الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


على طريق حرب أهلية

أوري أفنيري

2004 / 10 / 28
مواضيع وابحاث سياسية


الجميع يتحدثون الآن عن "الحرب المقبلة". حتى أن القناة الثانية أخذت تعرض مسلسلا حول هذا الموضوع.

والمقصود ليست حربا ضد الدول العربية، ولا ضد التهديد النووي من قبل إيران، ولا حتى المواجهة الدامية مع الشعب الفلسطيني.

المقصود هنا حرب أهلية.

إلى ما قبل عدة أشهر، كان هذا الأمر يبدو كشعارات فارغة فقط.

أما الآن فقد تحول الآن إلى أمر جائز الحدوث، بالتأكيد. لم يعد ذلك صرعة آنية ولا فقاعة إعلامية ولا مناورة سياسية من قبل أريئيل شارون، ولا حيلة استغلالية ينفذها المستوطنون.

بل حقيقة واقعة على الأرض.

يتحدثون عنها داخل الحكومة وداخل الكنيست. يتحدثون عنها في برامج الطوك-شو، في مقالات المحللين وعلى صفحات الأخبار. رئيس الأركان يحذر من مغبة تفكك الجيش. أحد الوزراء يقول بأن وجود الدولة ذاتها مهدد. وزير آخر يتنبأ بحمام دماء كما حدث في الحرب الأهلية الإسبانية.

بهدوء، وبغير هدوء أيضا، بدأت الأجهزة الأمنية بالتأهب. وقد أصدرت الأوامر إلى مصلحة السجون بتجهيز مرافق تستوعب اعتقالات جماعية. قيادة الجيش تخطط لتجنيد عشرات الآلاف من قوات الاحتياط وتفكر بالخطوات المطلوبة فيما لو...

لا. إنه تهديد حقيقي للغاية.

يبدو لأول وهلة بأن الأمر كان مفاجئا. غير أن من له عينان وتريان كان يعلم أن الأمر قادم لا محالة، عاجلا أم آجلا.

لقد زُرعت بذور الحرب الأهلية في اللحظة التي أقيمت فيها المستوطنة الأولى في المناطق المحتلة. لقد قلت في حينه لرئيس الدولة من على منصة الكنيست: "إنك تزرع لغما، سيأتي يوم وسنضطر إلى تفكيكه. بصفتي جندي سابق، أريد أن أذكرك بأن تفكيك الألغام هي عملية قذرة جدا."

منذ ذلك الحين زرعت الآلاف من هذه الألغام. حقول الألغام آخذة في التوسع في هذه اللحظة أيضا.

إن من دفع هذه العملية قدما كانوا متدينين غريبي الأطوار. هدفهم المعلن، الذي يرددونه الآن أيضا كلما سنحت لهم الفرصة، هو طرد كل العرب من البلاد التي وعدنا الله بها. والبلاد التي وعدنا الله بها، على حد أقوال أحدهم في التلفزيون، ليست "فلسطين" من فترة الانتداب البريطاني، بل أرض الميعاد، التي تضم أيضا الأردن، لبنان، جزءا من سوريا وأجزاء من سيناء. "لم نأت لنرث فقط، بل أتينا لنورث!" هذا ما صرح به آخر. "التوريث" بلغة التوراة يعني الطرد، التصفية، وأن نرث أرضنا.

منذ أن زرع وزير الدفاع آنذاك، شمعون بيرس، المستوطنة الأولى (كدوميم) في قلب الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية، انتشرت المستوطنات كالجراد. كل مستوطنة كانت تسلب تدريجيا الأراضي ومصادر المياه التابعة للقرى الفلسطينية المجاورة، وكانت تقتلع بساتينهم وتسد طرقاتهم وتبني طرقات جديدة يُمنع الفلسطينيون من العبور فيها. كل مستوطنة كانت تبعث بشظايا لها إلى التلال المجاورة.

هذا مستمر في هذه اللحظة أيضا. بعد وعد شارون للرئيس بوش علنا بتفكيك بعض "النقاط الاستيطانية"، أضيفت عشرات النقاط الاستيطانية الجديدة. كل الوزارات الحكومية ترسل مساعدات للمستوطنات الصغيرة التي تم الإعلان عنها رسميا بأنها غير قانونية. لا يكتفي الجيش بالدفاع عنها، معرضا حياة جنوده إلى الخطر، بل يحدد مواقع إقامتها مسبقا ويوجه مؤسسيها خفية.

عندما حذرنا من الخطر المحدق، هدأوا من روعنا. وعزونا قائلين بأن جزءا صغيرا من المستوطنين فقط هم من المتطرفين المعتوهين. هؤلاء حقا مجانين، وهناك حاجة لإبعادهم بالقوة. إلا أن هذه الأمر لن يشكل مشكلة كبيرة، لأن أغلبية مواطني إسرائيل الساحقة تكرهم وترى فيهم فئة هامشية.

وقالوا لنا أن أغلبية المستوطنين ليسو من المتطرفين، فقد ذهبوا إلى هناك لأن الحكومة قدمت لهم فللا باهضة الثمن مجانا، لم يكونوا ليحلموا بها داخل إسرائيل. لقد بحثوا عن "جودة الحياة". وعندما ستأمرهم الحكومة بالإخلاء، سيحصلون على تعويضات ويذهبون.

كان ذلك بطبيعة الحال خطأ مرير. قال كارل ماركس "الكينونة تحدد الإدراك"، والمستوطنون "المعتدلون" تحولوا هم أيضا منذ زمن بعيد إلى متطرفين متهورين. أتباع مباي الطيبين الذين زرعتهم حكومة حزب العمل في الضفة الغربية، يتحدثون الآن ويتصرفون مثل ما يتصرف أتباع كهانا تماما.

إضافة إلى ذلك، قالو لنا بأن المجانين أيضا يعترفون بالديموقراطية الإسرائيلية. لن يرفع أحد يده على جندي من جنود جيش الدفاع. في حال قررت الحكومة والكنيست إخلاء المستوطنات، سوف ينصاعوا للأوامر. ربما سيثيرون بعض الشغب، ربما سيكون هناك استعراض من المعارضة، كما حدث في يميت في حينه، إلا أنهم في نهاية الأمر سينصاعون. فحتى في يميت ذاتها، لم يرفض أي مستوطن تلك التعويضات.

إلا أن هذا الاستهتار بالمستوطنين ليس بأقل خطورة من الاستهتار بالعرب. بدأ الآن يبدو جليا ما حاولوا تمويهه كل الوقت: أن المستوطنين يسخرون من الديموقراطية الإسرائيلية ومؤسسات الدولة. نواتهم الصلبة تقول ذلك بصراحة: عندما يتعارض قرار الكنيست مع "الهلخاه" فما الكنيست سوى مجموعة من السياسيين المفسدين. والقوانين التي نسخوها عن الأجانب، ما قيمتها أمام تعاليم الرب تبارك اسمه وتعالى؟

العديد من المستوطنين لا يقولون ذلك علنا، حتى أنهم يتظاهرون كمن لحقت بهم الإهانة حين يعزون إليهم مثل هذه المقاصد، ولكنهم ينجرون من الناحية الفعلية وراء النواة الصلبة التي خلعت كل أقنعتها. إنها لا تضع هدفا أمام سياسة الحكومة فحسب، بل تهدد مجرد وجود الديموقراطية الإسرائيلية. إنها تعلن عن نيتها في القضاء على دولة القانون وإقامة دولة "هلخاه" عوضا عنها.

دولة القانون ملزمة بإرادة الأغلبية التي تحدد القوانين وتغيرها وفق الحاجة. دولة "الهلخاه" تخضع للتوراة التي أنزلت في سيناء، والتي لا يمكن تغييرها. مجموعة صغيرة فقط من رجال الدين مخولة بتفسير "الهلخاه". وهذا بطبيعة الأمر بعكس الديموقراطية. إنها دكتاتورية دينية-قومية. لو حدث ذلك في أية دولة أخرى، كان سيدعى مثل هؤلاء فاشيون. الطابع الديني لا يغير ولا يبدّل.

للمتمردين اليمينيين-المتدينين دوافع محفّزة قوية جدا. العديد منهم يؤمنون بـ"الكبلاه" – ليست الكبلاه التي تدعو إليها مادونا، بل الكبلاه الحقيقية، التي تنص على أن جزءا كبيرا من اليهود المتدينين في أيامنا هذه هم من بني عماليق، الذين اندسوا في صفوف شعب إسرائيل لدى خروجه من مصر. لقد أمر الله، كما هو معلوم، بإهلاك ذرية عماليق. هل يمكن أن تكون هناك أيديولوجية أكثر ملائمة لنشوب حرب أهلية؟

لماذا تحوّل هذا الخطر إلى خطر ملموس الآن بالذات؟ ما زال من غير الواضح هل في نية شارون حقا تفكيك مجموعة صغيرة من المستوطنات في قطاع غزة. غير أن المستوطنين يرون في مجرد النية ذاتها سببا لإعلان الحرب. هذا مس بقدس أقداسهم. لقد حاول شارون إقناعهم بأن الأمر ما هو سوى حيلة– تقدمة بعض المستوطنات الصغيرة قربانا من أجل باقي المستوطنات، ولكن دون جدوى.

استعدادا لنشوب التمرد الكبير، كشف المستوطنون النقاب عن قدرتهم. كبار الحاخامين في "الصهيونية الدينية" أعلنوا عن أن إخلاء المستوطنات هو بمثابة خطيئة ضد إرادة الله، وناشدوا الجنود برفض الأوامر. مئات الحاخامين، ومن بينهم حاخامو المستوطنات وحاخامو الفرق المتدينة في الجيش، انضموا إلى هذا النداء.

لقد ابتلع صوت القلة من المعارضين داخل هذه الضجة، فهم يقتبسون عن الآية التلمودية "قانون الملك هو القانون". ولكن من يصغي الآن إلى "الحاخامين المعتدلين"؟

لقد بدأ انهيار الجيش من الداخل منذ مدة. "الترتيبات" مع الحلقات الدينية أدخلت إلى الجيش حصانا طرواديا. عندما ستنشب المواجهة بين الحاخامين وقادتهم، سينصاع جنود "الفرق الدينية" إلى إمرة حاخاميهم. والأنكى من ذلك أن المستوطنين قد نشطوا، على مر السنين، بشكل منتهج ومدروس، لدس رجالهم داخل القيادة، وهم يشكلون الآن حصانا طرواديا أكبر.

التمرد اليميني-المتدين لا يشبه التمرد الأخلاقي اليساري. فالتمرد اليساري هو تمرد شخصي، أما التمرد اليميني فهو تمرد جماعي. لقد تمرد في اليسار مئات قليلة، ولكن في اليمين سيتمرد الآلاف، وربما عشرات الآلاف، وذلك بأمر من الحاخامين. وكما حذر رئيس الأركان فإن الجيش يمكن أن ينهار.

يبلغ مجموع تعداد المستوطنين إذا أضفنا إليهم حلفائهم المقربين في إسرائيل وطلاب الحلقات الدينية نصف مليون شخص- وهو ركيزة قوية لحرب أهلية.

في هذه الأثناء، يستخدم المستوطنون هذا التهديد كأداة للابتزاز والردع، وللقضاء على أي فكرة حول إخلاء المستوطنات والانسحاب من المناطق وهي ما زالت في حداثتها. ولكن إن لم يتوصل هذا الابتزاز إلى الهدف، فإن التمرد الكبير آت لا محالة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماكرون يرحب بالتزام الصين -بالامتناع عن بيع أسلحة- لروسيا •


.. متجاهلا تحذيرات من -حمام دم-.. نتنياهو يخطو نحو اجتياح رفح ب




.. حماس توافق على المقترح المصري القطري لوقف إطلاق النار | #عاج


.. بعد رفح -وين نروح؟- كيف بدنا نعيش.. النازحون يتساءلون




.. فرحة عارمة في غزة بعد موافقة حماس على مقترح الهدنة | #عاجل