الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عربةٌ يجرّها الحصانُ الخطأ

جمال علي الحلاق

2011 / 5 / 3
العولمة وتطورات العالم المعاصر



لا أعتقد أن الكتابة أمرٌ صعب فقط ، لكنّها أيضا تفتح متاهاتٍ وطرقاً مفخّخةً كثيرة لحظة البدء ، تجعلني أدور حول رأسي ، حول دويُّ الأفكار ، هذا الدويُّ الذي لا يعرف السكينة ، على العكس تماماً ، خلايا نحل تزداد حدّةً واضطراباً ، أوشك أن أرمي برأسي بعيداً ، لكن ماذا عن غواية المشي بين الألغام ؟ ماذا عن الشهوة الجارفة أيضاً في الإعلان عن الوجود ؟

***

خبر قتل ( بن لادن ) ، خبر طازج ، حادٌّ ومدبّب ، يمكن بسهولة أن تنزلق القراءة الى أعماق بعيدة عن الحقيقة ، فبن لادن ليس شخصاً عاديّاً ، ووجوده - بالنسبة لي - يمثّل علامة إستفهام كبيرة ، محاولة في إحياء الشكّ بقدرة الإنسان على الإنفتاح ، وبالتأكيد ، الحديث عنه يتداخل تماماً مع الحديث عن آخرين زامنوه ، بل حقّقوا له وجوده بمداه الواسع ، وأقصد الإدارات الأمريكية التي تناوبت على الحكم منذ تأسيس القاعدة عام 1988 .

***

أتساءل مندهشاً ومستغرباً في آن ، كيف تزامن صعود جورج بوش وبن لادن معاً ؟ هل ثمّة خلل في النظام البشري بشكل عام ؟ هل ثمّة خلل أو فساد في البناء الهرمي للحياة ذاتها ؟ ثمّ ، هل ترتكب الطبيعة أخطاءً كهذه دائماً ؟
لقد كان العالم لطوال ثماني سنوات داخل جمجمتين توأمين ، لا تمتّان للحاضر الراهن بصلة ، عقد من الإحباط والتنحّي للعقل ، عقد من الرعب والفزع ، هل يمكن أن ينتهي العقد بضغطة زرٍّ ، أو بإطلاق رصاصة ؟
لقد تهاوى ( جورج بوش ) في بئر النبذ ، تحوّل الى هزءة ، وتمّ قتل بن لادن ، هل يعني هذا أنّ الحياة ستستقيم الآن في سيرها ؟ هل سيشعر الناس بالأمان قليلاً ؟ هل يمكن للقتل أن يؤسّس أمناً ؟

***

المفارقة هنا أنّ الديموقراطية جعلت ( بوش ) رجل العالم الأوّل طيلة ثماني سنوات ، في الوقت الذي جعلت الدكتاتورية الدينية بن لادن رجل العالم منذ تأسيس القاعدة . علينا أن نحذر الديموقراطية بقدر حذرنا من الدكتاتورية .
كنّا كأفراد وكشعوب معلّقين مصيرياً بين رجلين كلاهما يمتطي حصاناً مختلفاً ، لكنّهما معاً كانا يجريان في الإتّجاه ذاته ، كان العالم ينزلق كلّما ازدادت سرعة جري الحصانين ، كما لو أنّهما حصانان لعربة واحدة ، لقد تمّ ربط عربة الحياة الى الحصانين الخطأ تماماً .

***

وستكون قراءتنا قاصرة عندما نعتقد أنّهما كانا فردين وليسا نظامين إجتماعيين / سياسيين / إقتصاديين ، لكنّهما منهجيّاً لا يختلفان بعضهما البعض لتوأمية المقدّمات والنتائج ، فعلى الجانب الأمريكي بعد أحداث ( 11 أيلول ) تمّ رفع شعار :
عدوّي = ضدّي .
من ليس معي = ضدّي .
إذن
من ليس معي = عدوّي .
أما على جانب القاعدة فتمّ رفع شعار :
من لا يتطابق معي = عدوّي .
بهذه الطريقة عمل كلا الطرفين على توسيع دائرة العدو ، وكلاهما عمل على تضييق وجود الآخر المختلف ، بعد أن قتلا التدرّج اللوني ، وحصرا الألوان كلّها في لونين صاخبين ، الأبيض والأسود ، وكلاهما كان ينظر لنفسه على أنّه الأبيض ، وبهذه الحالة كانا كلاهما أسودين .


***

كلاهما كان الممثّل الشرعي للنظام الإجتماعي الذي دعى إليه ، وكلاهما إمتلك أرضيّة شعبية ما ، وإذن فهما ليسا فردين أيضا ، بل موجة بشرية صعدت على السطح فجأة لتحتل البحر كلّه .

***

كان العالم ينجرّ كضوء داخل ثقب أسود ، للحظةٍ بدا كلّ شيء يدعو الى التقيؤ ، إنسحبت الموسيقى ، وانسحب الفن ، إنسحبت الرغبة على رؤية الجميل جميلاً ، فجأة ، البناية قد تنهار ، الجسر قد يتحطّم ، الأرض قد تنخسف ، علينا أن لا نقف طويلاً في المكان الواحد ، وأن لا نطمئن لمتانة البناء . الطائرات أسماك قرش تلتهم الأحياء .
في تلك اللحظة كان الطرفان - اللذان يديران الحياة - مثل معتوهين مصابين بصرعٍ هستيري ، كلاهما كان خيبة للعقل ، لقد سقط دين الحب الذي نادى به ( ابن عربي ) ، كما سقط كوجيتو ( ديكارت ) ، سقط واجب ( كانت ) ، سقطت عقلانية ( هيجل ) ، وانهار ديالكتيك ( ماركس ) ، فجأة ، العالم يقيم خارج الوعي تماماً .

***

أريد أن أقول أنّ ( بن لادن ) كإنسان لم يكن وجوده خطأً ، الخطأ جاء من النظام الإجتماعي الذي أثّث عقليته ، والكلام ذاته يصلح مع ( جورج بوش ) ، كلاهما يستحقّان الحياة باعتبارهما فردين بشريين يمتلكان حقّ العيش ، لكن ليس النظام الإجتماعي الذي يحملان ، أو الذي يمثّلان .

***

لقد شوّه ( جورج بوش ) صورة أمريكا في المخيال العالمي ، تماماً ، بنفس الحجم والسعة التي شوّه بها ( بن لادن ) صورة الإسلام كدين في المخيال العالمي .
لعقد من الزمن كان هناك كرهاً جمعيّاً لأمريكا ، وللإسلام أيضا كدين ، لقد إنتبه الأمريكان لذلك ، وحاولوا عبر رفع صورة ( أوباما ) أن يديروا دفّة الحصان .
الضغط الداخلي إزاء الكراهية ، بوادر الأزمة الإقتصادية التي ضربت جذور الشركات والبنوك التي ترفد شجرة الحياة بالسيولة كلّها كانت وراء الرفض الكبير الذي شهدته إدارة بوش .
لكن ماذا عن الحصان الآخر ؟

***

لقد ثبت أنّ العنف يتأقلم بسرعة ، بل وينمو أيضا داخل بنية المجتمعات ذات الأنظمة الدكتاتورية ، ينمو كخلايا سريّة ، لكنّها سريعة الإنتشار في الجسد ، تنمو في حقول الرفض ، لكنّها تعمل على هدم القمع بعنف لا يعرف التمييز ، ليس لأنّه مصاب بعمى الألوان ، وإنّما جرياً وراء تبريرات غاية في السذاجة ، كإن يبادر فردٌ ما الى تفجير نفسه بين جمع من الناس لا يمثّلون جهة واحدة أو طائفة واحدة ، تحت ذريعة أنا ومن يشبهني الى الجنّة ، ومن لا يشبهنا فإلى الجحيم . هذا التبرير الساذج يجعل الإقدام على العنف أكثر يسراً ، الفرد هنا يمارس العنف مطمئناً ، ليس هناك قلق ضميري ما دام الذي يشبهني سيذهب الى الجنّة .

***

لقد إستثمرت الأنظمة الدكتاتورية إنتشار الخلايا القاعدية كتبرير للضغط على شعوبها ، بل أنّها تعدّت ذلك الى حدّ جعلت صفة القاعدة لصيقة بأيّ محاولة إحتجاج ضدّ فساد الأنظمة ذاتها ، يمكن أن نرى ذلك الآن في سوريا وليبيا واليمن ، مثلما تمّ وصف المحتجّين تحت نصب الحريّة في بغداد بالإرهابيين أيضا .
ويمكن أن نرى بسهولة كيف إنحسرت تحرّكات خلايا القاعدة ، بل إنتهت أسطورتها مع انتفاضات الشعوب العربية والكوردية ، لقد بات واضحاً دور الإعلام الموجّه في تضخيم الفقاعة الى حدّ أن لا نرى نافذة في الجدار ، التظاهرات جعلت الجدران مفتوحة كلّها .

***

النهاية التي آل اليها مصير كلٍّ من بن لادن وجورج بوش تقول صراحةً أنّ الإنسان يحتاج الى نوافذ أكثر مما يحتاج الى جدران ، يمكننا أن نتحسّس ذلك أيضا في نزوع الهندسة المعمارية الحديثة الى استخدام الزجاج كواحدة من أهم سماتها .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تحية طيبة
عباس يونس العنزي ( 2011 / 5 / 22 - 11:14 )
لطالما تمتعت بكتابات المفكر المبدع جمال الحلاق لكن جملته الأخيرة في مقاله القيم - الإنسان يحتاج الى نوافذ أكثر مما يحتاج جدران- هي عبارة رائعة تنتمي بالفعل للتحضر والتمدن والعالم الجديد ، تمنياتي بالصحة والموفقية لكاتبنا الكبير.

اخر الافلام

.. حملة ترامب تجمع تبرعات بأكثر من 76 مليون دولار في أبريل


.. القوات الروسية تعلن سيطرتها على قرية -أوتشيرتين- في منطقة دو




.. الاحتلال يهدم مسجد الدعوة ويجبر الغزيين على الصلاة في الخلاء


.. كتائب القسام تقصف تحشدات جيش الاحتلال داخل موقع كرم أبو سالم




.. وزير المالية الإسرائيلي: إبرام صفقة استسلام تنهي الحرب سيكو