الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


25 يناير وتحرير الدولة

إبراهيم الحسيني

2011 / 5 / 4
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


25 يناير
وتحرير الدولة
إستراتيجية تاريخية :
بالتأكيد هناك أسباب مباشرة للثورة المصرية ، 25 يناير 2011 ، ولكن إذا ما ذهبنا أبعد وأعمق في تحليل هذه الثورة ، وتأملنا المشهد المصري ، الذي غيرته تلك الثورة ، وأنزلت الحاكم المطلق شبه الإله من عرشه ، أطاحت به إلى أرض البشر ، يسأل ويحاسب ويوضع في قفص الاتهام ، لقد تم أنسنة موقع الرئيس ، هذا تحول نوعي كبير في تاريخ مصر ، نزعت عن الحاكم الهالة الربوبية الأسطورية ، التي صاحبته منذ قيام الدولة المصرية ، المركزية ، دولة النيل الزراعية ، التي كانت وظيفتها مركزية ، ومهمتها السيطرة على مياه الري ، عبر حفر الترع وبناء الجسور والسدود ، وتنظيم توزيعها على القرى والمداين ، وكان بناء السد العالي ـ بعد القناطر وسد أسوان ـ المعركة الحاسمة والفاصلة ، التي انتصر فيها المصريون ، على النهر الذي كان يفيض ويجف ، فلم يعد يفيض ، ولم يعد يجف ، ولم يعد هناك ضرورة للحاكم المستبد ، الحاكم شبه الإله ، وقد انتقلت البشرية ، ومن بينها مصر منذ ولاية محمد على ، من نمط الإنتاج الزراعي إلى أنماط إنتاجية جديدة ، صناعية وتكنولوجية ومعلوماتية وفضائية ، تذهب إلى البحر بجسارة الصياد ، وتذهب إلى الصحراء بجسارة الرعاة ، وتذهب إلى الفضاء بجسارة الطيار ، تستدعي معها قوى اجتماعية غير فلاحية ـ رأسمالية وعمالية ـ مغامرة جسورة ، لا تؤله الحكام ، تعيد بناء وصياغة النظام وفق المشاركة المجتمعية ، الديمقراطية والاقتصادية ، وهناك ضرورة الآن ، لإعادة تقسيم السلطة والثروة ، لينال كل مواطن مصري نصيبه من السلطة والثروة ، لتنطلق الطاقات الكامنة والإبداعية للمصريين ، لتنتقل إلى التحدي الحضاري التاريخي الجديد ، مع الصحراء والبحر وبالطبع النهر ، شريان حياة المصريين ، الذي كاد يبدده نظام مبارك ، بتجاهله أفريقيا ودول وشعوب حوض النيل .
و الثورة لا تنفجر بين عشية وضحاها ، ولا تقوم ترفا أو استخفافا ، بل تتجمع سحبها وتتراكم سنوات وسنوات ، من الظلم والجور ، من الاستبداد والطغيان ، يتراكم الفقر والبؤس والشقاء ، حتى تستحيل الحياة ، وقد وصل الأمر بالتونسيين والمصريين ، أن ينتحروا حرقا في الميادين وأمام المجالس النيابية ، ولم يكن بو عزيزي إلا تعبيرا رمزيا عن حالة اليأس التي وصل إليها المضطهدين من الشعوب العربية ، وفي مصر نستطيع أن نرصد مستنفع الحضيض ، الذي أغرقنا فيه الطاغية حسني مبارك ، فقد ضرب الفساد جذوره في المجتمع المصري ، صار مؤسسة ونظاما ومرضا ينخر في جسد الأمة ، فقد مكث مبارك ثلاثين عاما في كرسي الحكم ، يحكم بالطوارئ ، كان يستبد وينهب ويرعى الفساد والمفسدين ، فتح زنازين المعتقلات لكل التيارات السياسية يمينا ويسارا ، جعل التعذيب منهاجا في السجون وأقسام الشرطة ، لوث الشرفاء ، الخصوم السياسيين ، لفق لهم القضايا ، لاحقهم في أرزاقهم ولقمة عيشهم تجويعا وتشريدا ، سلب من الفقير قوته ، ومن الضعيف ماله ، ومن الحر صوته ، أضعف بلادنا ، أهان تاريخنا ، قتل منا الكثير في عرض البحر ، وفحم الكثير في القطار ، أسال دماء الكثير تحت الصخر ، في زمنه قتل المسلم والمسيحي ، نمت الطائفية والتعصب وثقافة الكراهية ، كراهية الحياة ، بيعت المصانع ، تقلصت الرقعة الزراعية ، احترق مجلس الشورى والمسرح القومي ، تكدست الثروة مع حفنة قليلة ريعية وفاسدة ، وهوى معظم المصريين إلى درك البطالة وحضيض الفقر ، مكن الطاغية أسرته وأنجاله من البلاد والبشر ، أطلق يد زبانيته تعيث في البلاد نهبا وفسادا ، لقد دمر الشركات والمصانع وسرح العمال ، شوه الزراعة والزراع ، زور الانتخابات وسرق أصوات المواطنين ، خالف الدستور ، تلاعب بالقوانين والقضاء ، سحل وأهان القضاة ، نكل بمعظم المواطنين وأحالهم إلى مسوخ وبقايا بشرية ، أسكنهم مع الأموات في القبور وعشش الصفيح ، جعل الفقراء يبيعون أعضاءهم البشرية : كلاهم وقرنية عيونهم وأكبادهم ، أبكي الرجال وأدمي النساء ، في زمنه قتل الأب أبناءه ، وقتلت الأم وليدها ، خوفا من الجوع والتشريد والمهانة ، سرق أموال التأمينات ، لاح شبح الإفلاس وكادت تتهاوى الطبقة الوسطى ، في ظل أزمة مالية عالمية ، ضربت بجذورها مراكز الرأسمالية في أمريكا وأوربا واليابان ، تغاضى حكام المنطقة العربية عنها ، ومن تعامل معها عالجها بخفة واستخفاف ، بل حاول معظمهم توظيفها لتكديس ثرواتهم ، وليس من الجرأة القول ، أن الظروف الدولية كانت مواتية منذ موجة الديمقراطية تسعينيات القرن العشرين ، والأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية كانت ناضجة للتغيير الثوري في الأقطار العربية ، ولكن ظروف القوى السياسية المتهافتة كانت تعوق النهوض الثوري ، إلى أن امتلك شباب هذه الأمة أدوات التواصل والتغيير الثوري ، في ظل ظروف إقليمية ودولية مواتية ، تدفع شراع الثورة قدما .
والثورة هي عملية هدم وبناء ، هدم للنظام القديم ، دستوره وهياكله ومنظماته ، وإزالة أنقاضه ، وبناء لنظام جديد ، دستوره وهياكله ومنظماته ، وقد قطعت الثورة المصرية شوطا في هدم النظام القديم : خلع الرئيس الطاغية حسني مبارك ، دفن مشروع توريث جمال مبارك ، إلغاء دستور 71 ، حل مجلس الشعب والشورى ، إقالة حكومة أحمد شفيق المعينة من مبارك ، تقليص صلاحيات جهاز أمن الدولة وتحويله إلى جهاز للأمن الوطني ، محاكمة قتلة الشهداء والفاسدين ، من الصف الأول للنظام القديم ، مبارك وزوجته وأنجاله ، ثم الصف الثاني ، رئيس الديوان زكريا عزمي ، رئيس مجلس الشعب فتحي سرور ، رئيس مجلس الشورى صفوت الشريف ، رئيس الوزراء أحمد نظيف ، إلى بعض رجال ورموز الصف الثالث ، أحمد عز أمين تنظيم الحزب الوطني ، حبيب العادلي وزير الداخلية ، زهير جرانة وزير السياحة ، وزيري الإسكان أحمد المغربي ومحمد إبراهيم سليمان .. الخ ، تبع هذه التحقيقات ، قرار ديمقراطي نحيي المجلس العسكري عليه ، يمكن المصريين العاملين بالخارج من التصويت في الانتخابات التشريعية والرئاسية ، وتغيير بعض المحافظين ، ومن قبل تغيير في قيادات الإعلام ، الصحف والإذاعة والتليفزيون ، حل الحزب الوطني ومصادرة ممتلكاته .. الخ
زمن الانفجار الثوري :
ظهر يوم الثلاثاء 25 يناير 2011 ، لم يدر بخلد أحد من المصريين ، أن هذا اليوم فارقا في تاريخهم ، تاريخ الأمة المصرية ، أعرق أمة في التاريخ ، التي أهينت وأذلت وشردت وانحطت على يد حكامها ، الصغائر ، فاقدي العلم والكرامة والأهلية ، هؤلاء الذين ينحنون أمام الدولار والدينار والريال ، هؤلاء الذين ما كان لهم من خبرة إلا سوق الدعارة والنخاسة ، وبيع الأوطان والتآمر على الشعوب .
ظهر هذا اليوم ، والشمس تراوغ السحب ، كانت أسرة مصرية ، تقيم على أطراف القاهرة ، أب وأم في خريف العمر ، وولد وبنت في ربيعه ، تخرجا من كليتي العلوم والاقتصاد والعلوم السياسية ، بلا عمل ، بلا مصدر دخل ، بلا أفق لبناء بيت وأسرة ، ترتدي ملابس " كجوال " ثقيلة ، استعدادا للخروج والتظاهر ، وكان أب هذه الأسرة ، يسأل نفسه : فعلها الشعب التونسي ،هل يفعلها الشعب المصري ؟
ودائما ما كان يخرج للتظاهر والاعتصام ، منذ مظاهرات عمال حلوان سنة 1975 " حكم النازي ولا حجازي " ، وشارك في انتفاضة الجياع 1977 " بالطول بالعرض حا نجيب ممدوح الأرض " وتظاهرات معرض الكتاب ضد معاهدة كامب ديفيد ، وإضرابات عمال اسكو وحلوان ، ومظاهرات كفاية والحرية الآن و6 إبريل ، وكان نزيلا سجون ومعتقلات السادات ومبارك مرات ومرات ، شارك في المنظمات الثورية :السرية والعلنية ، تخفى من الشرطة السرية ، حضر اجتماعات الخلايا ، كتب ووزع المنشورات والبيانات ، نظم الندوات والمؤتمرات ، فهو إن لم يكن أول من قال لا لحسني مبارك ، هو من أوائل من قالوها ، يذكر هذا اليوم جيدا ، عصر 27 مارس 1982 ، خلف أسوار ليمان طره ، قالها وأغضب رفاقه في الحزب الشيوعي المصري ، الذين قالوا بالرأسمالية المنتجة ، فهجرهم وهجروه ، جاع وتشرد وكاد يتسول ، سجن ، اعتقل ، واحتجز ، ماذا بقى كي يثور الشعب المصري ، كي ينفض عن نفسه تراب الطغيان والاستبداد والتفاوت ، سوف أخرج معهم اليوم ، ولن أعود إلا ومعي شمس الحرية والكرامة ساطعة فوق ربوع بلادي ، هذا مستقبل أولادي وأحفادي ، وهذه الأمة ، أمتي صانعة الحضارة والتاريخ ، واليوم يراوده يقين : سيكون فاصلا بين عهد وعهد ، بين زمن وزمن ، بين حكم وحكم ، من أين يأتي هذا اليقين ، الموت أو الحرية ، طغى هذا النظام وتجبر ، لدرجة يستحيل التعايش معه ، فقد عقله ورشده ، طاش لبه ، ذهبت ريحه ، وغابت بصيرته ، مع انتخابات برلمان 2010 ، التي جرى تزويرها ، واستبعاد الجميع حتى من النذر اليسير ، هذه لقمة لا يصعب بلعها فحسب بل يستحيل ، هذا ما همس به لرفاقه في الملتقى الديمقراطي الاجتماعي وأصدقاءه ، ولما احترق شباب مصر أمام البرلمان وفي الإسكندرية ، أصدر البيان الأول في الثورة : خطاب إلى الرئيس

الملتقى الديمقراطي الاجتماعي
خطاب إلى الرئيس
السيد الرئيس : يتوجه هذا الخطاب إليك ، لا ليشكو إليك فأنت مصدر بلاء هذه الأمة ، وأنت طاغيتها وسليل طغاتها ، لكن استبدادك فاق كل المستبدين ، تحكم بالطوارئ منذ توليت الحكم ، فتحت أبواب السجون والمعتقلات ، لكل التيارات السياسية ، يمينا ويسارا ، جعلت التعذيب منهاجا في السجون وأقسام الشرطة ، لوثت الشرفاء ، لفقت لهم القضايا ، لاحقتهم في أرزاقهم ولقمة عيشهم ، قتلت من المصريين المئات بدعوى الاستقرار والأمن ، احتكرت الثروة والسلطة ، مكنت أسرتك وأنجالك من البلاد والبشر ، أطلقت يد زبانيتك تعيث في البلاد نهبا وفسادا ، لقد دمرت الشركات والمصانع وسرحت العمال ، شوهت الزراعة والزراع ، زورت الانتخابات وسرقت أصوات المواطنين ، خالفت الدستور ، تتلاعب بالقوانين والقضاء ، سحلت وأهنت القضاة ، نكلت بمعظم المواطنين وأحلتهم إلى مسوخ وبقايا بشرية ، أسكنتهم مع الأموات في القبور وعشش الصفيح ، جعلت الفقراء يبيعون أعضاءهم البشرية : كلاهم وقرنية عيونهم وأكبادهم ، أبكيت الرجال وأدميت النساء ، في زمنك قتل الأب أبناءه ، وقتلت الأم وليدها ، خوفا من الجوع والتشريد والمهانة ، فكم من عاطل لا يجد عملا ؟ وكم من جائع لا يجد قوت يومه ؟ وكم من مريض لا يجد دواءه ؟ كم من امرأة تقلب قروشها الزهيدة بحسرة في الأسواق ؟ كم من أب لا يجد مصروفات أو نفقات المدارس لأولاده ؟ كم من الصبية والأطفال يتسربون من التعليم الابتدائي والإعدادي ؟ كم من الأطفال يساقون إلي الورش والمسابك والمخابز والميكروباصات ؟ كم من الصبية تتلقفهم ساحات الجريمة والمخدرات الرخيصة ؟ كم من بنت فاتها قطار الزواج ؟ كم من شاب لا يستطيع تكوين بيت أو أسرة ؟ كم من أسرة تقطن في غرفة وحيدة وشقق مشتركة ؟ كم من أسرة تعيش في الإيواء والقبور ؟ كم من أسرة تنفصل وتنهار تحت ضغط الحاجة والعوز ؟ كم من امرأة تخرج للخدمة في بيوت الأغنياء ؟ كم من النسوة والفتيات تدفعهن الحاجة إلي سوق النخاسة والبغاء ؟ كم من عامل يعود خاوي الوفاض من أرصفة العمل ؟ كم من أرباب معاشات تنفذ رواتبهم فور استلامها ؟ كم من شركة دمرت ؟ كم من قوة عمل أهدرت ؟ كم من الأفدنة بورت ؟ كم من خريجي جامعات ومعاهد عليا تتلقفهم أرصفة البطالة ، يندمون علي علمهم وأعمارهم ؟ كم من تاجر وصانع يفلسون وينحدرون إلي الطبقات الدنيا ؟
السيد الرئيس : هذا الخطاب لا يطلب منك عدلا أو إصلاحا ، فقد تسيدت علينا ثلاثين عاما ، كنت الحاكم الذي يستبد وينهب ، والحارس الذي يسرق ويكنز ، حكمتنا بغريزة الصقر الذي يفترس صغار الطير ، سلبت من الفقير قوته ، ومن الضعيف ماله ، ومن الحر صوته ، أضعفت بلادنا ، أهنت تاريخنا ، قتلت منا الكثير في عرض البحر ، وفحمت منا الكثير في القطار ، وأسلت دماء الكثير منا تحت الصخر ، في زمنك قتل المسلم والمسيحي ، نمت الطائفية والتعصب وثقافة الكراهية ، كراهية الحياة ، وها نحن الآن نشعل النار في أجسادنا ، صار الموت أحب إلينا ، لقد ضقنا منك وضقنا بك ، فأهنأ بما نهبت ، وانعم بما سلبت ، وارحل .
الملتقى الديمقراطي الاجتماعي
21 يناير 2011
وما كان العنف الذي استخدمه النظام بأجهزته الأمنية ، أيام 25 و26 و27 ، قادرا على قمع المظاهرات التي تحولت إلى الشوارع الجانبية ، كر وفر ، كمون ومباغتة ، شهداء وجرحى ، انكسر حاجز الخوف ، فخرجت مدن مصر لتثار لضحاياها ، في السويس والقاهرة والإسكندرية ، 28 يناير ، جمعة الغضب ، شهدائه وجرحاه ، غضب فيروزي ، ساطع ومتأجج ، ليواصل إصراره على إسقاط النظام ، ورحيل الطاغية حسني مبارك ، كان الدم قد سال ، الرصاص يقتل ويجرح ، القنابل المسيلة للدموع تمطر ، وسيارات الأمن المركزي تدهس وتهرس ، ولكن حاجز الخوف كسر ، والنار المكبوتة في الصدور ، نار الذل والمهانة ، بركان من الغضب انفجر ويتصاعد ، يكتسح قوات الشرطة والأمن المركزي : الشعب يريد إسقاط النظام ، وما كان من رأس النظام إلا أن يخلع زيه المدني ، ويستبدله بزيه العسكري ، زى الجنرالات ، ويلجأ إلى الجيش ـ دون بصيرة ـ لقمع وإخماد المظاهـرات .
وما بين الخامسة والسادسة ، جرت مياه كثيرة في البحيرة ، استسلمت الشرطة وانسحبت مذعورة ، أمام صمود وإصرار المتظاهرين ، في معظم ميادين مصر ، بعدما أنهكت وخارت قواها ، وخلت مصر من المؤسسة العسكرية ، لم يعد هناك بوليس ، فر ، ولا جاء الجيش بعد ، الذي يحتكر السلطة من يوليو 1952 ، وبوعي جمعي ، تتجلى فيه عبقرية وحضارة الشعب المصري ، لم يخش الجيش ، بل زحف ملايين بصدور عارية ، إلى ميادين مصر : هذه لحظة مناسبة لاقتلاع مبارك والطغمة العسكرية الأمنية من سدة الحكم ، الجنرال حسني مبارك رئيس الجمهورية ، الجنرال زكريا عزمي رئيس الديوان ، الجنرال صفوت الشريف أمين الحزب الوطني الديمقراطي ، ليكون الجيش جيشا للشعب ، لا جيشا على الشعب ، هذه هي الثورة ، ثورة على رأس وجسد المؤسسة الحاكمة ، وهذه هي الساعة المواتية ، التي أسترد فيها الشعب سيادته ، لتقف مصر على قدميها ، لا على رأسها ، الشعب والجيش ، لا الجيش والشعب ، السيادة للشعب والأمة مصدر السلطات ، والجيش ذراع الأمة ، درعها الواقي ، ساعة من الزمن ، هي ساعة الثورة ، ساعة تاريخية ، تحولت فيها مصر من نظام إلى نظام ، من شرعية إلى شرعية ، من الأوامرية إلى الحرية ، من الواحدية إلى التعددية ، وهكذا تمضي الثورة المصرية إلى حلقة جديدة من حلقاتها ، وانتقلت بالثورة الوطنية إلى الثورة الديمقراطية .
وللجيش المصري تاريخ حافل في الحركة الوطنية المصرية ، والاستقلال الوطني ، فقد أنشأه محمد على ، بعد طول غياب ، منذ غزو قمبيز الفارسي ، قرون وقرون ، حتى ثورتي القاهرة الأولى والثانية ، واعتلاء محمد على سدة الحكم ، ولد الجيش المصري مع بزوغ الدولة المصرية الحديثة ، وكان طليعة الحركة الوطنية في الثورة العرابية ، وقاد مصر في ثورة 1952 ، وقادة هذا الجيش من قرى ومدن مصر ، جزء من النسيج الاجتماعي ، ناله من مبارك ما ناله الشعب المصري ، قهر وتفاوت واستبداد ، أهان كرامته وكبريائه ، حين سجن واغتصب مجد الفريق سعد الدين الشاذلي ، رئيس الأركان ، قائد أعظم حرب في تاريخ الجيش المصري ، حرب أكتوبر ، حين فجر قضية أخلاقية رخيصة لقائد الجيش المشير عبد الحليم أبو غزالة ، حين أحال الجيش إلى جماعة بلا إرادة تحارب مع العراق تارة وضد العراق تارة ، حين استباح الجيش وأحال جنده إلى وزارة الداخلية ، حين وضع وزارة الداخلية في منزلة أعلى من الجيش ، كنا نرى أدنى رتب الداخلية تركب أفخم السيارات بينما قادة في الجيش يلهثون وراء الأتوبيسات ، حين حاول سرقت واغتصاب السلطة من الجيش لنجله جمال ، وحين زور إرادة الأمة ليستكمل هذا المشروع ، للجيش ثأر مع مبارك ونظامه وفاسديه ، أسقطته الأمة ، صاحبة الشرعية ، تستعيد للشعب سيادته ، وللجيش كبريائه وكرامته ، ولم يكن حكم مبارك المحنة الأولى للجيش ، كانت هزيمة يونيو 67 محنة مريرة تجرع كأسها ، تقدمت الأمة بالمال والعتاد ، تدفع عنه ذل ومرارة الهزيمة ، الجيش جيش الأمة ، والأمة مصدر السلطات ، هذا ما لم يدركه مبارك ، وفي الخامسة أصدر أمره بنزول الجيش لقمع المتظاهرين وإخماد الانتفاضة .
وكان على الجيش أن يختار بين الشعب أو الرئيس ، وكان رده حاسما هو جيش الشعب .
ولكن من لحظتها والثورة المضادة تحاول الانقضاض على الثورة ، وإعادة عجلة الزمن إلى الوراء ، والمجلس العسكري يتباطأ ، يراوغ ، يبحث لنفسه عن موطأ قدم ، عن شرعية هي بالتأكيد له في جسد الثورة ، شابها بعض الملاحظات التي لا تخلو من وجاهة ، بدء من محاولاته تقديم الذخيرة للأمن المركزي جمعة الغضب ، وفتح الطريق للقتلة وسفاكي الدماء الأربعاء الدامي يوم موقعة البغال لا الجمال ، وسبت الترويع الذي اعتذر عنه المجلس الأعلى للقوات المسلحة ، وأعاده إلى سوء الفهم ، ووعد بإجراء تحقيق في أحداثه ، سلوك متحضر قدر للمجلس من كافة فئات وطبقات وطوائف الأمة ، لكنه للأسف عاد يوم الأربعاء 9 مارس يفض اعتصام بعض الثوار في ميدان التحرير بالقوة وسفك الدماء ، يعتدون على النساء والمرضى منهم ، يسيئون معاملة الفتيات في المتحف ، إساءة بالغة ، بالكشف عن عذريتهن ، يهدمون ويحرقون الخيام ، يطاردون الشباب والرجال بالشوم والعصي الكهربية والرصاص ، ويقدمون بعضهم إلى المحاكم العسكرية ، وتكرر العدوان والترويع فجر السبت 9 إبريل ، على أثر جمعة المحاكمة والتطهير ، مع ارتفاع وتيرة العنف والضرب والملاحقة ، أسفر عن استشهاد وجرح بعض المعتصمين ، إن المجلس العسكري يحاول جاهدا ، إحالة الثورة إلى حركة إصلاحية ، لا تمس جوهر النظام وآلياته ومفاصله وهياكل إنتاجه وثرواته وتوزيع سلطاته ، وحصرها في الدائرة المدنية المقربة من أجهزة المؤسسة العسكرية ، حتى خرج الرئيس المخلوع مبارك بخطابه 10 إبريل ، يشير ويومئ ، أن المجلس العسكري قد منحه الفرصة لتهريب أمواله وأصولها العقارية ، ليوقع بين المجلس العسكري والثورة ، وقد انتبه الثوار والمجلس العسكري للفخ الذي سعى مبارك لحفره ، وتمكين الثورة المضادة من الانقضاض ، فتسارعت وتيرة التحقيقات ، تطال مبارك والصف الأول والثاني من نظامه ، تحت ضغط الخجل الذي أحدثه خطاب الوقيعة ، وإدراكه للهواجس التي تسللت إلى نفوس المصريين ، وتعالي بعض الأصوات تحذر من التباطؤ الذي قد يصل إلى التواطؤ ، وهنا يجب تحذير المجلس العسكري الأعلى ، أن مبارك حاول إشعال النار في المجلس ، وأن يضع المجلس والشعب وجها لوجه ، ولفت نظر قادة الجيش أن هذا الرجل المدعو حسني مبارك ، الذي رأس مصر ـ للأسف ـ ثلاثين عاما ، يكره شعب مصر وجيشها ، ولا يحب إلا نفسه ، ولا يرى شعب مصر ومؤسساته وقواته المسلحة إلا في خدمة مشروعاته الخاصة .
وفي 11 إبريل انتقل المجلس العسكري الأعلى ، نقلة نوعية ، قفزت بالثورة خطوات عميقة وجذرية ، قدم الرئيس المخلوع ونجليه إلى التحقيقات ، الذين أفسدوا البلاد وقتلوا العباد ، خطوة غير مسبوقة في المنطقة العربية والشرق الأوسط ، لقد هوى الرئيس شبه الإله ، وقدم للمحاكمة يسأل ويجيب ، كأي مواطن متهم ، هو وأركان حكمه ، وهذه أول مرة في تاريخ مصر والمنطقة ، يحاكم شعب حاكمه ، خطوة نحيي المجلس العسكري والقضاء المصري عليها ، ونثمنها ونرفع قدرهم عاليا .
لقد نجحت الثورة المصرية ، وتتواصل صوب أهدافها : دولة مدنية وجمهورية برلمانية ، على أساس المواطنة والمساواة ، تحقق لأبنائها حياة كريمة وتضييقا للفجوة الاجتماعية ، شرعت في محاكمة الفساد والمفسدين ، وعلينا الآن أن نشرع في بناء الدستور ، وصياغة هيكل جديد للأجور والدخول ، لقد توفرت الشروط الثورية للثورة المصرية :
ـ لم يكن خروج المصريين وتدافعهم الثوري مطلبيا أو إصلاحيا ، فالأزمة عميقة وجذرية بين الحكام والمحكومين ، استحالت معها الحياة ، تجلت في احتكار للسلطة والثروة ، استبداد وقهر واعتقال ومطاردة وتشريد وتجويع وقتل وتفاوت واتساع للفجوة ، غنى فاحش مصدره الريع والفساد والرشوة ونهب البنوك وأموال التأمينات والموارد السيادية والاقتصاد السري الأسود : تجارة السلاح والمخدرات والآثار والدعارة ، وشيوع للفقر والتهميش والعشوائيات والتفاوت والبطالة وبيع الأعضاء البشرية .
ـ كانت ثورة تونس ونجاحها في خلع زين العابدين بن على ، وإسقاط نظامه ، تعبيرا عن ظروف إقليمية مواتية ، استفزت وألهمت المصريين ، الذين وجدوا أنفسهم ليسوا أقل شأنا من التونسيين ، فخلعوا عباءة الخوف والتردد ، وخرجوا يتظاهرون ، يعتصمون ، يقدمون التضحيات ، شهداء جرحى لقد دفعوا الدماء ثمنا للحرية .
ـ وكانت رياح الظروف الدولية ـ أيضا ـ مواتية ، الأحزاب والمنظمات الاشتراكية تخلصت من عار الديكتاتورية والشمولية ، الذي لحق بها ، وتعالت موجات الديمقراطية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان ، التي كان لابد أن تمتد إلى المنطقة العربية ، شعوبها ودولها ، ومصر في مقدمة هذه الدول والشعوب ، والرأسمالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ، غيرت إستراتجيتها ، رفعت يدها عن الحكام ـ عملائها ـ الطغاة ، تتجه صوب دولا ليبرالية ، لا تناصب الرأسمالية ونمط إنتاجها العداء , تتجاوز التخلف والإرهاب ، دون أن تتخطاه إلى الاشتراكية ، والثورة المصرية مازالت ثورة ديمقراطية ، تحاول تحرير المواطن والدولة ، وكانت وثيقة الشرق الأوسط الكبير إشارة لتغيير الإستراتجية الأمريكية ، بعد أحداث سبتمبر واحتلال العراق ، ففي مارس 2003 زحفت الجيوش والبوارج والطائرات الأمريكية ، خارج الشرعية الدولية ، لاحتلال العراق وتغيير نظام الطاغية ، صدام حسين ، لتدشين إستراتيجية التفكيك والتفتيت بين سنة وشيعة وأكراد ، ورسم خريطة المنطقة العربية ، وإعادة هيكلتها ، وفق خريطة جديدة ، تلبي مصالح الإمبراطورية الأمريكية ، ونشرت على الملأ 13 فبراير 2004 وثيقة الشرق الأوسط الكبير ، التي ركزت على قضايا الحرمان في البلاد العربية : الحرية والمعرفة ، الفقر والتعلم ، وتدهور التنمية البشرية ، وعدم تمكين النساء ، ومارست إدارة بوش الابن ضغوطا شديدة على الحكام والحكومات العربية ، لتتيح للشعوب حقوقا ديمقراطية : حق الاختلاف وتكوين الأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني ، حق الاعتصام والتظاهر والإضراب والمسيرات السلمية ، حق المعرفة والتعبير والنشر وتداول السلطة ، وتنفس الحكام العرب الصعداء لما هوى الحزب الجمهوري وصقوره ، وصعود باراك أوباما الديمقراطي الملون رئيسا للإدارة الأمريكية ، وظنوا أو تسلل إليهم يقين ، أن الضغوط الأمريكية صارت بعيدة , والتغيير لم يعد وشيكا ، وأنهم صاروا بمنأى ومأمن من رياح الديمقراطية ، وكان هذا وهما زينه لهم الغباء السياسي ، فالإستراتيجية الأمريكية لا تتغير بتغير الرؤساء ، والغضب من الاستبداد والنهب والتفاوت والحرمان كامن في صدور شعوب المنطقة العربية ، وجاءت الإشارة أو البشارة من تونس ، التي فاجأت الشعوب وحكام المنطقة العربية ، بثورة أطاحت زين العابدين بن على من السلطة ، وأجبرته على الفرار بليل كلص من تونس ، ولم يكن مشهد استفتاء السودان ، لتقسيمه شمالا وجنوبا ، وللتصويت على حصول الجنوبيين على حق تقرير المصير دالا ومعبرا ، بعيدا عن ما هو قادم ، وما ستقبل عليه المنطقة ، لمن يجيد القراءة ، أو يرهف السمع لأنين الشعوب ، أو يحسن الإصغاء لمواجعها وأمانيها ، لما يثيره في نفوس ويلهم الشعوب المجاورة ، وهي ترى بأم عينها ، جماعات أدنى حضاريا واجتماعيا ، تنجز حق تقرير مستقبلها ومصيرها : استقلال على الأرض ، وديمقراطية في استفتاء ، لم تشهد له المنطقة مثيلا من قبل ، حرية في تسجيل الجنوبيين ، تمكين للجاليات من التصويت ، تصويت على بضعة أيام لتمكين المواطنين ـ كل المواطنين ـ من المشاركة والتصويت ، وقد آثار هذا المشهد ، ألهم خيال الشعوب ، وأجج رغبتها في الحرية والكرامة الإنسانية ، ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان ، وللحرية ثمن تدفعه الشعوب ، وقد دفعه الجنوبيين ، فنالوا حريتهم وكرامتهم .
وقامت تونس ، انتفض شعبها وثار ، ينفض تراب الاستبداد والقمع والتفاوت ، تلتها مصر ، الذي أسف شعبها وقواه الحية ، شبابها ، مفكريها ، سياسيها ، شيوخها ، ونساؤها ، على فقدان المبادرة ، فخرجت جماعة من شبابه ، تتظاهر وتدق أجراس الثورة ، وتدافعت الجماهير المصرية ، في القاهرة والسويس والإسكندرية ومحافظات الدلتا والصعيد شمال البلاد وجنوبها ، شرقها وغربها ، ملايين من المصريين وراء ملايين ، موجات وراء موجات ، في الميادين تتظاهر وتعتصم لتسقط النظام ، وترد جحافل من بلطجية وخيالة العصور الوسطى ، وتنظم المليونية تتلوها مليونية ، حتى سقط رأس النظام ، الطاغية حسني مبارك ، وقد بدأت لحظتها الثورة ، لتقتلع النظام من جذوره ، وهي الآن مازالت في الطريق تستكمل مهمتها ، وتقاوم محاولات الالتفاف والثورة المضادة .
المخاطر والتهديدات :
1 ـ ثورة 25 يناير هي الحلقة الخامسة في ثورة مصر الوطنية الديمقراطية ، وبناء دولتها الحديثة ، الدولة القومية ، التي بدأت أولى خطوات استقلالها مع محمد على ، بتحرير مصر من الغزاة ، بالخروج على الخلافة العثمانية ، بالخروج من الدولة الثيوقراطية ، الدولة الدينية ـ المملوكية العثمانلية ـ التي حكمت مصر قرونا وقرون ، انحطت فيها البلاد ، وهوت إلى الحضيض ، جرفت خبراتها ونهبت ثرواتها ، مرورا بالثورات المصرية الكبرى : الثورة العرابية ، ثورة 1919 ، ثورة يوليو 1952 ، وليس من المجازفة القول : أن الجيش لعب دورا رئيسيا في الثورة العرابية التي هزمت بالاحتلال البريطاني ، وثورة يوليو التي أنتجت نظاما معاديا للاستعمار ، لكنه شموليا استبداديا ، وهزمت هي أيضا بالاحتلال الصهيوني يونيو 67 والتبعية للولايات المتحدة الأمريكية ، بينما كانت ثورة 1919 مدنية خالصة ، أنتجت نظاما ملكيا دستوريا شبه ليبراليا ، وتقف الآن ثورة 25 يناير في مفترق طرق ، طريق الدولة المدنية شبه العسكرية ، وطريق الدولة الدينية الثيوقراطية ، وطريق الدولة العسكرية شبه المدنية ، وهنا نطرح سؤالا عن ماهية القوى الاجتماعية والسياسية المكونة لجسم الثورة :
لقد أشعل شباب الأمة المصرية ، المنحدر من الطبقة الوسطي ، ومن القوى السياسية اليسارية والليبرالية ، فتيل الثورة يوم 25 يناير ، باستخدام أدوات الاتصال العصرية ، النت والهواتف المحمولة ، وحرب الشوارع التي يمتلك اليسار المصري خبراتها وناصيتها ، وغابت رسميا عن مشهد وتضحيات الثورة جماعة الإخوان المسلمين حتى لاح انتصار الثورة ، جمعة الغضب ، فالتحقت بالثورة ، وأبلت مع غيرها من القوى اليسارية والليبرالية بلاء حسنا الأربعاء الدامي ، بينما وقفت جماعات السلفيين وأنصار السنة موقفا مناوئا للثورة ، وحرمت الخروج على الحاكم ، حتى رحل مبارك ، أتت تهرول ، لتجني ثمارا لم يزرعوها ، ولتلقط غنائم لم يثوروا من أجلها ، هم يحاولون أخذ ما ليس لهم ، إما الجيش فقد جاء بقرار من حسني مبارك السادسة مساء جمعة الغضب ، وكان ميدان التحرير يمتلئ بملايين من الشعب المصري ، فرفض قمع الثورة ، وأعلن تأييده للمطالب المشروعة والعادلة للثورة ، وتعالت هتافات الجماهير : الشعب والجيش ايد واحدة ، مدنية .. مدنية .
مدنية .. مدنية ، شعار مدهش تردد وساد الميدان ، وما كانت القوى الشمولية ـ العسكرتاريا وشيوخ الإخوان ـ قادرة على ترديد غير هذا الهتاف ، لكنها ظلت كامنة ومتربصة حتى تنحى مبارك ، تحت ضغط الثورة ، وبدأ يلوح في الأفق تحالف بين المؤسسة العسكرية والإخوان المسلمين ، تجلى في اختيار المجلس العسكري الأعلى لجنة تعديل الدستور ، التي لم تضم من القوى السياسية أو من شباب الثورة إلا عناصر من الإخوان المسلمين ، وترسخ هذا التحالف يوم استفتاء 19 مارس بين المجلس الأعلى والإخوان والسلفيين ، وتنادوا بشعارات طائفية ، أحالت الاستفتاء على الدستور إلى استفتاء على الدين ، والطائفية في تقديري الخطر الأول على الثورة ، وكعب أخيل الذي تحاول الثورة المضادة النفاذ من خلاله ، فلن تستسلم القوى الشمولية بسهولة ، للدولة المدنية والجمهورية البرلمانية .
2 ـ لا حرية لجائع ولا كرامة لمحروم ، وقد انتفض المصريون وثاروا ، لاستعادة كرامتهم المهدرة ، واسترداد حريتهم المسلوبة ، وامتلاك الحرية والكرامة الإنسانية طريقه العمل ، العمل المنتج المبدع الخلاق ، والأزمة في مصر ، هي أزمة سوق العمل ، البطالة وسوء توزيع العمل والدخل ، وعندما نتحدث عن إعادة توزيع الثروة ، فنحن نتحدث عن إعادة توزيع العمل المنتج للثروة ، لا عن الأموال الطائلة التي نهبتها وما تزال الرأسمالية الريعية والكومبرادورية فقط ، بل وبالأساس عن إعادة التشغيل ، لينال كل واطن مصري قادر على العمل نصيبه في التشغيل ، وحتى هذه اللحظة لم تمتد يد الثورة إلى إعادة تقسيم الثروة ، أي إعادة تقسيم العمل ، بل على العكس نرى تناقضا في الحديث المبالغ فيه عن الاستقرار ، وارتفاع أسعار السلع والخدمات ، وعدم مد يد العون حتى لقوة العمل التي يستخدمها بعض الحكام العرب الطغاة المستبدين دروعا بشرية ، في الحرب التي يشنوها على شعوبهم " ليبيا والعقيد نموذجا " وما زلنا نهدر قوة العمل في السوق المحلي ، وسلعتنا الإستراتيجية التي نصدرها بلا تنظيم ، بلا حماية ، وتشكل موردا أساسيا من موارد دخلنا القومي ، والتباطؤ في إعادة التوظيف ، والتأخر في إصدار هيكل جديد للأجور والدخول ، وغض الطرف عن حماية عمالنا في الخارج ، هذه ملامح قد تشكل ثقبا آخر تنفذ منه الثورة المضادة ، التي تحاول إنتاج النظام الساقط بآلياته وانحيازاته ، أو إعادته إلى نظم وكهوف القرون الوسطى ، التي ضللت بالدين في التصويت على التعديلات الدستورية ، وهدمت الأضرحة والمزارات الدينية ، وقطعت الأذن ، وتقطع الطرق .
الدستور والأجور :
أول خطوة في بناء النظام الجديد ، هي إعادة توزيع السلطة والثروة والمعرفة ، عبر برنامج يلبي أماني وطموحات الشعب المصري في التنمية ، التنمية البشرية المستدامة ، السياسية والاقتصادية والثقافية ، من خلال صياغة دستور جديد ، دستور يقوم على المواطنة والحريات والتعددية الحزبية ، بما فيها حزب الطبقة العاملة ، ويقر حق التباين والاختلاف والتعبير والنشر والاحتجاج ، حق الإضراب والاعتصام والتظاهر السلمي ، دستور عصري لدولة مدنية وجمهورية برلمانية ، عقد اجتماعي ينهض على المساواة والحقوق ، وبرامج تعلي من شأن القوى المنتجة الحديثة ، التكنولوجية والعمالية والفلاحية ، وتسعي لدمج القوى الاجتماعية المهمشة ، الأكثر فقرا وحرمانا ، في المتن الاجتماعي ، بصياغة هيكل للأجور والدخول ، بصياغة منظومة تعليمية وصحية وثقافية وخدمية ، لتضييق الفجوة بين المدينة وأحزمة الفقر ، بين المدينة والريف ، بين الأغنياء والفقراء ، بين العمل الذهني والعضلي .
إن ثورة 25 يناير تخوض طرقا وعرة ، محاطة بالأعداء والخصوم المحليين والإقليميين والدوليين ، لتستكمل مصر مهام تحررها ، التحرر من الغـزاة والطغاة ، من النهب والفساد والاستغلال ، من الرأسمالية الريعية والكومبرادورية ، من الملوك والأمراء وبقايا الحكام العرب ، ولتستكمل مصر بناء الدولة الديمقراطية ، دولة القانون والعدل والإخاء والمساواة وتكافؤ الفرص ، دولة التعددية وحق الاختلاف والتعبير والتنظيم والنشر ، وقد تحررت عبر ثورتها المتعددة الحلقات ، من الاستعمار العثماني المملوكي ، ثم من الاستعمار العثماني البريطاني المشترك ، لتقع فريسة للاحتلال البريطاني الذي أجلته ثورة يوليو ، ومن بعده الاحتلال الصهيوني ، لقد حررت مصر أراضيها من الغزاة ، لكنها وقعت في براثن نخبة عسكرية وبيروقراطية ، طغاة مستبدين وفاسدين ، حولوا الفساد إلى منظومة مجتمعية ، سادت الرشوة والمحسوبية والواسطة ، وها هي مصر تعاني آلام الانتقال إلى الثورة الديمقراطية ، ثورة تحرير الدولة والمواطن ، تحرير الدولة من الطغيان والديكتاتورية والأحادية والتبعية ، وتحرير المواطن من الفقر والتفاوت والتهميش والحرمان والجهل والمرض والاستعباد ، وتحاول هذه الورقة رسم خارطة طريق ، لتجنب محاولات الثورة المضادة ، والالتفاف على الثورة ، أو خطفها ، ولسرعة انجاز مرحلة الانتقال :
ـ تشكيل هيئة تأسيسية من هيئات ومنظمات المجتمع .
ـ تصوغ الهيئة التأسيسية دستورا لدولة مدنية وجمهورية ديمقراطية .
ـ انتخاب رئيسا للجمهورية ونواب البرلمان فور الاستفتاء على الدستور .
على أن نبدأ بصياغة هيكل جديد للأجور والدخول :
ـ تشكيل مجلس قومي لربط الأجور والدخول بالأسعار .
ـ وضع حد أدنى وأقصى للأجور والدخول ، يكفل حياة كريمة للمواطنين ، ويضيق الفجوة بين الهيئات الاجتماعية والأفراد .
ـ تقديم إعانة بطالة للعاطل إلى أن يجد عملا أو توفر له الدولة عملا .
ـ تجريم التوظيف في أكثر من عمل ، وأكثر من ثماني ساعات .
ـ تنظيم الجاليات المصرية في سوق العمل العربي والدولي ، في مؤسسات وهيئات ، من خلال السفارات والقنصليات .
ـ توحيد المنظومة التعليمية والعلاجية ، للمساواة بين المواطنين .
هذا على مستوى البناء السياسي ، وعلى المستوى الاقتصادي ، يجب النظر إلى مصر كوحدة واحدة ، تمتلك النهر والبحر والصحراء ، تمتلك الأرض الزراعية وماء الصيد وصحراء التعدين ، لتخرج مصر من الوادي الضيق ، لتتوسع التنمية شرقا في سيناء والصحراء الشرقية ، لتتوسع التنمية غربا في الصحراء الغربية ، لننشأ أسطولا بحريا سلميا للصيد والصناعات البحرية ، فالماء أغنى من اليابس .
حينذاك أعتقد أن الثورة المصرية تكون قد وضعت أقدامها على طريق التقدم والحرية والمساواة وتكافؤ الفرص وأقامت دولة المواطنة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استمرار البحث عن مروحية كانت تقل الرئيس الإيراني ووزير الخار


.. لقطات تحولت ا?لى ترندات مع بدر صالح ????




.. التلفزيون الرسمي الإيراني يعلن هبوط مروحية كانت تقل الرئيس ا


.. غانتس لنتنياهو: إذا اخترت المصلحة الشخصية في الحرب فسنستقيل




.. شاهد| فرق الإنقاذ تبحث عن طائرة الرئيس الإيراني