل احتلال العراق، وباتت على أجندتهم.
و إذا كانت السلطة قد حاولت أن تحافظ على ذاتها عبر التكيّف مع الرؤية الأميركية الجديدة، ومع الدور الذي تفرضه، فإن الرؤية الأميركية باتت تنطلق ليس من توافق النظم مع سياساتها وقبولهم أجندتها، بل من شكل النظم ذاتها الذي يحقِّق رؤيتها، والذي بات يقوم على أساس حكم «الأغلبية الإسلامية المعتدلة»، في إطار فسيفساء طائفية دينية يكون لها حقّ الحكم في إطار فيدرالي من خلال تأسيس نظام برلماني.
و بغضّ النظر عن الطريقة التي سيجري التغيير وفقها، وهل سيجري تغيير سياسات النظام أم سيجري تغيير النظام (وأنا أرجّح الثانية)، وهل تم من خارج النظام أم من داخله (وأرجح هنا التغيير من داخله بما يتوافق مع مصالح المافيات ذاتها)، فإن وضعاً جديداً سيتشكّل، بقوّة الضغط الأميركي خصوصاً ( والعالمي عموماً )، ونتيجة المتحولات الطبقية للسلطة بما يتوافق مع ذلك بالأساس، يمكن تلمّس آفاقه انطلاقاً من الواقع القائم، وفي سياق الميل الأميركي لإعادة بناء «الشرق الأوسط الموسّع». حيث باتت الدولة الأميركية تمتلك المقدرة على ذلك ما دامت أصبحت «مطلقة التفوّق»، وتحتاج إلى عالم يخدم مصالح شركاتها. وهنا نشير إلى أن الدولة الأميركية باتت قادرة على تغيير سياسات النظم أو تغيير النظم ذاتها وفق ما ترتئي. وإذا كانت مفاهيم الحرّية والديمقراطية أساسية في الخطاب الأميركي الراهن، وإنْ كانت ليست ضرورية في الممارسة العملية، فإن الترجمة العملية لهذا الخطاب هي تشكيل نظم «ديمقراطية» شكلاً، ترتكز على الطائفية والإثنية وليس على مبدأ المواطنة. وتتمثّل في حرّية الصحافة (ولكن ليس دون رقيب) وحرّية الأحزاب (ولكن ليس دون ضبط ما)، وتداول السلطة التي تقوم على أساس حكم الأغلبية الطائفية، وأخيراً الفيدرالية التي تنبني على التقسيم الطائفي (وحقّ الطوائف في تقرير مصيرها). مما يحوّلها إلى «ديمقراطية طوائف»، وبالتالي يلغي عنها الطابع الديمقراطي. مبقياً على حراك سياسيّ موافق في الغالب، وهامشيّ معارض، أو يوصم بالإرهاب.
و إذا كان أيَّ تحوّل تفرضه الدولة الأميركية سينطلق من توافق «النظام الجديد» مع السياسات الأميركية، أو مع السياسات الإمبريالية عموماً، والعمل وفق أجندتها، والتحوّل إلى سلطة دمية، سلطة كومبرادور ليس أكثر. وأيضاً سينطلق من الاعتراف بالدولة الصهيونية والتخلّي عن المطالبة بكلّ الجولان، أو القبول بحلّ تفرضه الدولة الصهيونية. ودعم السياسة الأميركية ضد «الإرهاب» في لبنان وفلسطين والعراق. فإن تكوين السلطة الجديدة يجب أن يتوافق مع «الأجواء العالمية الراهنة»، وكذلك مع «الدمقرطة» الأميركية. الأمر الذي يفرض تعميم اقتصاد السوق بشكل كامل، وإنهاء دور الدولة التدخّلي الاستثماري الرعائي ( وهنا تأتي هذه الخطوة كاستمرار لما يجري الآن، ولكن ربما بوتيرة أسرع تنطلق من اقتصاد الصدمة كما جرى واقعياً خلال هذه السنة -2008 )، وتحقيق الانفتاح الكامل على الاقتصاد العالمي. كما يفرض تشكيل نظام برلمانيّ فيدراليّ ليبراليّ طوائفيّ، وتجاوز الطابع العربي لسوريا.
و على ضوء نجاح ذاك التغيير سنلمس تحقُّق ثلاث متحوّلات «موضوعية»، المتحوّل الأوّل: يتمثّل في الميل الديمقراطي والأوهام التي ستُبنى عليه، خصوصاً وأن «النقطة الوحيدة» التي استأثرت بنشاط المعارضة خلال السنوات الخمس الماضية هي الديمقراطية. وبالتالي فإن تحقُّق شكل ديمقراطيّ ما سوف يقود إلى مسألتين، الأولى: تتعلّق بتضخيم ما تحقَّق، وبالتالي التلاصق معه، والتكيّف وفق أسسه، والميل لاعتباره «منجزاً مهماً يجب الحفاظ عليه» ويجب العمل من ضمنه لتطويره و«فرض» ديمقراطية حقيقية، ومن ثَمّ الانغلاق أكثر فأكثر في إطاره. بغضّ النظر عن الزوايا الأخرى للتحوّل الجديد، التي تتعلّق بالواقع الاقتصادي السياسي المتوافق مع السياسات الإمبريالية الأميركية. ومن ثَمّ الغرق في وهم أن هذا الشكل «الديمقراطي» هو الشكل الأوّلي الذي سوف (ويجب أن نعمل على أن) يتطوّر، لكن بالتدريج وبالوسائل السلمية وبالحدود الممكنة، لكي نصل إلى «ديمقراطية المثال» التي باتت ممكنة، وحيث ليس من الممكن تحقيق ذلك دون المشاركة في «العملية الديمقراطية».
الأمر الذي يُبقي «الخطاب الديمقراطي» هو المهيمن رغم الحديث عن تحقُّق الديمقراطية، وهنا تضيع الحدود بين التحقُّق وضرورة التحقُّق. وكذلك تضيع كلّ الإشارات الراهنة التي تقول أنه بعد تحقيق الديمقراطية يجب أن نطرح المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والمجتمعية عموماً، لأن إشكالية الديمقراطية المتشكّلة سوف تُبقي التوتّر قائماً حول الديمقراطية ذاتها، أي بين التحقُّق وضرورة التحقُّق. والثانية: تتعلّق بنشوء مشكلات اقتصادية اجتماعية كبيرة، ستبقى خارج «وعي» أو اهتمام هذه القوى، الأمر الذي يسهم في استمرار تهميشها، وهامشيتها. وبالتالي سوف تبقى «معلّقة» في «المستوى السياسي»، وسوف تبني سياساتها انطلاقاً من ذلك، مما يبقيها ملحقة بالسلطة الجديدة أو على هامشها.
إذن، ستتصاعد الأوهام حول الديمقراطية، معزَّزة هذه المرّة بـ «الممارسة». الأمر الذي سيخلق شرخاً أعمق في العلاقة مع الحراك المجتمعي. وبالتالي سوف تبقى محدودة القوّة ومحدودة التأثير، وتائهة في إطار «اللعبة السياسية».
المتحوّل الثاني: يتعلّق بأن نهاية «الانسداد» والضبط الذي يعيشه المجتمع وتحقيق انفراج ما (وهذه مسائل إيجابية على كلّ حال)، سوف يُطلق «مكنونات» المجتمع، وبالتالي سوف يقود إلى تبلورات سياسية جديدة، يمكن أن نحدِّدها على ضوء تحليل الواقع القائم سابق الذكر، حيث سوف تعود القوى التقليدية والأصولية لكي تستحوذ على فضاء أساسيّ في المشهد السياسي المتشكّل. فالقوى البرجوازية التقليدية والوجاهات وشيوخ العشائر، التي تلاشت خلال العقود الماضية، وكذلك البرجوازية الجديدة التي نهبت طيلة العقود السابقة، سوف تطفو على المشهد السياسي وتتصدّر النشاط السياسي. وأيضاً ستعود الحركة الأصولية: جماعة الإخوان المسلمين والحركة الوهابية ( القاعدة )، مستفيدة من جوّ التديّن الشعبي، ولاعبة عليه. وسوف يلاقي ذلك تجاوباً نتيجة «الوعي الديني» ذاته، وكذلك نتيجة الأوهام حول ما تطرح الجماعة بسبب غيابها الطويل. وسوف يتزايد التجاوب في حال غابت القوى السياسية التي تمثّل وجهات نظر مختلفة، ديمقراطية وعلمانية. وأشير هنا إلى أن المرحلة الأولى من الانفراج سوف تُبنى على الوضع الذي تشكّل طيلة العقود الأربعة السالفة، وبالتالي سوف يُبنى على أوهام، وعلى رفض لقوى ولممارسات باتت من الماضي. وهنا يجب أن نشير إلى أن توضُّع الأصولية «السنّية» سوف يؤدي إلى توضّعات طائفية تتخذ أشكالاًً سياسية كذلك، أو سوف يطور التوضعات الراهنة، وربما يفضي إلى حساسيات واحتكاكات خطرة. كما أن الدور «المعادي» للغرب، وأميركا خصوصاً الذي يلعبه تنظيم القاعدة، سوف يؤسِّس لقبول له، وتعاطف معه، يجعل منه مشكلة سورية كما بات مشكلة في العراق. وإذا كان وضع العراق يؤسّس لوعي لدى الشعب السوري بالأخطار التي يوجدها الصراع الطائفي، فإن ذلك لن يتحوّل إلى قيمة إيجابية إلا عبر فِعل قوى ديمقراطية وعلمانية.
المتحوّل الثالث: هو متحوّل اقتصادي اجتماعي، حيث أن التكيّف التام مع سياسات العولمة، والذي هو نتيجة الانخراط في المشروع الأميركي، سوف يقود إلى إتّباع «اقتصاد الصدمة» (الذي بُدِئت الدعوة للبدء بتطبيقه، وبدء في تطبيقه كما جرت الإشارة)، الذي يعني الميل لتسريع الخصخصة وإعادة الشركات المؤممة لأصحابها السابقين، وأيضاً إعادة الأرض لملاّكها الإقطاعيين. وكذلك الانفتاح السريع على السوق العالمي، وتخلّي الدولة عن أدوارها الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية، الأمر الذي سوف يقود إلى حدوث انهيارات اجتماعية كبيرة، خصوصاً في الريف بين الفلاّحين الذين سوف يفقدون أراضيهم ودعم الدولة لهم. والعمال الذين سيسرّح جزء كبير منهم، وتنخفض أجور من بقي ( سوى بعض التقنيين الذين سوف ترتفع أجورهم بشكل كبير، وأيضاً بعض المهنيين). كما سيقود الانفتاح إلى ارتفاع هائل في الأسعار دون ارتفاع الأجور بشكل موازٍ (رغم ارتفاع الأجور اسمياً، لكن في مقابل انخفاض قيمة الليرة كما هو متوقّع)، وهذا ما شهدناه خلال عام 2008.
و هذا الوضع سوف يزيد من وتيرة الحراك الاجتماعي، ويؤسِّس لتوتّرات اجتماعية جدّية، في الريف والمدينة، وسيصبح للمطالب المعاشية أهمية كبيرة في الصراع السياسي. وأيضاً سوف يتوسّع التناقض بين الفئات الحاكمة الجديدة (وإنْ حكمت بشكل ديمقراطي) والطبقات الشعبية، وسيتخذ الصراع طابعاً سياسياً من زاوية توافق سياسات تلك الفئات الحاكمة مع السياسات الإمبريالية الأميركية والإمبريالية عموماً. وهو الوضع الذي سيشكّل مرتعاً لجماعات «القاعدة» بالتحديد، التي باتت متوضّعة في بعض المناطق، وتتغذى من دورها في مقاومة الاحتلال الأميركي في العراق (رغم الشكوك حول هذا الدور، والذي يمكن أن يغذي الصراعات الطائفية هنا)، أو صراعها ضد العائلة المالكة في الجزيرة العربية، أو صراعها ضد الاحتلال الصهيوني في فلسطين. رغم الدعم، والمالي خصوصاً، الذي يأتيها من السلطة السعودية خصوصاً.
إذن، يمكن توصيف الوضع القادم بأنه يمكن أن يشهد التحاق جزء، ربما يكون كبيراً، من القوى السياسية الديمقراطية بآليات نظام يتشكّل على أساس «ديمقراطي»، دون انتباه لإشكالية هذا النظام وإلى لا ديمقراطيته في الجوهر (أي خارج إطار التعددية السياسية والإعلامية والانتخابات)، وترابطها طبقياً مع المافيات التي تشكلت في حضن هذه السلطة. وإعادة تشكيل القوى التقليدية والأصولية وتحوّلها، من خلال الانتخابات «الديمقراطية»، إلى قوّة أساسية في المشهد السياسي. وحساسيات طائفية تطفو على السطح، وانقسامات تقوم على أساس ما تقدّمه الديمقراطية الوليدة، وأقصد السعي لتطبيق الفيدرالية، وبالتالي احتمال نشوء احتكاكات دموية. وفي الوقت ذاته حصول إفقار كبير وبطالة واسعة، وحراك اجتماعي قويّ، يمكن أن يوجّه في سياقات طائفية. هذا هو الوضع المحتمل القادم، والمبني على فهم للواقع القائم، حيث أن التدمير الذي مارسته السلطة طيلة عقود يترك الواقع دون قوى سياسية فعلية سوى الأصولية والوجاهات والتجار وأحزاب تعيش في الماضي. ويترك وطناً يعاني من التشقّق، ومجتمعاً يُفقر.



القسم الثاني:
ما العمل؟
حول مهمات الديمقراطيين الاشتراكيين الثوريين

أزمة الشيوعية ونهاية الحركة القديمة
نتجت أزمة الحركة السياسية ليس عن القمع العاري فقط، لقد لعب هذا العامل دوراً لاشكّ في ذلك، لكن يجب أن نلحظ مشكلاتها البنيوية التي سبقت التحوّلات التي قام بها البعث، والتي تفاقمت بعدها، خصوصاً بعد انحسار الصراع الطبقي وتحوّل الكتلة العريضة إلى قاعدة للسلطة الجديدة، الأمر الذي جعل تلك الحركة في وضع مختلف لم تستطع التكيّف معه، وربما كان الوضع ذاته قد تجاوزها. كما أنها لم تسعَ إلى إعادة النظر في بنيتها وتصوّراتها بعمق، ولم تطوّر وعيها طيلة العقود السالفة، الأمر الذي أبقاها دون رؤية حقيقية ودون مقدرة على وعي الواقع. فأصبحت حركتها استجابة لفعل السلطة، مما وسمها بالتعامل انطلاقاً من ردود الفعل، وحصرها في المستوى السياسي.
و كانت التحوّلات الاجتماعية توجد ظرفاً مفارقاً، وبيئة غير مؤاتية للفعل السياسي. لتأتي سطوة السلطة وآلتها القمعية تكميلاً لوضع، لكنها قادت إلى تدمير الحركة السياسية وكذلك تدمير السياسة في المجتمع. ولهذا باتت استجابة التمرّد والرفض في هذه المرحلة لدى بعض القطاعات ترتبط بـ «الوعي العادي» لدى الفئات الاجتماعية، أي الوعي الديني. وهذا ما أوجد إشكالية جديدة، حيث أن هذا الوعي لا يؤسِّس لرؤية واضحة للواقع، ولا يطرح بديلاً يتجاوزه. على العكس من ذلك فهو يؤسِّس لاستنهاض تناقضات الماضي التي هي عبء على صيرورة التطوّر، وعلى عملية التغيير، كما على مواجهة الأخطار.
و إذا كان الخيار الذي ينتصر هو خيار: الليبرالية، والديمقراطية المغروسة في شقوق الماضي وثلومه، والميل الإنكفائي ( السوروي ) المتنازل عن المسألة الوطنية، والمتكيّف مع العولمة الإمبريالية. فإن خياراً آخر يجب أن يُطرح، وأن يُعمل على بلورته، خيار يمثّل الطبقات الشعبية، خصوصاً العمال والفلاّحين الفقراء وكلّ الفئات المهمّشة في الريف والمدينة، الأمر الذي يدفع إلى إعادة صياغة الوعي والتصوّرات والتكتيك، المعبّرين عن كلّ هؤلاء. وهذا ما يجب أن تقوم به قوة ماركسية اشتراكية مستندة إلى العمال والفلاحين الفقراء، ومطورة صراعهم الطبقي ضد الرأسمالية الجديدة والقديمة معاً.
لكن هذا الأمر يفرض تحديد المشكلات الأساسية للحركة الشيوعية وكل القوى الماركسية التي نشطت خلال العقود السابقة، من أجل بلورة تصوّرات تتجاوزها، بالاستناد إلى وعي جديد بالواقع، وانطلاقاً من منهجية ماركسية منفتحة تستند إلى المنهج المادي الجدلي. وفي هذا الإطار يمكن ملامسة ست مشكلات جوهرية اخترقتها وتحكّمت في تكوينها. ولقد طال ذلك الحركة الشيوعية كما طال الحركات الماركسية التي حاولت تجاوزها دون أن تفلح في ذلك، حيث بدت الاختلافات سياسية أكثر مما هي جذرية تطال كلية البنية، أو بالأساس تطال الوعي وتمثّل الماركسية، رغم أن هذه الاختلافات كانت تضع الحركة الشيوعية والحركات الماركسية في موقع التعارض وأحياناً التناقض. ورغم أن هذه المشكلات تحتاج إلى بحث مطوّل، إلا أن الضرورة تفرض تلخيصها في التالي:
1) الوعي المحدود بالماركسية، والانطلاق من أنها نصوص مكتملة غير قابلة للخطأ، وغير قابلة للإضافة. بمعنى أنها أصبحت تتضمّن «كلّ العلم»، الأمر الذي جعل هذه النصوص بديل الواقع، أو الواقع المحدّد مسبقاً. لهذا لم يتبلور الميل لوعي الواقع والبحث فيه من أجل الوصول إلى قوانينه المحدّدة في المكان والزمان. وبهذا غابت المسألة الأهمّ في الماركسية التي هي منهجيتها التي تسمى الجدل المادي، والتي هي أساس وعي الواقع وفهم متحوّلاته وتحديد رؤى تحويله.
و لقد جرى التعرّف على الماركسية عبر الماركسية السوفييتية في الغالب، فجرى الالتزام بمبادئها وتصوّراتها السياسية. وهذه الماركسية هي التي حوّلت الماركسية من طريقة في التفكير إلى «نصوص مقدّسة»، الأمر الذي قاد إلى العماء من خلال بنية فكرية تحدِّد الواقع مسبقاً، وبالتالي تؤسس لحركة لا أساس واقعي لها، بعيدة عن مشروع الطبقة التي تطرح أنها تعبّر عنها، وبالتالي جعل كلّ العمل السياسي ضائعاً خلف أوهام.
هنا يمكن القول بأن النقلة الضرورية في الوعي لم تتحقق، فظل الوعي "تقليدياً" رغم الطابع الحداثي الذي يتغطى به. ولهذا ظلت تفكر من منظور منهجية قديمة عبرت عن عقل أحادي تشرّب الموروث التقليدي عن أن يقطع معه. لهذا ركنت إلى النقل والحفظ، وتكرار النصوص والأفكار، دون وعي كنهها، وتمثل منهجيتها. وكان كلّ ذلك يشير إلى الفشل في وعي كنه الماركسية والإفادة منها من أجل وعي الواقع القائم في بلادنا. حيث ظلّت طريقة التفكير القروسطية هي المسيطرة، هذه الطريقة التي لا تستطيع تجاوز الشكل إلى المضمون، والجزء إلى الكلّ، ولا يمكنها فهم أن الواقع متحوّل. لهذا أبدلت مفرداتها التقليدية بمفردات ماركسية، واستمرت تنظر إلى العالم والأشياء من منطلق: مع أو ضد، وكذلك: إما، أو. الأمر الذي جعلها لا تستطيع مسك سوى حلقة واحدة، هي في الغالب ما هو مكشوف، وما يؤثر عليها مباشرة.

2) وحيث فقدت وعي الواقع فقد كانت سياسوية، أي تلامس «السطح السياسي» المتعلّق بالحدث والتحرّكات والنشاط السياسي الذي تقوم به الدول أو الأحزاب وما ينتج عنه من أحداث، دون أن تغوص في أساساتها ودون أن تبحث عن مسبباتها. لهذا فهمت الفكر على أنه البحث في المجرّدات، وفهمت الوعي على أنه «المعرفة الزائدة» عن حاجة العمل السياسي. وباتت معنية بالحدث أو التصريح الصحفي أو التحرّك السياسي، من أجل تحديد موقف مباشر، والذي يكون غالباً مع أو ضد، التأييد أو الشتم.
و هذه ممارسة تشير إلى الدور الانفعالي المتأثر بفعل ما، وبالتالي الذي يرى ما يحدث (أو ما يظهر على السطح) دون ملامسة مسبباته وفهم جذوره. مما أسّس لأن يتحوّل «فعلها» إلى ردّ فعل، وبالتالي باتت تلهث خلف الأحداث دون أن يكون لها المقدرة على التأثير فيها أو فعلها. لقد كان منطقها يتأسس وفق "مفهوم الهوية" الأرسطي، لهذا كانت الأمور تتحدد في: مع أو ضد. وهنا كان التناقض يعني رفض شيء ما، طبقة أو سلطة أو سياسة، الأمر الذي يجعل السياسة المتبعة هي المعكوس فقط. ليصبح الصراع مع البرجوازية هو تمجيد في البروليتاريا، والتشدد في فرض "دكتاتوريتها". والصراع مع السلطة هو نقد لآلياتها السياسية، ولسياساتها فقط. ورفض الاستغلال الرأسمالي يعني طرح القضايا المطلبية للعمال، وليس المشروع السياسي لهم. وهو الأمر الذي أوجد "نضالاً سياسياً" من أجل الحريات أو الديمقراطية، ورفض لسياسات "خارجية" تمارسها السلطة، هذا من جهة، ونضال مطلبي فقط من جهة أخرى. بما يعني أن السياسة هنا لم تكن تعني المشروع الطبقي للعمال في سعيهم الوصول إلى السلطة لتحقيق نمط بديل، بل عنت نضال من أجل تحقيق مطالب معيشية من جهة، ومطالب "ديمقراطية" و"وطنية" من جهة أخرى، تلك التي تتعلق بسياسات إقليمية أو عالمية.
وهنا كان غياب الوعي بالماركسية بما هي طريقة في التفكير سبباً جوهرياً في ذلك، الأمر الذي جعلها تنحكم للممارسة العفوية العشوائية القائمة على ردود الأفعال، وعلى برنامج مطلبي محدود الأفق.
3) وبالتالي فقد غلبت عليها النظرة التكتيكية، أي الانطلاق من الحدث ذاته فقط الذي بات هو «الحلقة المركزية»، والمحدَّد اعتباطاً (أي دون دراسة شاملة للواقع)، والذي غالباً ما كان نتيجة الشعور المباشر بوطأة الحدث، الذي هو السياسي المتمثّل في السلطة، مما كان يجعل الديمقراطية هي «الحلقة المركزية»، أو الاحتلال الأمر الذي كان يفرض البحث عن التحرّر الوطني.
و لاشك في أن المنطق السياسوي كان يقزّم الواقع إلى مستوى واحد هو المباشر (أي السلطة)، الأمر الذي كان يحدّد التكتيك في الوقوف معها أو ضدها. وإذا كان مفهوم «الحلقة المركزية» في الماركسية يعنى أن «اللحظة الراهنة» تفرض تكتيكاً محدّداً هو ما يشكّل الحلقة المركزية، فإن ذلك لا يكون إلا عبر بحث شامل في الواقع وتحديد لكل مشكلاته، وبالتالي للمهمات التي يطرحها. من هنا يكون التركيز في لحظة على مهمة ضرورة يفرضها الصراع الواقعي، وهي ضرورة متحوّلة، أي أنها ليست ثابتة لمدى متوسط أو طويل، بل تتعلّق بـ «اللحظة» ( بـ «الآن»)، وليس بالمدى المنظور. ولأن الواقع متحوّل فإن الحلقة المركزية متحوّلة، على ضوء المهمات العامة التي يطرحها الواقع في المستويات: الوطنية، وبالتالي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية كذلك.
إن غياب الوعي العميق والشامل فرض معالجة «السطح السياسي» فقط، وحوّل مهمة اللحظة الراهنة إلى مهمة إستراتيجية. لهذا باتت "الحركة هي كل شيء أما الهدف النهائي فلا شيء" كما كان يقول بيرنشتاين. إن الطابع الشكلي للوعي كونه لازال قروسطياً كان يجعل الحدثي (اليومي) في أساس السياسة، وفي أساس تحديد التكتيك، لكن دون رؤية إستراتيجية ووعي عميق بالواقع، وبالتالي تحديد واضح للخطوات الضرورية، والتي هي وحدها تستطيع أن تؤشر على المسألة الضرورية في كل لحظة، ومن ثم تفرض التكتيك الضروري. وهو ما كان يجعل حركتها عشوائية، وبلا تراكم يطور من قوتها.
لقد كان تعلقها بـ "السطح السياسي" يجعل تكتيكها مركزاً هنا، ويخضع لمتحولات الأحداث دون ارتباط بالوقائع التي تنحكم هذه الأحداث لها، لأن تلك الوقائع كانت غائبة، أو منفصلة عن السياق العام للتفكير. لهذا ظل التكتيك منحصراً في "مقاومة الاستعمار" في البلدان المحتلة، دون فهم لطبيعة التكوين والمقاومة والدور. أو مواجهة النظم دون معرفة بواقعها الطبقي، وبكيفية تطوير نضال الطبقات من أجل التغيير، وبتركيز على المستوى السياسي، والقضايا المطلبية كما أشرنا للتو.
4) وغياب وعي الواقع جعلها تكرِّر ما عممته الماركسية السوفييتية بخصوص المسألة القومية (و الذي كان سلبياً)، كما بخصوص المشروع الصهيوني، وأيضاً فيما يتعلّق بالمهمات الديمقراطية. وإذا كانت لم تطرح تحقيق الاشتراكية فقد طرحت التطوّر الديمقراطي البرجوازي (أي بقيادة برجوازية) كخيار، في وضع كانت البرجوازية عاجزة عن فعل شيء (سنوات 1937- 1964). وحين استلمت الأحزاب القومية وعملت على تحقيق المهمات الديمقراطية (تحت شعار أنها تحقّق الاشتراكية)، وبضغط سوفييتيّ قبلت التحالف معها لتحقيق «الاشتراكية» (التي لم تكن أكثر من أوهام فئات فقيرة ريفية). أو طرحت تحقيق الاشتراكية ودكتاتورية البروليتاريا في وضع لم يكن قد تجاوز القرون الوسطى وكان يحتاج إلى تحقيق مهمات ديمقراطية (الإصلاح الزراعي والتصنيع وتحديث التعليم والفكر ومؤسسات الدولة والديمقراطية والعلمنة). لقد كان الانطلاق من الرؤية التي عممتها الماركسية السوفييتية كارثياً هنا، لأن «الصورة الذهنية» التي نقلتها كانت تتعلّق بوضع البلدان الرأسمالية، الأمر الذي رسم الصراع الطبقي كما هو في هذه البلدان دون ملاحظة الواقع المختلف الذي تعيشه والذي كان لازال يتسم بأنه زراعيّ متخلّف، مما أدى إلى تهميش مسألة الفلاحين التي كانت جوهر الصراع نتيجة أن البنية الزراعية كانت هي البنية الأساسية من حيث عدد السكان ومن حيث الإنتاج.
لهذا لم تستطع وعي الواقع العربي، ووعي مشكلاته. وصاغت «برنامجها السياسي» انطلاقاً من المفاهيم التي نقلتها الماركسية السوفييتية. فكان يجب أن تهمّش المسألة القومية لأنها نزعة برجوازية. وكان يجب أن تدعم تطوّر الرأسمالية لأن الانتقال إلى الاشتراكية يفرض انتصار الرأسمالية أوّلاً. وكان يجب أن تركّز على العمال لأن الصراع هو بين البرجوازية والبروليتاريا، وبهذا أهملت الفلاحين. وكان يجب رفض الديمقراطية لأنها من صنع البرجوازية. وكان يجب القبول بالدولة الصهيونية لأنها أمر واقع، ولأن الإتحاد السوفييتي في إطار صراعه العالمي قبل بوجودها كما قبل بتقاسم العالم مع الدول الرأسمالية بعد الحرب العالمية الثانية.
5) وكان كلّ ذلك يجعلها تنطلق من القبول بالأمر الواقع دون التفكير بتغيير الواقع، سواء في العلاقة مع السلطة حينما تؤيدها وتميل للتكيّف معها، أو وهي في المعارضة حينما تخضع لقوّة فيها. إن رؤيتها التي تنطلق من التأييد أو الرفض كانت تجعلها لا تطرح مسألة دورها هي بالذات، ولا تسعى للبحث عن فاعلية تمارسها لكي تتحوّل إلى قوّة، خصوصاً أنها لم تطرح في الغالب مسألة التغيير، ولم تعتبر أن دورها الأساس هو تحقيق التغيير، وبالتالي تطمح لأن تلعب دوراً قيادياً.
إن غياب تحليل الواقع منعها من أن ترى الدور الذي يجب أن تلعبه، وهو الدور الذي يشكّل ضرورة في مسار التطوّر. حيث ظلّت تفكّر من منطلق أنها تلعب دورها «في الظلّ» خلف قوى أخرى، وبالتالي كانت تخضع لمتطلبات تلك القوى، وتنشط انطلاقاً من برامجها. ولهذا لم تطرح على نفسها مهمة الوصول إلى السلطة، وظلّت هذه المسألة مكبوتة لأنها «مرعبة»، الأمر الذي جعلها تنطلق من أن السلطة هي لقوى أخرى.
البحث هنا ينصبّ على الفاعلية والإرادة، وعلى الاقتناع بأن للماركسيين دون ريادي في قيادة عملية التغيير، وأن مهمتهم تتمثّل في تفعيل الحراك المجتمعي من أجل إيصاله إلى مرحلة من القوّة تؤهله لفرض سلطة تمثّله. هذا الدور المبادر والمواجه والطامح، والقادر على أن يفعّل صراع الطبقات، وأن يجعله يتطوّر في اتجاه تغيير ميزان القوى الواقعي لمصلحة الطبقات الشعبية، هذا الدور هو ما كان ينقص القوى الماركسية.
6) ولقد كانت هذه القوى غير ديمقراطية في بنيتها، حيث ظلّت تميل إلى «التكوين التقليدي» القائم على العلاقات البطركية، وعلى التمايز بين المستويات «المقامات»، كما على ميل كلّ فرد إلى أن ينظر لذاته على أنه «الفرد المكتمل» وبالتالي مطلق الصحة وكامل المعرفة، رغم عدم اضطلاعه على الثقافة والمعرفة، ورفضه القراءة والبحث. وهو ما كان يجعل المسئول قريباً من الإله.
و لاشك في أن استمرار بنية الوعي التقليدي كان يفرض استمرار العلاقات التقليدية، مما أدى لأن تتحوّل إلى «طائفة مغلقة» يسيطر عليها زعيم.

لكلّ ذلك، في اللحظة التي كان يجب أن تلعب دوراً فاعلاً وقيادياً (منذ تأسيس الحركة الشيوعية، وخصوصاً منذ سنة 1937، إلى انتصار الناصرية في مصر سنة 1952، والبعث في سوريا والعراق سنوات 1963 و1969) رفضت ذلك، وراهنت على مشروع برجوازيّ مجهض مسبقاً ومسدود الأفق. وحينما انتصرت الحركة القومية وأجرت تحوّلات مجتمعية، بات منطقها وباتت برامجها من الماضي، وتجاوزها الزمن، لتلتحق بالسلطة الجديدة، وأصبحت جزءاً من تكوينها رغم دورها الهامشي، وليفجّر ذلك بنيتها ويفتتها. لقد أضاعت الوقت المؤاتي للتغيير برسمها إستراتيجية تقوم على الالتحاق بالبرجوازية، لهذا التحقت بالفئات الوسطى. لكن انشقاقاتها والميول الماركسية الجديدة في الغالب، قرّرت أن تغيّر بعد أن أصبح الوضع غير مؤاتٍ نتيجة فعل الحركة القومية.
و بالتالي لم تلامس كلّ محاولات تجديد الحركة الماركسية (وهي الموجة التي مثلت تشكل اليسار الجديد)، التي بدت كردّ فعل على سياسات الحركة الشيوعية، الوضع الجديد. ورغم تأكيدها على الإرادة وعلى ضرورة التغيير واستلام السلطة، فقد كان التكوين الطبقي الواقعي يشهد «وضعاً انتقالياً» قام على دعم الطبقات الشعبية للسلطة الجديدة أو على الأقل عدم الميل لمواجهتها، الأمر الذي جعل التغيير مستحيلاً. وربما كان هذا الوضع هو الذي أنتج كلّ تشوّهاتها. وكذلك ربما كانت إرادويتها تلك وفي الوضع المشار إليه، هي التي أنتجت ميلها الراهن، الاستسلامي الليبرالي، والمعادي للماركسية كذلك. لقد «تكسّرت» وهي تحاول إسقاط السلطة دون جدوى، الأمر الذي أقنعها بأن هذه السلطة هي كلية القوّة والجبروت، ولم تلحظ أن المشكلة تكمن في وعيها وفي رؤيتها للواقع ذاته، وبالتالي خوضها الصراع في لحظة خاطئة تكتيكياً.
إذن، لقد غابت الرؤية المبنية على وعي الواقع، مما قاد إلى سياسة خاطئة وتكتيكات في غير أوانها، وبنية تنظيمية ليست ديمقراطية. لقد إنبنت رؤيتها على تصور ينطلق من دورها الداعم لطبقة أخرى، هي البرجوازية، من أجل تحقيق "المرحلة الرأسمالية"، ولهذا كيفت مجمل سياساتها لهذا المبدأ، فكانت ترفض أن تنظم العمال والفلاحين في سياق يجعل هؤلاء هم السلطة، عبر تطوير صراعهم الطبقي، لأنها كانت تنطلق من أن مهمات الواقع الديمقراطية هي من اختصاص البرجوازية، وهو الأمر الذي جعل موقفها من السلطة منوط بتولية البرجوازية في إطار نظام ديمقراطي، بينما تطرح هي المطالب المعيشية لهذه الطبقات في إطار مطلبي إصلاحي وليس في إطار ثوري طبقي. كما تكيفت مع البرجوازية التي كانت تهادن الاستعمار وتقبل في الحدود السياسية التي رسمها، وبالتالي فقد نظّرت للقطر/ الأمة. وأيضاً ابتعدت عن طرح قضية الفلاحين، التي كانت هي جوهر الصراع الطبقي آنئذ، نتيجة الموقف ذاك من البرجوازية. وبالتالي لم تعبر عن جوهر الصراع الطبقي، وتجاهلت الشعور القومي، كما لعبت على الشعور الوطني. لهذا تهمشت بعد أن أفضى تفاقم الصراع الطبقي إلى التغيرات التي أشرنا إليها. وكل محاولات تجاوز هذا المنطق إما كانت ردة فعل تطرفت في وضع لم يكن مؤاتياً، أو لم تنضج كفاية ومالت نحو اللبرلة.



حول البديل

و إذا كانت الظروف الجديدة تفرض تأسيس تحالف واسع ديمقراطي وعلماني يدافع عن الطبقات الشعبية في مواجهة السيطرة الإمبريالية والليبرالية الجديدة والميل الأصولي الطوائفي ومن أجل الاستقلال والتطوّر، فإن البدء بتأسيس القوّة المعبّرة عن العمال والفلاحين الفقراء والمهمّشين يبدو ضرورة من أجل هؤلاء، كما من أجل ذاك التحالف، وبالأساس من أجل تحقيق الاستقلال والتطوّر والتفاعل مع كل القوى المقاوِمة في الوطن العربي في سياق السعي لتحقيق المشروع القومي الديمقراطي العربي. ولاشكّ في أن تبلور هذه القوّة سوف يدعم التحالف الواسع ويزيد من فاعليته. لهذا من الضروري تحديد طبيعة هذه القوّة، خصوصاً أن كل الأحزاب الشيوعية والماركسية فشلت في أن تكون قوّة تغيير وباتت تعاني من أزمات عميقة، وهي ككلّ الحركة السياسية مفككة ومنعزلة وهرمة، وبعيدة عن قاعدتها الطبقية، ودون توجّهات واضحة، ويخترقها الميل الليبرالي والاستسلام لميزان القوى الراهن الذي يشير إلى التفوّق الأميركي المطلق.
و إذا كان الحزب الشيوعي قد تشرذم إلى خمسة أو ست أحزاب. وإذا كانت قد نشأت أحزاب ماركسية أخرى مثل حزب العمال الثوري وحزب العمل الشيوعي والبعث الديمقراطي (إضافة إلى الأحزاب الماركسية الكردية). فإن الكادرات الشيوعية في الغالب باتت خارج كلّ تلك الأحزاب. وإذا كانت الأحزاب قد باتت هرمة، فإن خبرات ووعي مشكلات التجربة الطويلة يحملها أفراد في هذه الأحزاب ومن الكادرات التي باتت خارجها. وبالتالي فإذا كان العمل الماركسي ينطلق من السعي لإدخال الشباب معترك الصراع الطبقي، فإن الدور الملقى على هؤلاء مهمّ وضروريّ من أجل المعرفة والخبرة والتجربة، في سياق السعي لإعادة التأسيس.
و في إطار هذا الوجود للأحزاب القديمة، والتشتت الذي يعيشه عدد كبير من الماركسيين، يجب البحث عن الصيغة الممكنة لبناء حزب مترابط مع الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء وكلّ المهمّشين، ومتلاحم مع كلّ الطبقات الشعبية. يضمّ كل المجموعات والأفراد المعنيين بذلك، في الأحزاب وخارجها، وموجه للقطاعات الشابة والنشطة من هذه الطبقات، انطلاقاً من مبادئ أساسية يمكن تلخيصها بالأمور التالية:
أ) التمسّك بالماركسية كونها منهجية وليست «نصوصاً مقدّسة»، وهي طريقة في التفكير هدفها فهم الواقع، وليست «مجرّدات نظرية» قيمتها معنوية، ولا هي نصوص قالها ماركس أو إنجلز يجب الالتزام بها كونها باتت مقدّسة، وليست كذلك تصوّرات للواقع مسبقة التحديد. إنها بالأساس طريقة في التفكير تنطلق من الجدل المادي الذي تبلور مع ماركس استناداً إلى هيغل. وبعد ذلك يمكن التأكيد على قوانين توصّل إليها ماركس وإنجلز (و ربما آخرين)، لكن تحديد هذه القوانين مرتبط بالجدل المادي ومؤسَّس عليه ولا يمكن أن يتمّ بالتالي بمعزل عنه. ولأن «الماركسية الدارجة» عمّمت قوانين انطلاقاً من أنها قوانين ماركسية، من الضروري الحذر وإعادة البحث في الماركسية بما هي القوانين العلمية المتوافقة مع الجدل المادي؟
بمعنى أن المرتكز الأساسيّ هو المنهجية، وانطلاقاً منها يمكن تحديد كلّ ما هو علمي في الماركسية، من قوانين وتصوّرات ومفاهيم وغيرها. لهذا يجب الانطلاق من أفق مفتوح، ومن تفكير جديّ في مناقشة كلّ المفردات والتصوّرات الماركسية التي نعرفها، من أجل الانطلاق من منهجية ماركسية متماسكة حين البحث في الواقع الراهن.
بـ) إن العمل الماركسي يهدف إلى التعبير عن العمال والفلاحين الفقراء وكلّ الفئات الاجتماعية المعنية بمصالح هؤلاء. بمعنى أن الحزب الماركسي هو الحزب الذي يدافع عن المصالح الطبقية لهؤلاء، ويعمل معهم من أجل مطالبهم الراهنة، ومن أجل تحقيق حلمهم في الاشتراكية. والحزب هو الاندماج بين الثقافة الماركسية وهذه الطبقات، أي بين المثقفين الذين يحملون الرؤية الماركسية وهذه الطبقات، بحيث يتشكّل النشاط من هذا الترابط، ويصبح الصراع الطبقي هو ذاك الممتلك رؤية وبرامج وخطط عملية لطبقات ضد الطبقة المهيمنة. الحزب هو عناصر مثقفة تندمج في جموع هذه الطبقات لتفعيل وتنظيم نشاطها، وبلورة مصالحها ومطامحها في رؤية واضحة تشكّل البديل للخيار المهيمن. الأمر الذي يجعل بنيته منغرزة في الطبقات، ونشاطه هو نشاطها المنظّم الذي يسعى لتحقيق هدف واعٍ.
و الحزب ينطلق من أن وجوده مرتبط بالتكوّن داخل الطبقات التي يعبّر عنها بالأساس، بالإضافة إلى كلّ من ينضمّ من الفئات الوسطى انطلاقاً من وعي عميق بضرورة الاندماج في هذه الطبقات من أجل تحقيق أهدافها. ودون أن يتكوّن الحزب داخل الطبقات لن يستطيع أن يكون قوّة تغيير، ولا أن يكون حزباً ماركسياً.
و بالتالي فهو يسعى لأن يقود نشاطها الاعتراضي لتحقيق مطالب معيشية، وأيضاً نشاطها من أجل تأسيس بديل مجتمعي ينطلق ليس من مصالحها فقط، بل من مصالح المجتمع ككل كذلك.
جـ) يؤكد على الثقافة والوعي، وبالتالي على دراسة الماركسية لبناء القدرات المنهجية، ودراسة الواقع من أجل فهمه وتأسيس التصوّرات الضرورية لتغييره. لكن يؤكد في الوقت ذاته على «العملية» والنشاط، لهذا فهو يجمع بين الخبرات النظرية والمعرفية العالية والقدرات العملية والتنظيمية والتخطيطية الكبيرة. حيث أن أهمية الوعي والمعرفة يتحدّدان في قيمتهما العملية، أي في إضاءتهما الواقع بما يفضي إلى تغييره، وفي مساعدتهما على تحديد الممارسة والتكتيك الصحيحين. وبالتالي فإن الوعي هو الذي يسهم في المقدرة العملية، لأنه يؤسِّس لفهم الواقع وفهم صيرورته وتحوّلاته وطبيعة القوى فيه، وبالتالي العمل الضروري انطلاقاً من هذا الواقع للوصول إلى تحقيق الأهداف الممكنة والضرورية في آن من أجل التطوّر.
و إذا كان الواقع يفرز تناقضاته، ويُنتج انفعالات الطبقات المفقرة، فإن الوعي هو الذي يؤسّس لآليات وتكتيكات ضرورية من أجل أن يتحوّل النشاط العفوي إلى فِعل منظّم، انطلاقاً من تحديد الأهداف العامة واختيار التكتيك المناسب. وهنا الوعي لا يطال المفاهيم والبرامج والتحليل السياسي فقط، بل يطال العمل ذاته. لهذا فإن الوعي الأعلى يقود إلى عمل أكثر إنتاجية وتأثيراً ودقة.
د) لهذا فهو ليس دوغمائياً، يرى الواقع كما يرى تحوّلات الواقع، فهو لا ينطلق من أفكار مسبقة بل من مبادئ عامة ومنهجية هدفها تحليل الواقع. الأمر الذي يجعله دائم النظر إلى الواقع نظرة نقدية فاحصة لكي يستكشف التغيّرات فيه، ولكي يحدّد الخطوات الضرورية على ضوء ذلك.
و إذا كان يتمسّك بالمبادئ وبأهداف الطبقات التي يسعى للتعبير عنها، فإنه يسعى لتتبّع حركة الواقع ومتغيّراته من أجل أن يحدِّد التكتيك الضروري في كلّ لحظة.
إضافة إلى أنه دائم النظر إلى تجربته ونشاطاته بعين نقدية فاحصة ومدقِّقة، من أجل أن لا يقع في الأخطاء القاتلة.
إن رفض الدوغما يعني أن يظلّ النقد أساس المعرفة، وأيضاً أساس العمل. وأن يظلّ الشكّ عنصراً جوهرياً في المعرفة والممارسة. لأن اليقين نسبي، ولا يمكن أن يتحقّق إلا من خلال الشكّ ذاته.
ذ) يعرف أن التحوّلات الواقعية تفرض تحوّلات في الأولويات والتحالفات، بمعنى أن تكتيك العمل تفرضه تحوّلات الواقع انطلاقاً من المبادئ العامة والأهداف التي يسعى إلى تحقيقها. ولهذا فهو يزاوج بين الرؤية التي تمثّل تصوّراً راهناً وبعيد المدى، وبين الخطوة العملية في لحظة محدّدة. وينحكم للرؤية وليس للحظة، وإلا أصبحت «الحركة هي كلّ شيء أما الرؤية فلاشيء»، وبات ينحكم للعفوية وردود الفعل وليس للفعل. ولحركة الآخرين وليس لحركته الذاتية.
و هنا للوعي أهمية هائلة لأنها أساس معرفة متحوّلات الواقع والتكتيك الضروري المناسب في اللحظة المحدّدة.
ر) أن ينطلق من برنامج واقعيّ، يجيب على مشكلات الواقع. حيث يجب أن نلحظ أثر الأيديولوجيا في رسم الواقع في إطارات مسبقة التحديد، لهذا يجب أن يكون الواقع هو أساس الرؤية لأنه أساس العمل، وما تقدّمه الماركسية هو طريقة في التفكير وليس تصوّرات جاهزة. الأمر الذي يفرض أن تنبع البرامج من الواقع وانطلاقاً من مشكلاته.
وإذا كان الحزب يسعى لتحقيق الاشتراكية انطلاقاً من تعبيره عن الحلم الأساس للطبقة العاملة وللفلاحين الفقراء وكلّ المهمّشين، وانطلاقاً من كونه ماركسياً كذلك، فإنه الآن يسعى لتحقيق المهمات الديمقراطية الضرورية من أجل تحقيق التطوّر وتشكيل مجتمع مدنيٍّ حديث هو الأساس في أن تصبح الاشتراكية خياراً ممكناً، وبالتالي تحقيق الانتقال إلى الاشتراكية من خلال الديمقراطية.
لكن يجب أن نلحظ بأن ذلك لن يتحقّق وفق المسار الذي تحقّقت فيه الثورة الديمقراطية في أوروبا. لأن الواقع مختلف، وهو ما يفرض صيغة أخرى لم تعُدْ البرجوازية قادرة عليها، نتيجة عالمية النمط الرأسمالي بالذات. لهذا يجب تحقيق المهمات الديمقراطية في إطار طبقي مختلف ولمصالح طبقية مختلفة، لأن ذلك هو ما يحقِّق هذه المهمات. وحيث ليس من الممكن الانتقال إلى الاشتراكية دون إنجاز المهمات الديمقراطية المتعلّقة بتطوير قوى الإنتاج من خلال بناء الصناعة وتحديث الزراعة وتطوير البنية التحتية، وتحديث التعليم والثقافة والعلم، وتشكيل المجتمع القائم على مبدأ المواطنة والدولة الديمقراطية، وإنجاز المسألة القومية.
و إذا كان دور الحزب الماركسي المعبّر عن الطبقات آنفة الذكر يسعى لتحقيق مصالحها، فقد بات معنياً في تحقيق كلّ تلك المهمات من أجل ذلك.
ز) والحزب هنا يحدِّد مهمات هي أوسع من أن تقتصر عليه، لأنها حلم طبقات أخرى كذلك، وبالتالي هدف تيارات سياسية عديدة، وإنْ انطلاقاً من مصالح طبقية مختلفة. الأمر الذي يفرض التحالف مع كلّ القوى التي تتوافق على تلك المهمات. وهو تحالف طبقي مع الفئات الوسطى، وعبر أشكال متعددة، وسياسي مع القوى التي تعبّر عن هذه الفئات.
و هنا يجب أن نلحظ التوافق والتناقض بين هذه القوى التي يجب أن تتحالف من أجل تحقيق المهمات الديمقراطية، وأن تتصارع في إطار ديمقراطي، وأيضاً أن يسعى كلّ منها لأن يكون القوّة الأساسية في التحالف. لكن دون تحالف ليس من الممكن تحقيق تلك المهمات، وهذه مسألة يجب أن تكون واضحة ومحدّدة.
و لاشكّ في أن التوافق على المهمات العامة ( أي التي تتعلّق بالمجتمع)، لا يلغي التناقض في المصالح الطبقية، وبالتالي حول طبيعة النظام الاقتصادي الضروري من أجل تحقيق التطوّر، وشكل السلطة التي تحقّق هذا التطوّر أو تخدم المصالح الخاصة لهذه الطبقة أو تلك. وفي هذا الإطار يجب التأكيد على تحقيق النظام الديمقراطي العلماني.
س) حزب ديمقراطي، ينطلق من التنوّع وتعدّد الآراء ومن الاختلاف. ويشكّل هيكليته انطلاقاً من ذلك. وإذا كان من الضروري أن يجري التوافق على مبادئ أساسية وبرنامج محدَّد، فإن كلّ القضايا النظرية والمتعلّقة بالواقع وبالنشاط التي تعترض العمل، تبقى مجال حوار واختلاف وتصارع ديمقراطي.
لهذا فهو ينطلق من أن التنوّع سمة أساسية للحزب الطامح لأن يصبح قوّة تغيير. وإذا كان يسعى لتحقيق الديمقراطية في المجتمع، ويؤسِّس دولة ديمقراطية، فيجب أن يكون هو أوّلاً ديمقراطيّ.
و انطلاقاً من ذلك يمكن صياغة الهيكلية المناسبة، التي تسمح بتوحيد «الاتجاه» والعمل دون أن تمنع الحوار والانتقاد والتنوّع. ودون أن تلغي التكتلات والمحاور التي يمكن أن تنتج عن الاختلاف.
ش) وهو مرن، ويعمل بأشكال مختلفة، علنية وسرّية. سياسية ونقابية واجتماعية. وعلى برنامج يعبّر عن الطبقات التي يسعى لتمثيلها، ونقاط توافق مع تحالف عريض. كما على نشاطات اجتماعية تقوم على مطلب واحد لفئات محدَّدة، أي قضايا مطلبية ونوعية (العمال، الفلاحون، المرأة، المهنيون، وقضايا الديمقراطية والحريات عموماً).
لهذا فهو يؤسِّس لتحالفات متنوّعة ونشاطات مشتركة متعدِّدة. كما يمارس وفق آليات متنوّعة وفق الظرف الموضوعي، دون قسر مسبق لآليات العمل، ودون التزام شكل محدّد يمكن أن يكون قاصراً. الأمر الذي يفرض العمل في مستويات متعدِّدة وفق الأشكال الممكنة. وهو هنا يجمع بين العمل السياسي والعمل النقابي المطلبي، وكلّ الأشكال الضرورية التي يفرضها الواقع.
ص) يكون جزءاً من حركة ماركسية عربية، وينطلق من أنه معنيّ بالمشكلات الأساسية في الوطن العربي انطلاقاً من أن العرب أمة يجب أن تتوحد، وأن المشروع الصهيوني هو مشروع ضد العرب عموماً وبالتالي يجب أن يواجه في إطار عربيّ، وأن الاحتلال الأميركي للعراق والسيطرة الأميركية على الوطن العربي يجب أن تواجه في إطار مقاومة عربية شاملة. وأن التطوّر الاقتصادي والاجتماعي لن يتحققا إلا في إطار عربي.
و بهذا فهو يعمل لتحقيق الثورة القومية الديمقراطية في الوطن العربي، التي تحلّ المسألة القومية العربية، ومسألة القوميات المتداخلة مع العرب (الأكراد)، وكذلك مسألة الأقليات القومية (الأكراد في سوريا والتركمان والأرمن وجنوب السودان)، وأيضاً مسألة المجموعات البشرية التي كانت في أصول العرب ( الأشوريون والسريان والآراميون والكلدان والأمازيغ).
ض) ويلعب دوراً عالميّاً ضد النمط الرأسمالي، والعولمة المتوحشة، والليبرالية الجديدة، من أجل عالم متكافئ ومتعاون وينبني على المساواة والتضامن. وهو يسعى لأن يعاد تأسيس الحركة الأممية العالمية، انطلاقاً من كونها تحالف أحزاب ماركسية، ومركز تنسيق بينها في مواجهة الرأسمالية.

الواقع الراهن وآليات تشكيل الحزب:

هناك ضرورة إذن، لتأسيس حزب ماركسي يسعى لأن يمثّل العمال والفلاحين الفقراء وكلّ المهمّشين. يعبّر عن مصالحهم وعن خيارهم في التطوّر وعن بديلهم المجتمعي.
هذه الضرورة تفرض نفسها رغم وجود طيف من الأحزاب الشيوعية أو التي تتبنى الماركسية، والتي لها تاريخ عريق، ولازالت متواجدة في العمل السياسي، بغضّ النظر عن حجمها وعن تفاعلها مع الطبقات التي تشير إلى أنها «تمثّلها»، أو تمثّل «طليعتها». لكنها بدت على هامش الحراك المجتمعي، دون رؤية واضحة، وتنوء تحت إرث ثقيل من الأخطاء. كما وتبدو أنها مفككة وتزداد تفككاً، دون تصوّرات وبرامج تعبّر عن الطبقات التي تدّعي أو كانت تدّعي أنها تمثّلها. ملتبسة العلاقة مع الماركسية، وتنحكم لوعي «محدود» وضيّق، لازال يقوم على «منظومة متقادمة»، هي تلك التي سادت ما قبل العصر الحديث (يحكمها المنطق الصوري)، بعيداً عن وعي الماركسية، خصوصاً منهجيتها. وذات بنية داخلية بعيدة عن الديمقراطية.
وإذا كان يمكن تقسيمها إلى: أحزاب مع السلطة (عبر التشارك في الجبهة الوطنية التقدمية)، وأحزاب في المعارضة، وبالتالي تناقضها في الموقف من السلطة. فإنه يمكن تقسيمها انطلاقاً من الرؤية إلى: تيار «أصولي ماركسي» يكرِّر ما حفظه عن «الماركسية السوفييتية» المنهارة، وينطلق من «حَرْفية» تتمسّك ببعض الكلمات والأفكار دون مقدرة على تملّك المنهجية الماركسية، على العكس فهو تيار يكرِّس المنطق النصّي الذي حوّل الماركسية إلى جملة أفكار لماركس هي مطلقة الصحة، دون لمس كنه الماركسية بما هي منهجية، وبالتالي تكريس المنهجية التقليدية المتوارثة، والتي تقوم على المنطق الشكلاني (الصوري)، في صيغته اللاهوتية التي تقدّس النصّ. وهذا تيار متضيّق ومعزول، ولازال يعيش أحلام الماضي دون تلمّس التحوّلات العالمية. الأمر الذي جعله يفسّر كل ما جرى انطلاقاً من أنه «مؤامرة إمبريالية». ولاشكّ في أن المنطق الشكلاني يفسّر الأحداث ليس انطلاقاً من الواقع، بل بالاستناد إلى «قوى خارقة» هي دائماً «الإمبريالية والصهيونية».
التيار الآخر هو التيار «المجدّد»، وهو يميل إلى الليبرالية ويركّز على الديمقراطية فقط، ويعتبر بأن التجديد الضروري بعد أزمة الاشتراكية (وانطلاقاً من البريسترويكا) وانهيارها، يفرض التخلي عن رؤية لينين، والتأكيد على ضرورة التطوّر الرأسمالي الديمقراطي، والتكيّف مع العولمة. ومنطلقة من رفض الاشتراكية أساساً لـ «تجديدها»، ومن إظهار مهالكها وخطاياها، وبالتالي من توضيح ضرورة الرأسمالية وأهميتها، أساساً لعملها. وإذا كانت تخلّت عن «المنطق النصي» معتقدة أنها امتلكت «المنهج الجدلي»، فقد كرّرت تصوّرات وُجدت منذ وُجدت الماركسية، وأحياناً عادت إلى ما قبل ماركس في صياغة «أيديولوجية» فاتنة حول الديمقراطية، دون تلمّس ممكناتها واقعياً.
و بالتالي كان التياران ينطلقان من الوعي ذاته، ومن منهجية سابقة على نشوء الفكر الحديث والماركسية. وباتا منغلقين بعيداً عن الطبقات التي يمثّلانها. كما باتت هذه القوى منقسمة ومفككة، يتوافق معظمها دون أن يستطيع التوحّد في حزب. ولا يبدو أنها تمتلك الوعي الذي يؤهّلها لإعادة صياغة تصوّراتها على ضوء وعي الواقع، وبالتالي تحديد المهمات التي تسهم في تطوير الواقع.
هذا هو الطابع العام للأحزاب، بتميّزات شكلية ومحدودة، فيما عدا الانقسام في الموقف من السلطة. وهو ما يشير إلى أنها باتت من الماضي دون مقدرة على التجدُّد، لا في المستوى الفكري والسياسي وفي الوعي، ولا في المستوى التنظيمي، حيث باتت برامجها بعيدة عن التعبير عن مشكلات الطبقات الشعبية، كما عن المسألة الوطنية، رغم تبني بعضها لأهداف صحيحة. وبالتالي لم تعد مجال استقطاب الفاعلين السياسيين الجدد.
و لاشكّ في أن الواقع السياسي الراهن المنطلق من طابع السلطة الاستبدادي، الذي فرض إما الالتحاق بها أو التحوّل الإرادي، وأيضاً القسري، إلى المعارضة، وغياب الحراك الاجتماعي الفاعل، أبقى كل تلك الأحزاب، بعضها مترابط مع السلطة رغم تقلّص قاعدته، خصوصاً وأن السلطة ذاتها، التي سمحت بالنهب، تسير نحو اللبرلة، دون أن يتخذ موقفاً نقدياً يعبّر عن الطبقات الشعبية. وبعضها تهمّش بفعل العنف السلطوي، وانعزل، وبات منحصراً في نخبة سياسية ثقافية. وإن التكوين الاقتصادي الاجتماعي الذي نشأ عن التغيّرات التي أحدثتها السلطة، أفضى إلى تهميش الحركة الشيوعية، وإلى تحوّلها –بوعيها وبرامجها- جزءاً من ماضٍ انتهى. الأمر الذي فرض بدء تفككها، كأيّ جثّة تُلقى في العراء.
لهذا تشكّلت في «أحزاب» وكتل ومجموعات، أو انفرطت إلى أفراد، يحكمها التناحر ليس انطلاقاً من الانقسام: سلطة/معارضة فقط، بل أن التناحر يحكم كلّ طرف فيها، وهو الأمر الذي يزيد من التفكك الذي يتحوّل إلى تفتت.
إذن، يمكن القول بأن الوضع الآن يشير إلى انفصام السياسي عن المجتمعي، حيث الأحزاب منغلقة متقوقعة، وحيث الطبقات كانت ساكنة، لكنها بدت في حراك أوّليّ. وأن الأحزاب لا تطرح مشكلات تلك الطبقات، وتتقوقع في السياسي الذي يتمظهر في الديمقراطية في الغالب. ومَنْ يطرح بعض مشكلات الطبقات تلك يطرحها من موقع السلطة. لكن لا هذا ولا ذاك يؤسِّس لإعادة الترابط بين الأحزاب والطبقات. وبهذا فإنها تبدو دون مقدرة على أن يكون لها قاعدة اجتماعية، أو أن تندمج في الطبقات التي تسعى لأن تعبّر عنها. وبالتالي أن تصبح جزءاً من حراك طبقيّ.
وهذه النتيجة هي التي تفرض ضرورة السعي لتأسيس حزب جديد. ماركسيّ ومترابط مع العمال والفلاحين الفقراء وكلّ المهمّشين، ويسعى لأن يحقق بديلهم. لكن ذلك يفرض النظر في الممكنات، حيث يجب توافر ثلاث مسائل أساسية:
الأولى: تبلور تصوّر نظريّ ماركسيّ يحدّد ماهية الماركسية، لكنه يقوم على تحليل الواقع المحلي والعربي والعالمي، لبلورة رؤية العمل ومنطلقاته. وبالتالي البرنامج الذي يعبّر عن رؤية تهدف إلى التطوّر والاستقلال، وتحقيق مصالح الطبقات الشعبية.
الثانية: معرفة واقع العمال والفلاحين الفقراء وكلّ المهمّشين (و أيضاً واقع كلّ الطبقات)، والتأسيس للترابط مع هؤلاء، لأن أيّ عمل ماركسيّ لن يكون فاعلاً دون ترابط مع هذه الطبقات، والتعبير عن صراعها من أجل التطوّر العام كما من أجل مصالحها.
الثالثة: مجموعة معنيّة بالعمل الماركسي على أسس جديدة، هي المعنية بوعي الواقع وببلورة الرؤية، وبالتالي بالحوار النظري الماركسي. كما أنها المعنية بالترابط مع الطبقات الشعبية عبر وعي مشكلاتها، وتحديد مطالبها، والعمل من أجل الدفاع عن تلك المطالب، وتنظيم نشاطها من أجل تحقيقها.
و إذا كان انطلق التأسيس الماركسي من وجود فئة تطرح برنامجاً، وتسعى لاستقطاب الطبقات التي تعبّر عنها (وهذا هو أساس تشكّل كلّ الأحزاب الشيوعية، أو الأحزاب التي انشقت عن الحركة القومية). أو انطلق من توحّد مجموعات تبلورت، سواء في أحزاب لكنها تركتها، أو في الواقع. فإن الوضع الذي أشرنا إليه يجعل الأمر أكثر تعقيداً، حيث ليس المطلوب إضافة حزب آخر، بل أن المطلوب هو تأسيس حزب جديد يستطيع أن يتحوّل إلى قوّة اجتماعية. لا يمثّل نخبة فقط، بل يمثّل طبقات. ويصبح هو القوّة الحقيقية لليسار، والممثل الفعليّ للعمل الماركسي. وإذا كان الوضع القائم الذي يتسم بهيمنة السلطة والركود السياسي، يسهمان في استمرار كلّ الأحزاب القائمة، فإن الحراك المجتمعي المحدود الآن، والذي يمكن أن يتطوّر على ضوء السياسات الاقتصادية الليبرالية التي باتت تمارسها السلطة، والتي تبدو هي الخيار الذي سينتصر على ضوء ميزان القوى الراهن، وتحوّل قطاعات هامة من السلطة والمعارضة إلى هذا المسار. هذا الحراك من جهة، وتغيّر الوضع السياسي القائم من جهة أخرى، ورغم الانهيارات في اليسار التي يمكن أن تحدث سواء لجهة الليبرالية أو لجهة الأصولية، سوف يسمحان بنشوء ظرف موضوعيّ سيكون أفضل لتأسيس ذاك الحزب الذي سيتجاوز الواقع القائم. نتيجة نشوء وضع مجتمعيّ مأزوم، وبداية متصاعدة للصراع الطبقي الواضح، خصوصاً من قِبل العمال (حيث ستفرض الخصخصة تصاعد البطالة فيما بينهم، وتراجع القيمة الفعلية للأجور). والفلاحين الفقراء (حيث ستتراجع أهمية الريف، وسوف يفرض ارتفاع الأسعار وضعاً صعباً عليهم وعلى كلّ الفلاحين المتوسطين، خصوصاً إذا ما أعيدت الأرض لملاكها القدامى). وسوف يتزايد عدد المهمّشين والعاطلين عن العمل، وينحطّ وضع العديد من قطاعات الفئات الوسطى (و يتحسن وضع بعضها الآخر).
و إذا كانت الفئات التي دخلت العمل السياسي، والتي اضطلعت على الماركسية من قطاعات الشباب محدودة، ومعظمها كان دخوله حديث (أي خلال السنوات القليلة الماضية). وبالتالي فإن ميل الشباب نحو اليسار لا يرتبط إلى الآن بوعي حقيقيّ بالماركسية، أو لا يرتبط في الغالب بثقافة سياسية. فإن مشكلة تبرز في الكادرات التي يمكن أن تطمح لأن تؤسّس ذاك الحزب، مشكلة المقدرة النظرية الضرورية لبدء العمل الحزبي. فالوعي النظري الذي ليس بالضرورة يجب أن يشمل كلّ أعضاء الحزب، لكنه مهمّ في المراحل الأولى، لأن الحزب يبدأ انطلاقاً من وعي بالواقع مختلف عما هو سائد، وبالتالي برؤية للتغيير أخرى. وهو مهمّ في كلّ مسار الحزب، لأن إعادة فهم الواقع مسألة يومية، كما أن تطوير آليات العمل وتحديد الخطط يقومان على مستوى عالٍ من الوعي. وتبرز أهمية هذه المسألة في الوضع الراهن، بعد تراجع كلّ الأفكار الماركسية المتداولة على ضوء انهيار المنظومة الاشتراكية، وغياب التحديد الواضح لمعنى الماركسية والاشتراكية، ودور الحزب الماركسي، كما غياب الوعي الواضح بالواقع، وغياب آليات العمل التي تقود إلى تأسيس الحزب، والترابط بالعمال والفلاحين الفقراء وكلّ المهمّشين.
لقد بدت كلّ الأفكار الماركسية مشوّشة ومشكوك في صحتها. وهذا وضع طبيعيّ وصحيّ على ضوء انهيار التجربة التي قامت على أفكار ماركسية. وبالتالي فإن الشكّ بكلّ الأفكار التي كانت رائجة مسألة ضرورية ومهمة، لكن إعادة صياغة الوعي الماركسي تفرض إجابات دقيقة وواضحة، سواء فيما يتعلّق بانهيار التجربة، أو فيما يتعلّق بتجربة الحركة الشيوعية الماركسية في الوطن العربي، أو إجابات دقيقة على مشكلات الواقع على ضوء التشكّل الذي يتخذه في الوقت الراهن. وهذا يفرض البحث في الواقع السوري والعربي والواقع العالمي.
و إذا كان الشك وصل حدّ التجاوز انطلاقاً من أحكام عمومية، ودون دراسة التجربة، الأمر الذي فرض إعادة طرح الأفكار ذاتها، تلك التي كانت تُطرح في إطار الحركة الشيوعية، مع فارق بسيط هو تحوّل الديمقراطية إلى «حلّ سحريّ» بدل الاشتراكية. والمدقق في المواقف العملية يلمس استمرار المنطق الأحادي ذاته، والمواقف القديمة ذاتها، والسطحية ذاتها. فإن الشكّ يجب أن يفرض إعادة صياغة التصوّرات علمياً، انطلاقاً من دراسة الواقع ومن دراسة الماركسية ذاتها، التي باتت بحاجة إلى «إعادة بناء» بعد أن استولت الماركسية السوفييتية عليها وصاغتها في منظومة محدّدة أفقدتها جوهرها، وحوّلتها إلى شكل، أسّس لسيادة المنطق الأصولي الماركسي.
في هذا الوضع كيف يتشكّل الحزب؟ وكيف تتبلور التصوّرات حول الماركسية والواقع؟ وكيف يتحقّق الترابط مع العمال والفلاحين الفقراء وكلّ المهمّشين؟
لاشكّ في أن التجربة الماضية ليست بدون خبرات، ولا يمكن أن تُلقى دون دراسة. كما أن أيّ عمل ماركسيّ راهن يجب أن يترابط مع التجربة السابقة من أجل الإفادة من خبراتها، مع تجاوز مشكلاتها التي أدت إلى أن يكون مصيرها التهميش والتفكك والعجز. ليس المطلوب البدء من الصفر، وليس من الممكن أن يحدث ذلك. لهذا يجب الإفادة من كلّ المعنيين بعمل ماركسيّ مستقبليّ انطلاقاً من أسس جديدة.
و بالتالي إذا كنا انطلقنا من موقف نقديّ سلبيّ من الأحزاب القائمة، فإن ذلك لا يعني تجاهل كل المعنيين فيها بمشروع بديل. فإذا كانت البنى العامة للأحزاب عاجزة، فإن هناك مجموعات وأفراد داخل الأحزاب وخارجها تحاول أن تبلور رؤية ماركسية مختلفة، وأن تترابط مع العمال والفلاحين الفقراء وكلّ المهمّشين، وأن تخوض الصراع في مستوييه: الطبقي والقومي/ الوطني. وبالتالي تطمح لأن تشكّل مشروعاً بديلاً. ربما يعتقد كلّ منها أنه الأجدر والبديل الوحيد، أو البديل الأسبق. ولهذا يعتقد بأن على الآخرين الالتحاق، أو الانضمام.
و هؤلاء من أحزاب، لكلّ منها «نمطه»، وثقافته، ودائرة علاقاته، وبالتالي فهي من تيارات مختلفة، كانت متناقضة فيما بينها، ولكلّ منها طابعه الخاص وتحيّزاته ومفاهيمه، وحتى تعبيراته السياسية. وله ذاتيته وتجربته الخاصة ضمن الحزب الذي كان جزءاً منه. وهذا ما أبقى التشكّل السابق، أو أعاد إنتاج التشكّل السابق. وأوجد مجموعات مغلقة، كلّ يعتقد بأنه هو الحزب الجديد، أو هو القادر على بناء الحزب الجديد. دون ملاحظة أنه يعيد تأسيس الحزب القديم، ويعيد إنتاج التوتّرات والتحيّزات القديمة، ويمنع اندماجها في حزب موحّد، لكن في شكل مسخ.
الماضي إذن لا يزال يلقي بظلاله على صيرورة التفكير بالمستقبل. وهذه مشكلة حادة تحتاج إلى نقد جدّي، من أجل تأسيس ذاك الحزب. حيث ليس من الممكن لمجموعة أن تستوعب كلّ هذا التنوّع، ولا أن تستقطب المختلفين. ولهذا فهي تعيد إنتاج ماضيها دون ملاحظة أنها تبحث عن المستقبل. وهي مشكلة نبعت من «الوعي المحدود» الذي حكمها، حيث لم يجرِ التخلّص مما هو ذاتي، كما أن القبول بالتنوّع وملاحظة الخلفيات الخاصة لكلّ مجموعة لم يتبلور بعد. ولاشكّ في اختلاف الوعي بين مجموعة من حزب وأخرى من حزب آخر. كما لأن آليات العمل القديمة لازالت مستحكمة في كلّ تلك المجموعات.
لكن هناك كذلك أفراد في الطبقات والنقابات ومثقفون وشباب جدد، معنيون بالعمل الماركسي وبتأسيس حزب موحّد. ولاشكّ في أن للشباب ميزات تتعلّق بسعة الأفق والمعرفة العامة واستقلالية التفكير والفاعلية، لكن معارفهم السياسية والنظرية محدودة إنْ لم تكن معدومة. وتجربتهم السياسية ضعيفة نتيجة دخولهم الحديث في العمل السياسي.
ولاشكّ في أن تأسيس حزب سياسيّ يفترض أن ينطلق من هذا الواقع المشتت والمتخالف و«الذاتي». ولن يكون ممكناً تأسيس حزب دون ذلك، إلا إذا أريدَ أن يولد هامشياً. مع ملاحظة أن تأسيس حزب من كلّ هؤلاء يرتبط بالضرورة بحوار نظريّ سياسيّ تنظيميّ عمليّ، يؤسّس لتبلور رؤية ماركسية جديدة تعبّر عن اتجاه جديد، وتكون هي رؤية هذا الحزب.
إذن، هناك كادر مشتت في أحزاب ومجموعات وكأفراد مستقلين، وشباب يحتاج إلى الوعي والخبرة، وطبقات تحتاج إلى الدعم والوعي والتنظيم، أي إلى أن تُقدّم لها الخبرة السياسية والفكرية والتنظيمية من أجل أن تكون هي قوّة الفعل الواقعي، وأساس عملية التغيير لفرض برنامج يمكن أن يعبّر عن مصالحها.






من أجل تصوّر برنامجي

في ظل الوضع المعقّد الذي دخلته سوريا، وكذلك الوضع المربك الذي يعيشه اليسار السوري. حيث تتفاقم الأزمة المجتمعية على ضوء أزمة الإقتصاد الذي يعاني من نهبٍ طويل وثقيل خصوصاً في العقد الأخير، والذي بات إنهياره ممكناً، وقطاعاته التي تملكها الدولة تسير نحو الإفلاس أو أنها تباع في إطار سياسة الخصخصة التي باتت تتبعها السلطة، والتي تُحوّل إلى فئة محدّدة من القطاعات المسيطرة، والتي أفضت إلى انهيار الزراعة والصناعة وتمحور الاقتصاد في بنية ريعية تقوم على الخدمات والسياحة والعقارات والبنوك. وعلى ضوء إنحطاط الوضع المعيشي لمختلف الطبقات الإجتماعية بإستثناء المافيا الحاكمة، حيث باتت تعاني من مساوئ الإنفتاح الإقتصادي الذي بدأ يسود عبر الإرتفاع الكبير في أسعار السلع والخدمات مع الحركة المحدودة للأجور ، الأمر الذي جعل الفارق هائلاً بين مداخيل الأسر السورية وأسعار الحاجات الضرورية للمعيشة اليومية. مما بات يشير إلى أن نسبة الأسر التي تعيش تحت خط الفقر تقارب الـ 60% من مجموع الأسر. بالإضافة إلى تزايد العاطلين عن العمل وتضخّم البطالة التي يُشار من قِبل بعض الخبراء إلى أنها بلغت ما يقارب الـ 25%. وبالتالي تهميش قطاعات واسعة من الشعب. وكذلك إلى إنحطاط الخدمات الأساسية في مجال التعليم والصحة والضمان الإجتماعي.
وإذا كانت فئة محدودة هي التي أصبحت تملك مليارات الدولارات وتعيش حياة بذخ، وباتت تسعى للهيمنة المباشرة على القطاعات الإقتصادية المربحة عبر «خصخصتها»، أو عبر الاستئثار بكل المشاريع الجديدة في قطاعات مربحة مثل الإتصالات والخدمات والتجارة، وتتحضّر للإستحواذ على وكالات الشركات الإمبريالية التي سيقود فرض الانفتاح الاقتصادي وتعميم اقتصاد السوق إلى تزايد دورها في السوق السورية.
فإنها لازالت تسعى لتعزيز سلطتها وتفرض كل آليات الإستبداد والهيمنة على مجالات السياسة والمجتمع، ولازالت تسوّق أيديولوجيا شعبوية واهية، وتحكم عبر الأجهزة الأمنية بواجهات «سياسية» منها حزب السلطة وهيئات الدولة والإعلام وعبر الهيمنة على النقابات والاتحادات. ولازالت تحاول مواجهة النشاط السياسي والحراك المجتمعي، من أجل ضمان سيطرتها الاقتصادية وإخفاء آليات النهب التي تمارسها، وتأبيد سيطرتها السياسية، رغم التناقضات التي باتت تخترقها، وسعي كل طرف لأن يصبح هو السلطة، والذي يمكن أن يتحقّق في سياق الترتيب الأميركي أكثر من أي سياق داخلي آخر.
وفي وضع تعمل الإمبريالية عموماً، والإمبريالية الأميركية خصوصاً، على إعادة صياغة العالم بما يحقِّق خدمة أعظم للشركات الاحتكارية الإمبريالية، حيث تسعى الرأسماليات الأوروبية إلى فرض الشراكة الأورومتوسطية كمدخل للهيمنة الاقتصادية والإلحاق السياسي، وتعمل الإمبريالية الأميركية على مدّ سيطرتها السياسية والعسكرية إلى مناطق واسعة في العالم، منها الوطن العربي و«الشرق الأوسط الموسّع»، من أجل فرض احتكار النفط والأسواق والتحكّم بالسياسة العالمية لضمان استمرار السيطرة على مجمل الاقتصاد العالمي.
و لقد بدأت بعد الحادي عشر من أيلول سنة 2001، سياسة تقوم على تغيير الأنظمة بالقوّة واحتلال الدول والتدخّل القسري في الشؤون العالمية. مبتدئة باحتلال أفغانستان ثم العراق في أجندة تهدف إلى تغيير الوضع الإستراتيجي في المنطقة. وبالتالي باتت سوريا مهدّدة رغم كل التنازلات التي قامت بها السلطة من أجل التكيّف مع السياسة الأميركية الجديدة. حيث تبدو المسألة أكبر من أن يحلّها تكيّف السلطة، لأنها تتعلّق بوضع سوريا كلها. لهذا يقوم الدور الأميركي على إحداث «تغيير أميركي» يجعل السلطة «أداة أميركية» تنفّذ أجندة تبدأ بالاعتراف بالدولة الصهيونية، وتشمل تفكيك البنية الداخلية بعد أن باتت تحكمها تناقضات شتى، وتعميق رخاوتها عبر تعميق التناقضات الطائفية والدينية والإثنية، لتشكيل دولة هشّة. إضافة إلى الدور الممكن في إطار «الحرب على الإرهاب» خصوصاً في لبنان والعراق. وتحويل سوريا إلى قاعدة عسكرية أميركية. وإذا كانت الإدارة الأميركية تعمل على التخلّص من كل النظم التي استفادت من مناخ الحرب الباردة، فهي تسعى الآن إلى بناء نظم دمى، تحكمها التناقضات المؤسّسة على التكوينات ما قبل حديثة، وتخضع لقرارات الشركات الاحتكارية الإمبريالية.
لهذا تعيش سوريا لحظة حرجة ووضعاً صعباً نتيجة الأخطار التي تنشأ عن المشروع الإمبريالي الصهيوني، كما نتيجة أخطار النهب الداخلي والأزمة المجتمعية التي أوجدها، في وضع تعاني الحركة المعارضة مشكلات حقيقية، بفعل الإرهاب الطويل الذي مارسته السلطة، وكل الآليات التي مارستها من أجل نزع السياسة من المجتمع، وتنشئ أجيال ابتعدت عن النشاط السياسي والشأن العام، الأمر الذي أفضى إلى فشل الحركة السياسية في تجديد ذاتها. لكن هذا الوضع الذي تعانيه الحركة هو نتاج مشكلاتها الذاتية أيضاً، سواء فيما يتعلّق بضبابية رؤيتها، أوعدم مقدرتها وعي التحوّلات التي كانت تنشأ منذ سيطرة حزب البعث على السلطة.
و كان اليسار هو الأكثر تأثراً بكل ذلك، لهذا بات مفككاً وضعيفاً ومهمّشاً، دون قاعدة جماهيرية أو فعل حقيقيٍّ، ودون رؤية يسارية. ينحكم لردود الفعل ولصراعات الماضي، ويؤسّس تصوّراته على انفعالات مما يجعله يوغل في اليمين.
و لأن التطوّرات متسارعة، وآفاق الصراع باتت توحي بأنها تنفتح، سواء نتيجة الدور الإمبريالي الأميركي الصهيوني، أو نتيجة الأزمة المجتمعية وحالة الإفقار التي باتت تُدفع إليها قطاعات متّسعة من البشر، وبالتالي ضعف السلطة والتناقضات التي باتت تحكم عناصرها. في هذا الظرف الذي تبدو فيه التحوّلات محتمة، حيث الأزمة الداخلية تتصاعد دون حلّ، وحيث الإمبريالية الأميركية قرّرت تحويل مسار البنية السياسية الإقتصادية وفق ما يخدم سياساتها. نعتقد بأن اليسار يجب أن ينهض لكي يلعب الدور الأساس في المواجهة من أجل بلد غير تابع أو محتل أو مهيمن على قراره السياسي والاقتصادي، وأيضاً بلد غير أصوليّ تسيطر عليه قوى سلفية وينفتح على صراعات مذهبية مدمّرة. بلد يستأنف عملية التطوّر التي أجهضت نتيجة ميل الفئة المسيطرة إلى نهب الفائض الاقتصادي وتحويله إلى رأسمال خاص، يهرّب إلى البنوك الإمبريالية. ومن ثَمّ ميل قطاعات منها إلى تحويل ثروة المجتمع إلى احتكار خاص بعد بدء سياسات الخصخصة وتعميم اقتصاد السوق. بلد يُحكم من قِبل الشعب في إطار تكوين ديمقراطي يسمح بتحقّق فاعلية كل البنى الاجتماعية والسياسية، ويحقّق الرقابة الشعبية على القرار السياسي والاقتصادي.
الأمر الذي يفرض العمل من أجل مشروع يساريٍّ حقيقي، مجتمعيٍّ وفاعل، وذو رؤية واضحة. وهذا يقتضي وضع الخطوط العامة التي يمكن أن تكون أساساً لتكتيل كل هؤلاء، بما يتوافق مع حركة مجتمعية ناهضة، معنية بمواجهة الاستبداد السلطوي، كما بالهجوم الإمبريالي الصهيوني. لكنها معنية كذلك بأن يكون لدى الطبقات الشعبية خيار آخر، مختلف عما هو متداول الآن، سواء لجهة سيطرة الليبرالية الجديدة وتملّكها عقول قطاعات واسعة من قوى اليسار، والتي تقوم على تعميم النهب وتحكيم الشركات الاحتكارية الإمبريالية عبر رأسماليين صغار محليين. أو لجهة الدور الذي تلعبه الحركة الأصولية التي – وإن كانت تصادمت مع أميركا – فهي تطرح مشروعاً اجتماعيا محافظاً إلى أبعد الحدود، يعمّم الاستبداد إلى ما هو شخصي من خلال التركيز على «الأخلاق» والسلوك، ويكرّس تخلّف التعليم عبر رفض كل نتاج العلم الحديث فيما يتعلّق بما هو إنساني، وهذه هي المسائل التي تحظى بالأولوية لديها. كما تطرح مشروعاً اقتصادياً ليبرالياً يقدّس التجارة دون أن تفكّر ببناء قوى منتجة، وخصوصاً في مجال الصناعة، وبالتالي تتوافق مع السيطرة الإمبريالية في هذا المجال.
خيار يعبّر عن حركة التطوّر والحداثة من زاوية رؤية اليسار. يدافع عن القضايا المعيشية والمطلبية والاجتماعية للطبقات الشعبية، كما يدافع عن حقوق الإنسان الأساسية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويعمل من أجل تحقيق التطوّر الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والعلمي، وأيضاً يقرّر مواجهة الهجوم الإمبريالي الصهيوني الذي يسعى لإكمال السيطرة على الوطن العربي، ويتفاعل مع كل القوى العالمية المناهضة للإمبريالية وللحروب الإمبريالية الأميركية وللعولمة الراهنة، وكذلك لمنطق الرأسمالية. يفكّر بفلسطين وبالوحدة العربية وبعالم يسوده التكافؤ والمساواة ويكون في خدمة الإنسان المتحرِّر من الاضطهاد والاستغلال والاستبداد ، وكذلك من الفقر والتهميش والحروب والاحتلال.
خيار يفتح الأفق لإعادة بناء اليسار وتحوّله إلى قوّة فاعلة، من خلال التفاعل والحوار لبلورة رؤية يسارية تعبّر عن الظرف الراهن، وتعالج مشكلات الواقع القائم الآن، كما تؤسِّس لآليات التغيير على ضوء كل ذلك.
كما يلتزم العمل من أجل إعادة بناء الحركة المجتمعية عبر تحقيق استقلال النقابات والاتحادات عن السلطة، والتزامها التعبير عن مصالح الطبقة العاملة والفلاحين وكل الفئات المهنية، في مواجهة الإفقار والنهب والاستغلال والهيمنة المفروضة من قِبل السلطة. حيث أن التغيُّر الأساسي الضروري الآن هو تفعيل حركة الطبقات من أجل الدفاع عن مصالحها المباشرة، والبدء بتحرير النقابات العمالية والفلاحية والاتحادات المهنية من هيمنة السلطة، وتحويلها إلى قوّة مجتمعية فاعلة، لأن دور اليسار كقوّة فاعلة يتحقّق فقط عبر ذلك ويستند إليه. كما أن هذه الخطوة الديمقراطية هي ضرورة من أجل إزالة الاستبداد وتأسيس دولة ديمقراطية. كما أنه الضرورة لبناء المجتمع المدني الحديث ومقاومة الدور الإمبريالي والمشروع الصهيوني، حيث ليس من الممكن أن يُخاض الصراع السياسي دون الحركة المجتمعية.
خيار يستند إلى الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء وكل الفقراء والمهمّشين، ويعبّر عن مصالحهم الراهنة والمستقبلية، يصيغ رؤيتهم ويفعّل نشاطهم لتحقيق التطوّر المجتمعي. وبالتالي يحدِّد توافقهم واختلافهم مع الطبقات الأخرى، الأمر الذي يسمح بتحديد التقاطعات التي تجمعهم مع تلك الطبقات في سياق تحقيق التطوّر المجتمعي ومواجهة الحرب الإمبريالية. إن بلورة الرؤية المعبّرة عن هؤلاء هي المبتدأ لتحديد التحالفات المبدئية والتكتيكية، وأساس تلمّس الحدود التي تفصل بينها وبين الطبقات الأخرى، وهذه عملية ضرورية في إطار الصراع الواقعي الذي يفرض التحالف لكنه يفرض كذلك الاختلاف والتناقض، في سياق عملية من الاختلاف والتحالف يفرضها الواقع.
خيار ينطلق من الماركسية، لكن انطلاقاً من كونها منهجية ورؤية. ويسعى إلى تحقيق الاشتراكية، لكن عبر تحقيق المهمات الديمقراطية. ولهذا فإنه ينطلق من النضال في سبيل الأهداف التالية:




أولاً: البرنامج الديمقراطي
1) تبدأ الديمقراطية من إقرار حق المواطنة، وأن البشر متساوون وأحرار. لهذا يجب التأكيد على مبدأ المواطنة، وعلى المساواة بين المواطنين، ورفض التمييز على أساس ديني أو طائفي أو إثني أو جنسي، في المستوى الشخصي كما في المستوى السياسي.
2) التأكيد على علمانية الدولة، التي تقرّ بحرية المعتقد الديني وحرية العبادة ومزاولة الشعائر الدينية. لكنها تقرِّر فصل الدين عن السياسة وعن الدولة ذاتها، مع رعايتها الشعائر الدينية لكل الأديان على قدم المساواة.
3) الشعب هو مصدر السلطات، في دولة تقوم على الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية.
4) مع التأكيد على مبدأ المواطنة لكل فئات الشعب، التأكيد على حق الأقليات في التحدّث بلغاتها والتعبير عن ثقافاتها، عبر إقرار الحقوق الثقافية لكل الأقليات والتأكيد على التفاعل فيما بين أفرادها، وخصوصاً هنا الأكراد السوريون. وبالتالي إعادة الجنسية لكل الذين جرى تجريدهم منها من الأكراد.
5) إصدار قانون مدني للأحوال الشخصية يكرّس المساواة بين المرأة والرجل وينطلق من علمانية الدولة.
6) إقرار حق تشكيل الأحزاب دون إذنٍ مسبق، انطلاقاً من الالتزام بحق المواطنة ونبذ العنف ورفض التحريض الطائفي أو الديني أو الإثني.
7) إقرار حق تشكيل النقابات العمالية والفلاحية والخدمية والاتحادات النوعية، وتأكيد استقلاليتها ودورها في التأثير في عملية اتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
8) إقرار حق إصدار الصحف وكل وسائل الإعلام والنشر دون رقابة مسبقة.
9) الانتخاب هو شكل تداول السلطة، وهو عنصر في مجمل العملية الديمقراطية، والتأكيد على التساوي في الفرص لكل المرشحين.
10) تأكيد حق الإضراب والتظاهر وكل أشكال الاحتجاج الديمقراطي، دون إذنٍ مسبق لكن مع إعلام السلطات المختصة بذلك.
11) إعادة بناء أجهزة الدولة على أسس وطنية وديمقراطية، تنطلق من التأكيد على الكفاءة والخبرة والنزاهة وتقديس المصلحة العامة.
12) التأكيد على مهنية الأجهزة الأمنية وتأكيد منعها من التدخّل في الشأن السياسي، والمحاسبة القاسية في حال حدوث خروقات. وكذلك منع الاعتقال السياسي.

ثانياً: القضايا المطلبية
1) الاهتمام بالوضع المعيشي للطبقات الشعبية وفرض أجور تناسب حياة إنسانية، وبالتالي ربط الأجور بالأسعار والحفاظ على التناسب الضروري الذي يحقّق الحياة الإنسانية.
2) تأكيد حق العمال الإشراف على المصانع والمؤسسات العامة، وعلى اختيار إدارتها.
3) ضمان حق العمل والسعي الجاد لحلّ مشكلة البطالة عبر توفير فرص العمل في سياق السعي لتطوير القوى المنتجة.
4) رفض التخلّي عن حق الضمان الإجتماعي الشامل بما فيه الضمان الصحي، وتطويره بما يسمح بتحسين الظروف المعيشية والصحية وظروف العمل لكل الطبقات الشعبية.
5) التأكيد على حق الفلاحين في الأرض ورفض العودة إلى عصر كبار الملاك والإقطاع، وتنظيم صفوفهم للدفاع عن الأرض التي زرعوها طيلة العقود الماضية.
6) دعم المزارع وتخليصه من المحتكرين، ووضع سياسة عقلانية في التعامل مع الأرض وتقنين استهلاك المياه.
7) تعزيز وضع المرأة في العمل وضمان حقوقها.
8) فرض ضريبة متصاعدة على الرأسمال، والتأكيد على العدالة الضريبية فيما يتعلّق بالطبقات الشعبية.
ثالثاً: قضايا التنمية والتطور
9) الحفاظ على دور الدولة في قطاعات الإنتاج الرئيسية، والتأكيد على أولوية نشاطها الاقتصادي في الاستثمار في هذه القطاعات. والتعامل مع قطاع الدولة الراهن وفق إستراتيجية تستند إلى برنامج للتطوير يركّز على بناء قوى الإنتاج، وبالتالي معالجة مشكلاته انطلاقاً من ذلك.
10) رفض التحرير العشوائي لقطاع الدولة وتعميم اقتصاد السوق دون ضوابط، مع التأكيد على دور الدولة الاستثماري والحمائي، ومحاسبة كل الذين أسهموا في نهبه وسوء التخطيط والإدارة فيه، ووضع خطط عقلانية لبناء اقتصاد منتج.
11) توفير كل الظروف لنشاط الرأسمال الخاص في إطار السياسة العامة الهادفة إلى تطوير قوى الإنتاج والبنى التحتية، والحدّ من نشاطه الطفيلي والهامشي، وإيجاد كل الضمانات القانونية لذلك.
12) إعادة رسم إستراتيجية التعليم بما يؤدي إلى القضاء على الأميّة، وبما يسمح بتطوير التعليم الأساسي والجامعي، وبما يؤسِّس للوعي العلمي، وفي المسار الذي يخدم التطوّر المجتمعي.

رابعاً: المسألة الوطنية
1) التأكيد على ضرورة التحضير لمواجهة العولمة العسكرية الإمبريالية التي تقودها الدولة الأميركية، والتي قامت باحتلال أفغانستان والعراق، وتعمل على إخضاع دول أخرى بطرق مختلفة. خصوصاً وأن سوريا باتت مستهدفة.
2) إن تفعيل الحركة المجتمعية ضرورة من أجل المواجهة، وبهذا يكون فرض الديمقراطية عبر الضغط المجتمعي، خطوة أساسية في سياق التحضير لرد الهجمة الإمبريالية، ودعم المقاومة في فلسطين والعراق.
3) التأكيد على تحرير الجولان وفلسطين، وكذلك التأكيد على استعادة لواء الإسكندرون عبر الحوار والتفاعل مع شعوب تركيا.
4) التأكيد على أن للجيش مهمة وطنية، وبالتالي التركيز على مهنيته وحياديته في الصراع السياسي الداخلي.

خامساً: الإطار الإستراتيجي
1) إن الهدف الذي يسعى اليسار إلى تحقيقه، والذي يؤسِّس لبناء مجتمع مدنيٍّ وحديث، يقوم على التأكيد على ضرورة تحقيق التطوّر الاقتصادي المنطلق من تطوير القوى المنتجة في الصناعة والزراعة، وتطوير البنية التحتية المتوافقة مع ذلك. وهذا لن يتحقّق إلا بالصراع مع النمط الرأسمالي العالمي، أي مع الإمبريالية، لأنه يشكِّل عائقاً أساسياً في صيرورة التطوّر تلك، حيث لا يستقيم النمط الرأسمالي إلا بتخليف الأطراف. وهو الأمر الذي يجعل مهمته الأساس هي تجاوز الرأسمالية في سياق طموحه لتحقيق الاشتراكية.
2) كما أن التطوّر من جهة، ومواجهة الهيمنة الإمبريالية من جهة أخرى، يفرضان السعي لتحقيق الوحدة العربية كونها البوتقة التي تسمح بتحقيق التطوّر الاقتصادي، والإطار الذي يجعل المواجهة مع النمط الرأسمالي ممكنة. والصيغة التي تعبّر عن التكوين الذاتي للشعب.
3) في هذا الإطار يجب أن يكون واضحاً أن المشروع الصهيوني هو جزء من المشروع الإمبريالي، ولهذا يجب بلورة الحل للمسألة الفلسطينية المنطلق من إنهاء الدولة الصهيونية والحل الديمقراطي للمسألة اليهودية التي إنوجدت في فلسطين، في إطار السعي لبناء الدولة/ الأمة في الوطن العربي.

سادساً: على الصعيد العالمي
1) رفض العولمة الإمبريالية الراهنة، ورفض الحروب التي تخوضها الإمبريالية الأميركية للسيطرة على العالم من أجل نهبه.
2) رفض الشراكة الأورومتوسطية، وبالتالي السورية الأوروبية، لأنها دمج للاقتصاد الوطني في اقتصاد متفوّق واحتكاري، يفضي إلى تدمير الاقتصاد الوطني عبر منافسة غير متكافئة، ويقود إلى نهب المجتمع.
3) التأكيد على أن التطوّر المجتمعي لن يتحقق إلا بالتخلّص من الهيمنة الإمبريالية ومواجهة سياساتها الاحتلالية.
4) تأكيد التحالف مع كل القوى المناهضة للإمبريالية من أجل كسر شوكة الإمبريالية، وتأسيس عالم يقوم على أساس التكافؤ والمساواة والعدل والحرية.
5) العمل لتأسيس أممية جديدة توحّد نضالات اليسار العالمي، وتنظّم آليات مواجهتها للإمبريالية، ومن أجل تأسيس عالم اشتراكي.

سابعاً: مهام مباشرة

1) إلغاء الأحكام العرفية ووقف العمل بقانون الطوارئ، وإطلاق سراح كل المعتقلين السياسيين وعودة المنفيين، وإعادة الاعتبار والتعويض لكل الذين اعتقلوا طيلة العقود السابقة. وإعادة الجنسية لكل المجردين منها.
2) مقاومة السيطرة الإمبريالية الأميركية الصهيونية، والعمل على بناء قوّة مواجهة عربية، ومواجهة التدخّلات الراهنة لتحديد مصير سوريا.
3) زيادة الأجور بما يوازي تصاعد الأسعار وبما يسمح بعيش كريم، وبالتالي مضاعفة الأجور ثلاثة مرات على الأقل. والدفاع عن التعليم المجاني والضمان الإجتماعي الشامل.
4) مقاومة الميل لفرض الخصخصة، والعمل على محاسبة كل الذين نهبوا قطاع الدولة، أو أساؤوا في مجالات الإدارة والتخطيط.
5) تطوير الحركة المجتمعية من أجل فرض الديمقراطية، وصياغة دستور جديد لا يقوم على هيمنة حزب، ويكرّس نظاماً رئاسياً مطلق الصلاحيات، بل يعتمد نظاماً برلمانياً يقوم على التعددية الحزبية وفصل السلطات والانتخاب الحر، وإخضاع الأجهزة الأمنية لرقابة صارمة بعد تحديد مهماتها غير السياسية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - سؤُال
السّموأل راجي ( 2011 / 5 / 2 - 12:22 )
بما لا يدع مجالاً للشكّ تطرح ضرورة تأسيس حزب ماركسيّ لينينيّ نفسها كمهمّة مُلحّة خاصّة في ظلّ مواقف تتماهى مع مواقف أفرع المُخابرات السّوريّة ولا يُمكن تحديد ملامح الحزب خارج برنامجه ومهامّه وهذا ما عمل النصّ على توضيحه بجدارة لكن لو كان لي أن أسأل:ما هو الخطّ التّنظيمي للحزب المُزمع تأسيسه متى توافرت شُرُوط تأسيسه على الأقلّ من النّاحية الذّاتيّة؟وما هي الهيكلة المُقترحة وما بنية الحزب التّنظيميّة؟


2 - الحق
مثقال عبدالله ( 2011 / 5 / 4 - 15:16 )
الحق مش على كيله الحق على الطبقة العاملة ياللي لسع مش متأهله حتى كيله يشكل حزب إلها

اخر الافلام

.. تصريح الأمين العام عقب المجلس الوطني الثاني لحزب النهج الديم


.. رسالة بيرني ساندرز لمعارضي هاريس بسبب موقفها حول غزة




.. نقاش فلسفي حول فيلم المعطي The Giver - نور شبيطة.


.. ندوة تحت عنوان: اليسار ومهام المرحلة




.. كلمة الأمين العام لحزب النهج الديمقراطي العمالي الرفيق جمال